ترسيم اللغة الأمازيغية: السياق والأسباب تحظى الأمازيغية لغة ثقافة وهوية بقسط كبير من الاهتمام في النقاش السياسي والدستوري الذي أطلقته دينامية حركة عشرين فبراير والخطاب الملكي ليوم 9 مارس 2011. غير أن هذا النقاش ليس وليد اليوم، فكما أن الحراك والنقاش الدستوريين ليسا وليدا السياق الحالي بل هما نتاج تراكم يمتد بجذوره إلى السنوات الأولى للاستقلال وخصوصا بداية الستينيات، فإن المطالب المرتبطة بالملف الأمازيغي هي الأخرى نتاج حراك مدني وسياسي أعلن عن نفسه بشكل صريح وواعٍ بذاته نهاية الستينات لينضج أكثر مع ميثاق أكادير سنة 1990، ويصل مستوى متقدم في تراكمه مع البيان بشأن الاعتراف بأمازيغية المغرب، الذي أطلق دينامية غير مسبوقة حول الحقوق اللغوية والثقافية والهوياتية الأمازيغية. لقد تميز السياق الذي تم فيه صياغة البيان بشأن الاعتراف بأمازيغية المغرب، بانتقال العرش من ملك، كانت له رؤيته الخاصة للدولة المركزية ولهوية المغرب وأسس الشرعية فيه، إلى ملك شاب يتوق إلى ممارسة الحكم بأسلوب جديد، مع ما يتطلبه ذلك من بحث عن عناصر أخرى للشرعية أكثر تجدرا في الوعي والوجدان والتاريخ، ومنسجمة مع متطلبات التحديث وتحديات الانتقال إلى بناء أسس الدولة الديمقراطية، والوفاء بالالتزامات الوطنية والدولية للمغرب في مجال حقوق الأفراد والجماعات. إن تفاعل الملك محمد السادس مع بعض مطالب الحركة الأمازيغية سنة 2001، ساهم في إعطاء الملف الأمازيغي زخما جديدا، تمثل في الانتقال بالنقاش حول قضايا الأمازيغية من الهامش إلى داخل مؤسسات الدولة، كما يعتبر الخطاب الملكي بأجدير يوم 17 أكتوبر 2001، بمثابة اعتراف من الدولة بالأضرار الجسيمة التي لحقت الأمازيغية بشكل خاص وهوية وثقافة والتراث المادي واللامادي للمغاربة بشكل عام. كما اعتبر ذلك الخطاب التاريخي بمثابة خارطة طريق لتدبير الدولة للشأن الأمازيغي، مع ما يعنيه ذلك من التزامات تضمنها الخطاب والظهير الملكي المؤسس للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. اليوم المغرب والمغاربة على مشارف انتهاء عقد كامل على خطاب أجدير وعلى المسلسل الوطني حول الأمازيغية الذي تميز خصوصا بأوراش إدماج الأمازيغية في منظومتي التعليم والإعلام، إضافة إلى تأهيل اللغة الأمازيغية. عقد كامل يفرض على الدولة والتنظيمات المدنية والسياسية وكل المعنيين طرح سؤال الحصيلة. هل نجحت الدولة في تصريف خطة الطريق التي أعلن عنها في خطاب 17 أكتوبر 2001؟ هل تم الوفاء بتعهدات الدولة وتم جبر الأضرار التي تم الاعتراف بها سنة 2001؟ هل نجح إدماج الأمازيغية في منظومتي التعليم والإعلام؟ هل تم تأهيل اللغة الأمازيغية؟. إن الإجابة على سؤال الحصيلة، بحاجة إلى مجهود جماعي يقوم بع جميع المتدخلين في الملف وإلى نقاش صريح بينهم، حتى تتم الإحاطة بكل جوانب الحصيلة وتستخلص الدروس لتصحيح الأخطاء وإعادة النظر في السياسات وفي المسلسل برمته إن اقتضى الأمر ذلك. غير أن انتظار جلوس كافة المعنيين بالملف الأمازيغي، سواء الحكوميين والمدنيين والسياسيين، حول طاولة واحدة لنقاش الحصيلة، لن يحول دوننا وتقديم الملاحظات الأولية حولها والتي يتفق حولها (الملاحظات) الجميع ويختلفون في قراءتهم لها. يتفق الجميع على أن إدماج اللغة الأمازيغية في التعليم لم يحقق الحد من الأهداف التي اتفقت حولها وزارة التربية الوطنية والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ويختلف الجميع في تقييم المعطى، بين