تستند هذه النصوص إلى «البورتريه». فهذا الأخير هو الذي يتحكم في الحكاية، فاعلا أو مفعولا به، ساردا أو مسرودا له. وهو بالإضافة، إلى هذا وذاك، يشكل -كميا- النسبة الغالبة مجسدة في سبع قصص من مجموع القصص -تسع قصص- التي ضمتها المجموعة بالعنوان أعلاه. أما على المستوى الكيفي، فالحكاية -كما سبقت الإشارة- عمادها «البورتريه» بامتداداته الزمانية والمكانية والدلالية. تقوم صورة البورتريه على ثلاثة أقانيم أساسية: أ- المفاجأة. ب-الإثارة. ج-الاستثناء أو المخالفة للمألوف. وهذه الأقانيم تتداخل فيما بينها لتنتج صور البورتريه التي تتأرجح بين اليومي العادي (الممارسة الحياتية) وبين المجرد (الدلالة الفلسفية)، بين الأنا والآخر، المتكلم والمخاطب، المرأة والرجل.. من هنا كان «البورتريه» وسيلة لتقديم قنة جبل الجليد العائم، أي وسيلة لتقديم الجوهري قبل العرضي، من خلال تجربة إنسانية عميقة تتجاوز المظاهر الخارجية العادية التي يراها الأعمى والمبصر. في قصة المطاردة، يطارد السارد- وهو شخصية في الوقت ذاته- صورة أحد أصدقائه مرق، من أمامه سريعا، وغيبه الزحام. الأوصاف هي الأوصاف، والطريق هو الطريق، وها هو الآن يشتري الحلوى لصغيرته التي تنتظره بالمنزل، والعجوزان لم يغادرا العتبة، وما عليه، الآن، إلا أن يدفع الباب ليجد الصديق في مكانه المعهود.. وبمجرد أن يدفع بحسده نحو الداخل (..ويالهول ما حدث..لم أجد أحدا في الداخل) ص،11. من يطارد من؟ صورة الصديق الخارجة من رحم الذكرى، أو صورة السارد المتماهي مع لحظة «نوستالجية» أصبحت أكثر من الهم على القلب. صورة الوهم، أم صورة اليومي القاتل الذي يخبط خبط عشواء مدمرا الذاكرة والوجدان، بعد أن أصبح الكائن أسير أفعال شرطية أو آلية. وعلى نفس المنوال، يتم العزف على ثيمة الوحدة والعزلة أوالموت البطئ. (قصة امرأة جميلة تنتظر). «البورتريه»، إذن، يعيش لحظة موات متجددة لا يتردد فيها سوى وقع أقدام هذا الموت القاه، وهو يجر نعليه الإسمنتيين في منزل عجوزين تحول إلى قبر بارد لا يتردد فيه إلا الصمت (عصافير الروح). وفي حالة تعذر لغة الكلام، يصدر عن الكائن الإنساني نباح يناجي عبره كلبه الذي دهسته سيارة مجنونة، والذي كان محاوره الوحيد في عالم عز فيه التواصل والحوار بين الناس.النباح، إذن، مناحة الكائن في زمن العس والحصر. في قصة (نظارات سوداء) نكتشف الأشياء الحميمية -ولوكانت جرحا عميقا- بعد فوات الأوان. غير أن هذاالحصار المتواصل لم يمنع السارد من انتزاع لحظات المتعة من فم زمن كاسر (حدث في مقهى شعبي/لحظة حياة) مع إحساسه الدائم بزئبقية هذا الزمن البهلوان الذي يضحك على القرد ومشتريه. تتوج قصة (رجل الكراسي) -وهي عنوان المجموعة- هذه النصوص عبر لعبة التقابل بين بائع الكراسي الواقف دائما، وبين الزبون- السارد- الشخصية- الذي لا يقتعد إلا الفراغ، بل إنه لا يملك مؤخرة(ص48.) حسب التعبير الساخر للبائع،بين البائع الذي يشبه البناء الذي يبني بيوت الآخرين، دون أن يملك بيتا، وبين سارد يبحث، بدوره، عن تفسير لما يجري أمامه، بين بائع يحمل كرسيا ثقيلا غير مرئي، وسارد يحما أسئلة متناسلة حول الصدفة والقدر من جهة، والمعاناة الدائمة للبائع من جهة ثانية. في قصة ل»يوسف إدريس»، لم أعد أذكر عنوانها، يحمل حمال كرسيا ضخما مزينا بنقوش فرعونية، وهو يقتفي آثار صاحبه الذي غادر القطار، وغاب في الزحام. يفشل الحمال في العثور على صاحي الكرسي، وسيظل حاملا للكرسي كما حمل، يوما، سيزيف صخرته الشهيرة الدلالة واضحة. والعسف واحد سواء تعلق ذلك بأيام الفراعنة، أو باللحظة التي التقي فيها السار د ببائع الكراسي. في هذه المجموعة لا يبدو السارد متعجلا من أمره، فهو يمارس لعبة السرد من خلال قوانين محددة تتم مراعاتها عبر سرد يتوقف عند كل المحطات الضرورية من بناء يبني، حجرا حجرا بعناية ومتابعة هادئة، تأخذ وتعيد في المرئي والمسموع أيضا، ومن لغة لا تضيق إلى حدود الاختناق، ولا تتسع إلى حدود الهلهلة. هوامش: والمحكي لحسن باكور: رجل الكراسي.م. وليلي. ط.2. مراكش 2010.