يعرض الفنان التشكيلي محمد أرجدال مجموعة من أعماله التشكيلية التي تؤرِّخ لعقد كامل من الإبداع، وذلك بالراواق الفني Comptoir des mines في مراكش طيلة الفترة الممتدة بين 28 دجنبر و31 يناير 2020. يتضمَّن المعرض المعنون ب”كل الاتجاهات” إبداعات فنية متنوِّعة حشد في مجملها خلاصة عقد كامل من الإبداع التشكيلي المتواصل داخل وخارج المرسم (إرساءات ومجسَّمات فنية، فيديو، فوتوغرافيات..) عكس ولعه بأسئلة متنوِّعة شغلت حيِّزاً واسعاً من تفكيره اليومي وتأمُّلاته البصرية والذهنية التي تمتد لهويته وترسم خريطة أسفاره وترحلاته داخل مفازات وبوادي الصحراء باحثاً عن المطلق واللامتناهي. بهذه المناسبة، سيصدر كاتالوغ من القطع المتوسط يتضمَّن مجموعة نصوصا نقدية باللغتين العربية والفرنسية معزَّزة بصور متنوِّعة ترسم جوانب من المسار الجمالي والإبداعي للفنان أرجدال. في كاتالوغ وكتاب المعرض، كتب الناقد ابراهيم الحَيْسن مقالاً تحليليا مطوَّلاً من بين ما جاء فيه: منذ فترة غير قصيرة وأنا أتابع تجربة الفنان التشكيلي محمد أرجدال عن كثب، وكان يتبدَّى لي في كل مرَّة مثل “ناسك زاهد” مشغولاً بأشيائه وفضاءاته وعوالمه كمبدع وكإنسان أيضاً مسكوناً ومهووساً بالفن منذ بواكيره الأولى..هذه البواكير سرعان ما نضجت ونمت بفعل الإصرار على خوض مغامرة الفن والغوص في تجاويفه رغم الإكراهات الكثيرة التي كانت تعترضه، والتي كان يجعل منها عاملاً محفِّزاً للمضي قدماً وطيِّ المراحل والمسافات لبلوغ درجة متقدِّمة في الخَلق والإبداع. من ثمَّ، تعدَّدت مواهب الفنان أرجدال واستمرت في الزمان والمكان لتغدو راهناً تجربة إبداعية جرِّيئة معزَّزة برؤية فنية معاصرة. وأثناء التحضير والإعداد لهذا المعرض، زرت قبل أسابيع الفنان في مراكش بمقر اشتغاله وإقامته وبَدَا لي مرتاحاً، منسجماً مع خطواته ومنهمكاً في تدبير وإنهاء أعماله الفنية المرشحة للعرض وسط فضاء بهي مكوَّن من عدَّة صالات للعرض تتَّسِعُ لمشروعه الجمالي. هناك يعتكف الفنان ويسابق الزمن مستعيناً بسبورة لبذية يوقع عليها تخطيطاته وتصاميمه الخاصة بتجهيز المعرض، إلى جانب سبورات أخرى ضمَّت صوراً وأيقونات كثيرة تؤرِّخ لعدَّة محطات إبداعية متباينة، فضلاً عن حاسوب صغير لمعالجة الصور وعرض الفيديوهات، تتكدَّس بجانبه عشرات الملفات الفنية وكنانيش السفر Cahiers de voyages المفعمة برسومات حبرية ومائيات ملوَّنة متعدِّدة المواضيع والمناسبات اطلعت على جزء منها، عقبها حوار مطوَّل سرد فيه الفنان جوانب متنوِّعة من تجربته الفنية والمسارات الإبداعية والجمالية الممهِّدة لإقامة هذا المعرض.. فهذا الفنان الجنوبي القادم من منطقة عريقة وموغلة في القِدم -وادي نون- يسعى لتأكيد رحلة عقد من الكد والبحث والتجريب في جسد المادة والسند، رحلة مثيرة وذات أطوار شيِّقة ومتعة تنهض على الدهشة والاكتشاف والمغامرات المفتوحة على الإثارة، كما بَدَا ذلك جليّاً من خلال مجموعة من التعبيرات والأداءات التشكيلية المعاصرة التي أنجزها سلفاً، من بينها مثالاً، منشأة/ تجهيز موقعي بأبعاد متغيِّرة أنجزها سنة 2012، وهي حجارة خام قام باستقدامها من ناحية مدينة الرباط، حيث يوجد مكان العرض “Le Cube” (المكعب)، وسط المدينة، والفضاء عبارة عن سكن ذي تكوين هندسي كولونيالي فرنسي. فبعد إقامة فنية في عين المكان، شرع في تثبيث هذه الحجارة بتكويمها عند مدخل إحدى الغرف في حضن فضاء العرض “المكعب”، حيث بَدَا للزوار أن