أصحاب نظرية الفشل بسبب غياب الإرادة السياسية، وأصحاب نظرية الإفشال بسبب جيوب مقاومة إنصاف الأمازيغية والمنتشرة في دواليب المؤسسات الرسمية. يتفق الجميع على أن القناة التلفزية الأمازيغية، بإمكانياتها المحدودة جدا، مكسب استراتيجي لدمقرطة الإعلام بالمغرب، لكن نجاحاتها النسبية غير كافية لإدماج حقيقي منصف للأمازيغية في المنظومة الإعلامية، خصوصا وأن القنوات التلفزية والإذاعية الأخرى لا تحترم دفتر التحملات ولا تتقيد باحترام التعددية في برامجها. يتفق الجميع على أن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية والأكاديميين والتنظيمات المدنية نجحوا في تأهيل اللغة الأمازيغية، ويكفي للاستدلال على ذلك مقارنة ما تمت مراكمته من أبحاث وإنتاجات وخبرات في ميادين معيرة اللغة وغيرها، مع ما كانت عليه الوضعية سنة 2001. نحن إذن أمام لغة أمازيغية تم تأهيلها، وإن كانت عملية التأهيل غير مرتبطة بزمان معين لأنها صيرورة ولأنه ليست هناك لغة وصلت الكمال، هذا التأهيل الذي يعتبر نقطة ضوء تنير مستقبل اللغة والثقافة الأمازيغية، في حاجة إلى ضمانات قانونية لتحصينه وتوظيفه. حينما نستوعب هذا السياق وهذه الحصيلة الأولية لعشر سنوات من تدبير الدولة للملف الأمازيغي على ضوء خطاب ملكي تضمن التزامات صريحة من الدولة، نفهم الأسباب التي جعلت التنظيمات الأمازيغية وشباب وحركة شباب عشرين فبراير وبعض الأحزاب السياسية يطالبون بتوفير الضمانات القانونية للغة الأمازيغية من خلال ترسيمها في الدستور كمدخل أساسي لإنصافها. لأنه تبين بأن الدولة فشلت في الوفاء بتعهداتها والتزاماتها بشأن الأمازيغية، ولأن المشجب الذي علق عليه الفشل هو الوضعية القانونية للغة. توضيح لمطالب الأمازيغ في الدستور تهدف المطالب الأمازيغية في الدستور إلى تحصين الأمازيغية هوية ولغة وثقافة والحفاظ عليها وضمان حمايتها القانونية وإشعاعها في المجتمع على كافة المستويات، ورغم أن هذه المطالب قد تمّ رفعها وتوضيحها من طرف الفاعلين الأمازيغيين على مدى عقود، إلا أنها ما زالت تتسم في أذهان الكثير من المواطنين وبعض الأطراف السياسية والمدنية الأخرى ببعض الغموض، مما يقتضي توضيحها في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ المغرب، سعيا إلى خلق الإجماع الوطني المطلوب حولها باعتبارها مطالب ديمقراطية لا تنفصل عن المشروع الديمقراطي الوطني. كما أنها جزء من الالتزامات التي تعهدت الدولة المغربية باحترامها في إطار تفاعلها مع المطالب الحقوقية داخليا ومع نداءات المنتظم الحقوقي الدولي. وفيما يلي هذه المطالب الأمازيغية مع التوضيح والتفسير: 1) التنصيص في ديباجة الدستور على هوية المغرب الأمازيغية، مما يسمح بإعادة تأسيس «الوطنية المغربية» من منظور تعدّدي ديمقراطي وتجاوز الطابع الإختزالي للهوية، وذلك لأنّ الأمازيغية قد ظلت على مدى آلاف السنين بمثابة الثابت الحضاري المميز لشمال إفريقيا والمغرب، ورغم اختفاء العديد من اللغات والثقافات والحضارات القديمة، إلا أن الأمازيغية ظلت متواجدة في تفاعل عميق مع مكونات حضارة البحر الأبيض المتوسط وإفريقيا، ولعبت في تاريخ المغرب دور العنصر التوليفي الجامع الذي صهر داخله مختلف المكونات الوافدة، مما يفسّر انطباعها بطابع أمازيغي خصوصي. 