من الصعب الحديث عن اللحظة الأولى للقصيدة، لكونها لحظة فريدة، بهية، سامية، منفلتة، متأبية، لا ترقى اللغة أبدا، إلى وصف ألقها ونورها واستحواذها على الذات المبدعة. أكتب القصة والرواية، ومع ذلك، لا أعيش حالة الانبهار والسحر إلا مع القصيدة. اللحظة الشعرية الأولى ليست لحظة واحدة تتكرر… وإنما هي لحظات تتعدد بتعدد القصائد، وتختلف باختلاف حالات المخاض والولادة. ذلك أن القصيدة تظل تختمر في اللاشعور إلى أن تأتي اللحظة المناسبة التي تعلن فيها عن نفسها والتي تسمى الشرارة الأولى أو الإشراقة الأولى. شخصيا، أعتبر اللحظة الشعرية الأولى أسمى لحظات الإبداع وأكثرها خطورة على المبدع، ذلك أني لست من الذين يراودون القصيدة عن نفسها… لا أهيئ طقوسا معينة لاستقبالها. لا أغريها بالزهور والعطور والموسيقى… ولا بفض بكارة الورقة العذراء.. القصيدة هي التي تقتحمني باستمرار، وفي أوقات أبعد ما تكون أحيانا، عن الأجواء المحفزة للكتابة. قد تأتي في سكون الليل وفي عز النوم، كما في وسط الزحام والضجيج، كما في أحضان الطبيعة وجمال البحر والغابة والجبال.. تقتحمني هذه اللحظة مختلفة في كل حين. أحيانا، في شكل أصوات وإيقاعات مبهمة تُدخلني في حالة من القلق والتوتر أشعر معها أن شيئا ما يموج بداخلي يريد الخروج، لكني لا أعرف ما هو ولا متى يخرج.. أحيانا، في شكل كلمات تصل كلمة، كلمة … تصل بكل دلال وغنج … تبعث بسهام نظراتها، ولا تكشف عن ملامح وجهها المشرق إمعانا منها في الإغراء.. أحيانا، في شكل جملة أو سطر شعري يدعوني إلى دخول عالم القصيدة البهي وقد مهد الطريق بالإيقاع أو بالصورة أو بهما معا.. لحظات تفاجئني باستمرار… لذلك أتهيب دائما هذه اللحظة. وعندما تأتي، أمسك بها في الحال حتى لا تضيع مني. ذلك أن التجربة علمتني أن اللحظة الشعرية الأولى، إذا لم تؤخذ مأخذ الجد، وإذا لم يتفاعل المبدع معها ويغمرها بدفء حبه، فإنها سرعان ما تولي هاربة تاركة وراءها الحسرة والألم والعجز.. ضيعت قصائد كثيرة كانت لحظاتها الشعرية الأولى تقتحمني، فأستأمن الذاكرة عليها، غير أن الذاكرة كانت تخونني باستمرار، فتضيع مني القصيدة التي أظل أتحسر عليها معتبرة إياها “القصيدة الأروع” التي لم ولن ترى النور أبدا!لحظة الإشراقة الأولى لحظة معقدة وعصية عن الفهم. أحيانا تمنح الشاعر البيت الأول، وتتركه يمارس صنعته كما قال الشاعر الفرنسي بول فاليري، فاسحة له المجال لإبراز قدراته اللغوية ومهاراته الفنية.. أحيانا أخرى، تمنحه القصيدة “كاملة” بحيث هي التي تختار بناء القصيدة ولغتها وصورها ورموزها، أمام دهشة الشاعر وشعوره بأن غيره من كتب القصيدة لا هو!.. وهذا ما أسميه بالدفق الشعري الذي يرتبط بدرجة عالية من الصدق والعفوية. وأحيانا أخرى، تأتي هذه الإشراقة “كاذبة” بحيث لا يؤدي المخاض إلى أية ولادة في الحين رغم الإمساك الفوري بها. تظل تلك الكلمات أو الأصوات أو الإيقاعات تتردد من حين لآخر، على مسامع الشاعر ولزمن طويل، قبل أن تولد القصيدة بعد شهر أو سنة أو عدة سنوات. خلال تجربتي الشعرية، عشت حالة مخاض قصيدة استغرقت أكثر من سنتين قبل أن تستسلم لي ذات يوم مكتملة الملامح! وقد تحدث نزار قباني عن تجربة مماثلة ظلت فيها القصيدة تراوده وتراوغه طيلة عشر سنوات قبل أن يتمكن من القبض عليها. اللحظة الشعرية الأولى هي اللحظة التي تؤرق الشاعر على الدوام. اللحظة السحرية التي ينتظرها والتي قد تأتي أو لا تأتي.. اللحظة الزئبقية المنفلتة التي قد تغمره بالسعادة وترفعه إلى عوالم النشوة الكبرى أو تزج به في عالم الصقيع والضياع والحسرة القاتلة. اللحظة التي عندما تحضر، تجر وراءها بهاء القصيدة… بل وقد تمطر الشاعر قصائد متتالية تصل أحيانا إلى عدة قصائد في اليوم الواحد. اللحظة التي عندما تغيب، يحل “العقم الشعري” الفظيع الذي يؤرق الشعراء والذي قد يصل أحيانا، إلى عدة سنوات تنغلق فيها أبواب الشعر تماما دون معرفة السبب. هذه اللحظة الشعرية الأولى أو الإشراقة الأولى هي التي تجعل من الشعر سحرا وجنونا وتربطه بعوالم الجن والشياطين والآلهة… لأنها لحظة تجعل الشعراء أنفسهم ينبهرون بجنونها الإبداعي الذي يحلق بهم في عوالم هلامية لن يعرفها غير الشعراء.