الغرفة محشوة عن آخرها بالحجارة! فهذه المنشأة الموسومة ب”أَزْرُو نْتْمَازِيرْتْ” (حْجَرْ لَبْلادْ) تعكس تأثره بنصيحة والده “بحجر البلاد يبني المرء” وتمتد لأسئلته حول أثر الاستعمار. إضافة إلى منشأة فنية أخرى بعنوان “يد الطاحونة” Crank أنجزها خلال نفس السنة وهي منحوتة موقعية بحجم متر مكعب مشكلة من حجر رملي وخشب. تثير هذه القطعة الفنية قضية سياسية تتعلق بالقطب المتحكم في العالم وفي الشعوب المستضعفة الخاضعة للسلطة العسكرية والاقتصادية ومنطق الأقوى. كما جاد المعرض بأعمال ترسم تيمة الترحال، ذلك أن الفنان أرجدال لا يدري كيف وإلى أين تنتهي أسفاره..مشَّاءٌ ورحالة وصاحب معارض ومشاركات فنية متنوِّعة داخل المغرب وخارجه. تتمحور جلُّ قطعه الفنية حول قضايا إنسانية واجتماعية متصلة بالأرض والجذور ومصير الإنسان والذات والهوية والعلاقة مع الآخر، إلى جانب اهتمامه بقضايا الفن وانتفاء الحدود، إذ أنه، ومنذ بواكيره الأولى، كانت تستهويه ألبسة الصحراء بنوعيها الرجالي “الدراريع” والنسائي “الملاحف” بما تنطوي عليه من تشكيلات زخرفية ولونية قائمة على التنويع، مثلما ظلت تستهويه خيام الرحل بمنطقة كليميم باب الصحراء والواحات، كانت دائماً تثير انتباهه خصوصاً بمناسبة إقامة أحد الطقوس الشعبية المحلي المسمَّى “المعروف” يجمع الأحبَّة والجيران، ولاسيما ما يزيِّنها ويلفها من الوجهة الداخلية من أشرطة ملوَّنة ومزخرفة أبرزها الشريط الموسوم ب”أَسَوْدَارْ”. وعقب تخرجه من المعهد المذكور، شاءت الظروف أن سافر سنة 2010 إلى الجنوب بَرّاً عابراً حدوداً ومساحات شاسعة شساعة الصحراء عبر موريتانيا ثمَّ السنغال، وهو يقطع كل هذه المسافات استفزته الحواجز السياسية وفي نفس الوقت أغرته الامتدادات الثقافية التي تملأ فيافي وبوادي الصحراء. لذلك عمل على تجميع قطع الأثواب من أقطار مختلفة ليُعيد خياطتها وتوليفها على نحو جمالي وتعبيري تجسَّد في مجموعة من الأعمال والقطع الفنية المعروضة، منها “عبور” و”الخيمة 3″..وغيرها، وهي أعمال “نسيجية” تنطوي على تركيبات وتوليفات وأشكال عضوية هندسية حرَّة، غير مؤطرة تكثر فيها الانحناءات والإستدارات وقد قرَّر الفنان أرجدال أن تحمل إحداها إهداءً رمزيّاً للفنان المغربي الراحل فريد بلكاهية.. فضلا عن ذلك، اعتم الفنان أرجدال بسفائن الصحراء، وأبرز في أكثر من عمل فني ولعه بالإبل وقوافل الجمال، حيث تجلى هذا الاهتمام في تجربة فنية تعود وقائعها الأولى إلى لقائه مع أحد الرعاة الرحل في العاصمة الموريتانية انواكَشوط واستطاع بعد جهد متواصل من إقناعه بصبغ وطلاء باطن أرجل الجمل لبصمها على سنائد ورقية أحضرها معه بحثاً عن أثر خف الجمل مستعملاً في ذلك مادة النيلة Indigo، وهي مادة زرقاء داكنة أقرب إلى السواد تستعملها النساء الصحراويات لغايات صحية وتجميلية بحتة. وقد أطلق على هذه السلسلة من الأعمال البصماتية تعبير “حركيات مترحلة” nomades Gestes.. وقد تواصل ترحال الفنان أرجدال وتناسلت أسئلته وقلقه الإبداعي لتشمل قضايا قارية تتعلق بتاريخ وجغرافيا القارة السمراء، حيث جسَّد خريطتها منقوشة على سقف أحد فضاءات العرض مع ترك بقايا الحفر والنقش على الأرض، أتربة وإسمنت، إلى جانب عرض آلة الرباب في وضع جمالي مُغاير، إلى جانب عرض فيديو تسجيلي قصير يتضمَّن سبعة مشاهد معبِّرة تحمل عنوان “مشترك إفريقيا”، في انصهار مع مقولة شهيرة منسوبة لفلاديمير لينين V. Lénine: “من يستحوذ على إفريقيا يستحوذ على السماء”. وبرزت تيمة السفر والترحال أيضا في هذا المعرض من خلال عمل فني أطلق عليه اسم “حقيبة 1948” كان أنجزه الفنان في مساحة “مكان” خلال إقامته سنة 2012 بالعاصمة الأردنية عمَّان. لم تكن لديه أية فكرة عن إنجاز هذا العمل خلال إقامته هناك التي تميَّزت باحتكاكه واندماجه السريع مع الساكنة والقاطنين، ولاحظ بأن القضية الفلسطينية تشغل بال غالبيتهم وتمكن في ظرف وجيز من نسج علاقات طيبة مع مواطنين فلسطينيين. مع مرور الوقت، أثارت انتباهه قضايا التهجير القسري والشتات والتمزُّق وكل أشكال المعاناة التي أضحت تشكل جزءاً من المعيش اليومي الفلسطيني الذي أصبح فيه الحجر المواجه للسلاح لغة مشتركة بين أجيال عقدت العزم ألا تعيش التخاذل أبداً..أبداً.. وفي المعرض أيضاً، نجد نصف تمثال Buste للحاكم الفرنسي المارشال ليوطي Lyautey أول مقيم عام Résident général للمغرب بعد احتلاله وبقائه بين سنتي 1912 و1925 قادماً إليه بعد قضاء سنوات بمدغشقر ووهران بالجزائر. يظهر هذا التمثال النصفي مكبَّلاً بالأحبال ومزيَّناً بالنياشين في إشارة -ربَّما- إلى قبضة هذا الحاكم الذي وضعته فرنسا لتطبيق سياسة حمايتها في المغرب. وفي تجربة أدائية مُغايرة (منجزة فنية- 2012)، يطالعنا الفنان أرجدال بمشهد مصوَّر كان أنجزه خلال إقامته سابقاً بالمعهد الثقافي الفرنسي في الرباط، ويتضمَّن حواراً جسديّاً Corporel مرتجلاً أجراه مع ديك أسود جلبه من مدينة سلا وهو مرتديّاً بذلة بيضاء، وقد جرى هذا الحوار المثير على بساط أبيض دائري الشكل. في هذه التجربة الأدائية، شرع الفنان في مداعبة الديك وأوحى ب”ذبحه” لكي يرى ردَّة فعله وهو مربوط من إحدى رجليه بخيط رفيع مشدود بمسمار مثبت وسط الرقعة سرعان ما انفك، ليتحرَّر الديك من سُلطة المكان ومن رغبة الفنان في درء الشر والشؤم عن طريق “الذبح” المزعوم. بينما نجده في إبداع أدائي قام على فن الخطابة، يستدعى الجمهور الحاضر للإنصات لرسالته الفنية التي ألقاها أمام الناس، تارة واقفاً..وتارة أخرى ماشيّاً بخطوات متهادية على إيقاع العبارات والجُمل التي اختطها، وهي رسالة بمضامين معبِّرة مستوحاة من واقعه الشخصي. في هذه التجربة رغبة في تأكيد الذات وتقديم الفنان لنفسه كما هو، مدافعاً عن أحقيته في أن يكون كما يُريد، منطلقاً في ذلك من الاسم الذي يحمله “محمد” في تقاطعه مع أسماء مماثلة تحيل على سُلط دينية وسياسية عديدة، إلى جانب اهتمامه إبداعيّاً بقضايا الدين والدولة والذاكرة الثقافية التي هي وعاء يشمل الهوية والخصوصية والتراث والتجارب الإنسانية التي تتغيَّر وتختلف من جيل إلى آخر ومنبع يغذي التاريخ ويعزِّزه بوصفها صوناً للنشاطات البشرية وسنداً أساسيّاً لكل مشاريع التوثيق والتدوين والتخليد.. والواقع أن هذا المعرض التشكيلي المتنوِّع، الجدير بالمتابعة والاهتمام، يبرز أن الأعمال التشكيلية للفنان المبدع محمد أرجدال تُعَدُّ في مجملها سرديات بصرية وقطع تشكيلية معاصرة مطبوعة بخصائص تعبيرية وجمالية تستقي تميُّزها وتفرُّدها من كونها إبداعات جديدة قائمة على تغيير السياق والتحوير والمجاز وتحويل المعنى، وهي إبداعات تشكيلية ترُوم ترسيخ فعل إبداعي معاصر يستمد أسسه ومشروعيته من الأبعاد الاجتماعية والثقافية والسياسية للفن..هي، بلا شك، تجربة جمالية وسفر دائم يبحث في رسم كارتوغرافيا جديدة تنتفي في ضوئها الحدود والحواجز لتشكل مساحات رحبة وواسعة تستوعب كل الثقافات والانتماءات والمعتقدات..