2) التنصيص على الانتماء الإفريقي للمغرب مع استبدال عبارة «المغرب العربي»، التي تتسم بالاختزالية والإقصاء، بعبارة «المغرب الكبير» أو «شمال إفريقيا»، وذلك لأنّ عبارة «المغرب العربي» كانت موضوع تحفظ رؤساء الدول المغاربية لأنها لا تضمّ كل المكونات الهوياتية للمغاربيين، باستثناء العقيد الليبي معمر القذافي -الذي كان يتبنى إيديولوجيا قومية عربية متطرفة- والذي هدّد بالانسحاب من مؤتمر القمّة المغاربية بمراكش في حالة ما إذا لم يتمّ الإحتفاظ بهذه العبارة، وقد أشار الملك الراحل الحسن الثاني إلى تحفظه على التسمية في خطاب رسمي موجه إلى الشعب المغربي آنذاك. 3) إعطاء اللغة الأمازيغية وضعية اللغة الرسمية بجانب العربية من أجل تحقيق المساواة والعدل بين كافة المغاربة، وتعدّ وضعية المساواة بين اللغتين الاختيار الوحيد الكفيل بضمان الحفاظ على الأمازيغية وصيانتها والنهوض بها وتهيئتها، حيث لا يضمن تمييزها بوضعية «اللغة الوطنية» أية إلزامية من الناحية القانونية داخل المؤسسات، إضافة إلى أنه سيعدّ مؤشرا لاستمرار الميز ضدّها على شتى المستويات، كما أن صفة اللغة الوطنية هي تحصيل حاصل بالنسبة للأمازيغية التي هي وطنية بحكم التاريخ والواقع والحضارة، ولا يتعدّى التنصيص عليها بهذه الصفة حدود الاعتراف الرمزي لا غير، الذي لا يسمح لها بممارسة العديد من الوظائف التي تستطيع القيام بها والإسهام في التنمية الوطنية. وفيما يخصّ تعددية اللغات الرسمية في الدستور الواحد، فثمة تجارب كثيرة لعدد كبير من البلدان الديمقراطية في العالم والتي تتبنى هذا النهج، ومن أبرزها سويسرا (4 لغات رسمية)، الهند (23 لغة)، كندا لغتان، بلجيكا (3 لغات)، جنوب إفريقيا (11 لغة) إلخ.. وهي التجارب التي غفل عنها المغاربة بسبب انغلاقهم في النموذج الفرنسي الاستيعابي، مما يحتّم الاقتداء بها ومعرفة كيفية تدبير التعددية اللغوية بأساليب ديمقراطية. ومعلوم أن اللغة الأمازيغية قد أدرجت في التعليم منذ 2003، وتتوفر الآن على معاجم عصرية وقواعد صرف ونحو موحّدة وعلى أنطولوجيا للآداب وكتب مدرسية وحوامل بيداغوجية وكل مقومات اللغة العصرية. ولم يعد هناك مجال لاعتبارها غير مهيأة لاعتراف دستوري كما يقول البعض من الذين لم يتابعوا مسلسل مأسسة الأمازيغية منذ عشر سنوات. 4) إقرار تقسيم جهوي يقوم على أساس الجهات التاريخية الكبرى (ست إلى سبع جهات)، ذات الشخصية الثقافية المنسجمة، ضمانا لشروط إنجاح مشاريع التنمية، وتفادي تشتيت الجهات المنسجمة لأسباب أمنية أو أية اعتبارات غير تنموية، كما هو مقترح في المشروع الذي تقدمت به لجنة الجهوية، والذي لم يأخذ بعين الاعتبار العوامل التاريخية والثقافية ذات الأهمية الكبرى في توفير اللحام السوسيوثقافي بين المواطنين داخل الجهة، مما يساهم في رفع إنتاجيتهم وتحقيق التواصل والتضامن فيما بينهم. من أجل إنصاف دائم وعادل وديمقراطي للأمازيغية في كل أبعادها لقد انتقلت حركة عشرين فبراير بالمطلب الدستوري الأمازيغي من مطلب عشرات الجمعيات والقلة من الأحزاب السياسية، إلى مطلب يهم شباب التغيير بالمغرب، وقد فهمت الكثير من الأحزاب السياسية رسالة الشباب فتقدمت الكثير منها في مقارباتهم لترسيم اللغة الأمازيغية، مقارنة بما كانت عليه مواقفها. إن الإنصاف الدائم والديمقراطي والعادل للأمازيغية بكل أبعادها، لا يمكن أن يكون ممكنا إلا في إطار مغرب ديمقراطي، تحاسب فيه الحكومة التي تمتلك السلطة التنفيذية، مغرب يتوفر على جهاز تشريعي يستمد شرعيته من الشعب صاحب السيادة، مغرب متعدد في ظل وحدته، يكون فيه للجهات حق تقرير مصيرها، بعيدا عن وصاية المركز. *الكاتب التنفيذي للمرصد الأمازيغي للحقوق والحريات