كان المطرب المغربي عبد الهادي بلخياط في الثانية والعشرين من عمره، عندما غنى «القمر الأحمر» عام 1962، هذا العمل الفني الذي بلغ حد الكمال، شعراً ولحناً وطرباً، فما يدور بين موسيقى عبد السلام عامر، وقصيدة عبد الرفيع الجواهري وغناء بلخياط، ما هو إلا منافسة جمالية كبرى، وتخليد تلك اللحظات النادرة في حياة الفنان المبدع، الذي يدرك هو قبل غيره، أنها لا تتكرر كثيراً، فعندما يبلغ الجمال ذروته، وينطلق الخيال متحرراً نحو أقصى مدى، ماذا يمكن أن يكون بعد ذلك؟ والمدهش أن بلخياط عرف هذه اللحظات مبكراً في بداية مسيرته الفنية، ثم ملأ الدنيا بعدها بأجمل الموسيقى والطرب، لكن لا شك في أن أغنية «القمر الأحمر» ظلت هي تلك القطعة الفنية المتميزة والمتفردة والأثيرة، لدى عشاقه من المستمعين، كمثيلاتها من القطع الفنية الثمينة القليلة، التي نستطيع أن نعدها ونحصيها لدى كل مبدع من عظماء الفنانين حول العالم. لم يكن بلخياط الشاب الوحيد آنذاك، فقد كان كل من الشاعر والملحن أيضاً في بداية العشرينيات من العمر، وإذا كنا لا نعرف شيئاً عن الموسيقار العبقري عبد السلام عامر، سوى القليل من المعلومات عن حياة قصيرة معذبة، وحظ عاثر وظروف غير جيدة، وقدر لم يكن متمهلاً، أمات معه الكثير من الموسيقى والألحان الرائعة التي لن نستمع إليها أبداً، فإن أغنية «القمر الأحمر» تخبرنا وتروي لنا الكثير عن موسيقاه، وموهبته الفطرية، وقدراته التعبيرية وإمكانياته الجمالية، ورؤيته الفنية، وتصوراته حول الشكل الموسيقي للأغنية المغربية، وتجعلنا نغمض أعيننا لنرى الطبيعة، كما كان يراها بروحه، بعد أن حرمته الأقدار من نعمة البصر، ونتبعه ليرينا بموسيقاه جمال الطبيعة، وقد انكشفت جميع محاسنها، فنبصر بأرواحنا أقماراً وجبالاً وأنهاراً وسفوحاً ومروجاً وربوات، ذلك أن الصورة الشعرية في أغنية «القمر الأحمر» لا ترتسم بالكلمات وحسب، لكنها ترتسم أساساً بالموسيقى، التي تصحبنا بطبيعة الحال من بداية الأغنية حتى نهايتها، فهي الثابت المستمر الذي لا يتوقف، بينما تسكت الكلمة ويصمت الغناء أحياناً، ويتولى عبد السلام عامر طوال الوقت مسؤولية مخيلتنا وإحساسنا، إذ يأسرهما منذ البداية بمقدمته الموسيقية، ومرافقته للنص الغنائي، وتعبيره الموسيقي عن المعاني والأخيلة والأفكار، في قصيدة تجسد أروع لحظات سكون النفس إلى الطبيعة، والامتزاج الوجداني بها، وصولاً إلى أعلى درجات الكشف الجمالي. أغنية «القمر الأحمر» تخبرنا وتروي لنا الكثير عن موسيقاه، وموهبته الفطرية، وقدراته التعبيرية وإمكانياته الجمالية، ورؤيته الفنية، وتصوراته حول الشكل الموسيقي للأغنية المغربية، وتجعلنا نغمض أعيننا لنرى الطبيعة. في هذه الأغنية التي احتفظت في داخلها بروح الإبداع الشابة رغم كلاسيكيتها حالياً، لا وجود لذلك الملل القاتل الذي تصيبنا به بعض القصائد العربية المغناة في حقبة الستينيات، وتخلو مما كان يمارسه بعض ملحني القصائد من تعمد التزين والتأنق الزائد، والاستعراض الموسيقي الخانق، الذي يصل إلى حد العجرفة، وهذا يعلي كثيراً من قيمة الموسيقى، ويجعلنا نشعر بأن كل هذا الجمال طبيعي غير مصطنع، وأن القليل من جنون التجريب يؤدي إلى المزيد من الإتقان أحياناً، ولا يعود طول الأغنية إلى المط وكثرة الإعادة والترديد، وإنما للثراء والتجدد، الذي لا يخلو من بعض المفاجآت، ويشعر المستمع بأنها أغنية مركزة ومختصرة، يرغب في الاستماع إليها مرات ومرات، بصوت هادئ خفيض يبدأ بلخياط الغناء، مردداً «خجولاً أطل وراء الجبال» فيدخلنا في خيال خاص ويجذبنا سمعياً وبصرياً إلى ملامحه وتفاصيله الدقيقة، ومع بداية البيت الثاني من القصيدة «ورقراق ذاك العظيم / على شاطئيه ارتمى اللحن والمزهر» يعلو بلخياط ويتمكن، ويكشف عن قدرات صوته، وإلى أي مدى يستطيع أن يصل ويطال النوتات المرتفعة بسهولة في أدائه لكلمة «رقراق»، ثم العودة إلى التطريب وتمويج الصوت بعذوبة وانسيابية ممتعة في «على شاطئيه ارتمى اللحن والمزهر»، هنا يكون الغناء عن نهر أبي رقراق، الذي يجري في قلب الرباط، وينساب هادئاً وديعاً مترقرقاً، بعيداً عن صخب المحيط الهادر المخيف الذي لا يستطيع مواجهته سوى أصحاب النفوس القوية، وهنا أيضاً يحلو الغناء، وهل هناك أجمل من الغناء عن الأنهار؟ ينتقل الغناء بعد ذلك إلى مرحلة أعمق وأكثر جدية، وبصوت شديد الوقار، يغني بلخياط هذا المقطع الرائع: «خشوعاً أطل كطيف نبي، وفي السفح أغنية تزهر، توقعها رعشات الغصون، يصلي لها ليلنا الأسمر»، تُظهر الأغنية جمال هذا الصوت الكبير الذي يختزن في نبراته تاريخاً طويلاً من الغناء الثري المتنوع، وقد امتزج بروحه تماماً، وانطبع على غنائه تلقائياً بلا ادعاء أو استعراض للثقافة الموسيقية، ويعرف بلخياط جيداً كيف ومتى وبأي قدر سيمنح الغناء لمحة من ذلك المخزون، فهو حين يموج صوته بطريقة معينة، أو عندما يأتي بنغمة صوتية ما، تمتد للحظات قليلة، ندرك أن وراء ذلك تراثاً عريقاً، وبشكل عام يتسم أسلوبه في الغناء بوضوح اللفظ وقوته وحلاوته، والقدرة على خلق التناغم بين كل ما يجيده من تنويع وتلوين، والحق أن المطرب المغربي حين يكون مطرباً بالفعل، وفناناً حقيقياً بمعنى الكلمة، لا يدعي الفن ولا يتخذ من الغناء مجرد مهنة، نكون أمام مطرب يمتلك قدرات مضاعفة في كل شيء، ولنا أن نتخيل المساحة الفنية الشاسعة، التي يستطيع أن يشغلها. هذا الصوت الكبير الذي يختزن في نبراته تاريخاً طويلاً من الغناء الثري المتنوع، وقد امتزج بروحه تماماً، وانطبع على غنائه تلقائياً بلا ادعاء أو استعراض للثقافة الموسيقية. فالمطرب المغربي يمكنه بسهولة امتلاك اللسان المشرقي، وأداء ألوان الغناء الخاصة بالمشرق العربي، بينما لا يحدث العكس، هذا بالإضافة إلى امتلاكه لأسرار الغناء المغربي الثري والمتنوع في الأساس، والممتد تاريخياً نحو أزمنة بعيدة، وتتميز أغنية «القمر الأحمر» بالروح المغربية الخالصة، والقدرة على تقديم الهوية البارزة بشكل طبيعي حر غير متكلف، بدون الحاجة إلى الاعتماد على شكل تراثي معين، والانطلاق نحو الأشمل والأعم، الذي يحتوي في داخله على كل شيء، ويقدمه على أحسن ما يكون، ويظهر الأسلوب المغربي في العزف على الكمان والعود والقانون، وتحديداً التقسيمات على هذه الوتريات، بالإضافة إلى مهارة عبد السلام عامر في تسليم اللحن من آلة إلى أخرى، وحسن اختيارها وبراعة إظهار كل منها فردياً، وقوة التنفيذ الأوركسترالي، والشكل السيمفوني في بعض المقاطع، والابتكارية في الميلودي والثيمات وأصالة الإيقاعات، والتسلسل الهارموني النقي والانتقالات النغمية، ومهارة صياغة العبارات الموسيقية والصور الصوتية، وكأن الملحن يؤلف قصيدته الخاصة بالنغم، وكان جميلاً استخدام بعض المؤثرات الصوتية، من أجل محاكاة الطبيعة، والإيحاء بسماع صوت موجات النهر، ودمجه بالصوت الأنثوي، حيث نستمع إلى فتاة تدندن وتهمهم، وكأنها تداعب المياه وتمرح وتدور وتتمايل في خلوتها على شاطئ النهر، ثم نتعرف على هذا الصوت الناعم الجميل للمطربة بهيجة إدريس في الجزء الأخير من الأغنية، عندما تغني مقطعاً قصيراً، وتطرح الأسئلة بنفسها بعد أن يغني بلخياط «تسائلني حلوة اللفتات ومن شفتيها الشذى يقطر». وفي منتصف الأغنية وعندما نصل إلى الجزء الذي يغني فيه «على الربوات استهام العبير، تعرى الجمال شدا الوتر» تكون الموسيقى قد فرضت سلطانها علينا تماماً، ويتسلطن بلخياط أيضاً، ويغني نشوان بنفس طويل وحس نقي ونبرات لامعة، ونشعر بأنه يصعد بقلوبنا لا بالأوكتافات عندما يغني «استهام العبير»، وقبل أن نفيق من تأثيره، نجد أنفسنا أمام ما فعله الملحن العبقري من فصل بين «تعرى الجمال» و«شدا الوتر» هذا التشويق الموسيقي البديع، أو الرد الموسيقي على انكشاف الجمال، والجمال لا يكشف عن أسراره إلا أمام من يحس به ويفهمه ويتعاطف معه، موسيقياً قد يكون هذا المقطع هو الأكثر تعقيداً، لكنه الأكثر جمالاً وفتنة، نود لو نظل نستمع إليه إلى ما لا نهاية.