في منتصف دجنبر 1974 تهيأ علمان من الأدب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس وإرنستو ساباتو لمواجهة بعضهما البعض بعدعشرين عامًا من التباعد لأسباب سياسية، وجمعتهما بوينس آيرس على مدى ثلاثة أشهر في محاورات أدبية ونقدية رفيعة بعيدا عن التعارضات السياسية. وبمبادرة من الكاتب والصحافي أورلاندو بارون أدار سبع جلسات وكتب مقدماتها ومتونها وأصدرها في كتاب سنة 1976، وانتظر عشرين سنة أخرى ليعيد طبع الكتاب، والذي ترجمه مؤخرا إلى العربية الكاتب والمترجم المغربي أحمد الويزي تحت عنوان “خورخي لويس بورخيس إرنستو ساباتو محاورات بوينس آيريس” عن دار “شهريار” العراقية. ” .. من لم يحلم يجن .. هذا أعظم إبداع للأدب الفانتستيكي .. إن الأدب ليس أقل واقعية مما يسمى الواقع .. الرب كينونة في طور الانجاز .. “ هذه إحدى الهزات الارتدادية العديدة التي احتفت بها المحاورات السبع التي اندلعت بين الرجلين العظيمين، من خلالها تبادلا رؤى عوالمهما وأكوانهما التخيلية بشأن مواضيع شائكة وبحمولات عميقة لا تنسى، وهاجعة في الأدب العالمي والتراث الإنساني عامة، ومست موضوعات مثل الربوبية، الصحافة، المسرح والسينما، القصة والرواية ، التانغو، الترجمة، الابداع، الأحلام، اللغة، وتكييف الأعمال الأدبية .. وبقدر ما كانت المقابلات مفعمة بالعمق وطاقة حضورهما المتموجة، كادت الرسائل المشفرة تعصف بهما لولا ركونهما الى الصمت أو الخلود الى لغة الاشارات الجسدية حيث الشروع في الانتظار، فيما كان بارون الصحفي المنشط يلجأ لوضع المراقب المعجب أو يضطر أحيانا الى تغيير وجهات النقاش، فيما الجوانب السياسية عادة ما كانت لتدخل من النافذة أو تتسلل من تحت دفة الباب، في الوقت الذي لا ننتظر فيه عودتها أبدا كما قال ساباتو. “أعتقد أنه إذاواصلن االتحدث، فسنتفق على أشياء كثيرة.. يا له من خطر نركض! (يضحك) ساباتو”، وعلى امتداد يوميات المحاورات يتلاقى الأديبين في زوايا نظر فيما يتغايران خفية أوعلنا. وكما أوقع بورخيس نفسه في عدم درايته بالموسيقى قائلا: “أنا لا أعرف أي شيء في الموسيقى، لكني أحب كثيرا موسيقى تروالوTroilo “، ” أنا لم أقرأ أبدا ولو صحيفة واحدة، مثلما أوصى إيميرسن “، ” إني أومن بأن اللاهوت سوى أدب فانتاستيكي، إنه في غاية الكمال والإتقان كجنس أدبي”، ” الإبداع لحظة ارتياح وعزاء، لأنه يساعدني على نسيان ذاتي، والانزياح عن الوقائع الراهنة “، الى غيرذلك من حدود لوائح الاختلافات القائمة بينه وبين ساباتو الذي بدوره يبدو فنانا داريا بفن الموسيقى والايقاع، ومتابعا للخبر اليومي وإن مآله الذهاب مع الريح خصوصا وأن اهتماماته الجمعوية ارتبطت بالمطالبة بحقوق الانسانية، وبالرغم أن بعده الأنطولوجي ساخر من الآلهة، فقد كان باستمرار يعقب على بورخيس شاهدا:” إن منطقنا غير مفيد في التعامل مع اللامتناهي “، خصوصا وأن لكل أناه الذي يرى بها ومن خلالها الواقع، ويعيد به خلق ما يراه، كما أن خطوات الابداع وعملية الكتابة عند ساباتو هي لحظة انفطار وتمزق تغمرها عتمات حدس شديد من بدايات الى نهايات الكتابة مرور بمشمولاتها الوسطية… وإلى ذلك يبين ساباتو عن عالمه الهش في بعض المواضيع والمقولات المتداولة مع غريمه بورخيس الهش أيضا، ومخاطبا إياه: ” إن عالمك يا بورخيس هش مثل عالمي أنا، وعارض”. إن هشاشة القطبين الأرجنتينيين تتطابق في العديد من الأوجه، انطلاقا من طفولتهما المنذورة للقراءة والكتابة، فكلاهما عاشا كطفلين حبيسي البيوت، حيث أصبح بورخيس كاتبا بقرار من والده الذي أفهمه بأن على بورخيس أن يصير الكاتب الذي لم يستطع أن يكونه الأب، فيما ساباتو كان ممنوعا من الاحتكاك بالشارع، وقضى طفولته شبه منزو، ومقيد بحبل تمسك به أمه، “هذه المرأة التي كانت قوية وذكية بشكل خارق “، ويضيف ساباتو موضحا: ” دفعتني تلك العزلة، الى جانب خجلي، الى الانغماس في القراءة. كنت ألتهم كل شيء، ولم يكن هناك أي أحد من شأنه أن يوجهني الى ما ينبغي أن أقرأه”. وتجاوز الرجلان المشترك الاجتماعي القائم بينهما الى بعده الأدبي والنقدي وكذا الأنطولوجي والجمالي في خفضهما الأهمية عن النزعة التنويرية والعقلانية واعتبار أوليات الانسان وجدانية وليست عقلانية، وأن تعبيره الأصيل مشاعري وليس منطقيا، تعبير فنان وليس تعبير فيلسوف، هذا إضافة الى توافقهما في العديد من المباحث المكرسة لتشويهات النصوص عند الترجمة وتحمل القواميس أخطاءها بإيهام فيض المترادفات والمعادلات، وانحياز دور النشر الى الكاتب المكرس، وظاهرة عدد الكتاب الذي يفوق عدد القراء، ودفاعهما عن فكرة تبني الأساليب غير المنمقة ولا المزخرفة، وعدم الفصل بين الشكل والمضمون في علاقة السينما بالكتابة البصرية للكلمات والعبارات، وأن المسرح ما وجد الا للفرجة والمشاهدة لا ليقرأ، وأن اللغات المختلف لشعوب العالم لا تفاضل بينها، اذ لكل منها عيوب وحسنات، كما أن كل اجتماع إنساني قادر على خلق ما هو بحاجته الى التعبير من مفردات وألفاظ واقعه المعيش، وأن الموت أعدل قسمة بين الناس أجمعين، إذ هم ليسوا سوى مجرد محكومين بالإعدام، وكائنات تنتظر أن تتحول الى جثث على حد تعبير إرنستو ساباتو.