الكتابة حالة تنتابك من حيث لا تدري، قد تزورك في غفلة منك، وتأتيك في أي زمان ومكان، لا تنتظر جلوسك وراء مكتب مريح أو طاولة صالحة للكتابة، قد تنتابك وأنت سائر في الشارع تحت وابل المطر، وأنت تائه مع الأمواج على شاطئ البحر. قد تنتابك وأنت تجهز فطور الصباح على رائحة القهوة السوداء رفيقة المبدع الوفية. قد تصادفك وأنت في انتظار لا ينتهي في إدارة ما، قد تنتابك وأنت تتابع بخيالك مشاهد حية في حديقة عمومية، أو جالسا وسط صخب وضجة المقهى. قد تسافر عبر القطارات لتقبض على لحظة لمعانقة قصة أو قصيدة شعرية، وقد تحرق عدة سجائر لترضي الحروف التي تتدلل عليك أحيانا، ثم تقبل عليك مطيعة وعاشقة. قد تدخل في عزلة طويلة عن العالم، لتتوحد مع ذاتك وأحلامك الصغيرة، هي حالة قد تقطع أحلامك قبيل آذان الفجر لتسجل فكرة انتابتك أثناء النوم أو الحلم. هي هوس ينتابك خلال اليقظة والحلم، وجنون لا يتوقف إلا بعد انتهاء سفرك الطويل مع النص، هي حالة تختلف من مبدع لآخر، ترافقها طقوس العبادة في محراب الكلمة. هي رحلتي القصيرة في عوالم المبدع وسفر لاكتشاف طقوس إبداعية ومخاض عسير لا ينتهي... الشاعر يبحث عن اقتناص لحظة الكتابة أحمد بنميمون (شاعر- شفشاون) إذا كانت الكتابة مفاجئة، تحتفظ بحق اختيار زمانها الذي تأتي فيه على حين غرة، وأن أقصى ما يستطيعه الكُتّابُ هو الاستعداد لها، وتقدير بعض الأوضاع التي يمكنهم أن يدعوها من خلالها، فإن أدعى ما يكون للكتابة وأجلب لها، هو القراءة المستمرة التي لا تتوقف، باعتبار القراءة إبداعاً أيضاً، فقد تغيب الكتابة طويلاً، ولا تحضر إلا في لحظات استثارة قد لا تكون متوقعة، من خلال حضور عبارة في الذهن، أو وقوف أمام مشهد مثير، أو هبوب رائحة تستدعي حنينا إلى زمان سابق، أو سماع موسيقى، وأنا هنا أتكلم عن كتابة القصيدة، التي تكمن في نفس الشاعر أياماً بلا عدد، قبل أن تتمثل على الورق نصاً سوياً، ويظل الشاعر يقلب النظر في ما يكتبه أياماً طويلة، حتى يتعبه الأمر فيقرر هجرته، والذهاب إلى بداية كتابة أخرى، أو الانطلاق إلى الإمساك بنص آخر. يكون لبعض الشعراء ترف الانتقال بين أماكن مختلفة متباعدة، بحثاً عن اقتناص لحظة الكتابة، لكن واقع الحياة في المدينة المعاصرة، الذي يضغط على الشاعر فيجعله سجين أماكن ضيقة أو خانقة، ومن أعماق ذلك المكان الضيق تصعد إلى الآفاق أحلام الشاعر على أجنحة الخيال، ويبتعد إلى أجواء يتهيأ له معها أن يكتب عن بحار واسعة، زاخرة العباب، أو عن غابات ملتفة الخمائل مخضرة المروج، أو عن جبال الشاهقة بيضاء القمم، أو عن بحيرات حالمة، أو عن أنهار هادرة، أو عن شوارع ممتدة طويلة زاخرة بالناس، مستبطنا ذاته ثائرة الأفكار أحياناً أو هادئة التداعيات والأحلام تأكل ذلك وهو في غرفة هي أشبه بكهف وحي تنيره آيات الخلق وأرواح المبدعين. فالشاعر يبحث عن لحظة يمكنه استحضار كل ذلك فيه، فلا يتوفر زمان الخلق إلا في أوقات نادرة لا تصنع، أو متباعدة بالأحرى لا تحضر في أحيان كثيرة ولو أردنا. الكتابة الإبداعية حالة انفعالية قاسية... رشيد شباري (قاص – طنجة) بخلاف الكتابة العادية التي نمارسها بشكل اعتيادي وروتيني، فإن لحظات الكتابة الإبداعية تبقى حالة انفعالية قاسية تسوء فيها الحالة النفسية لشدة التوتر و"النرفزة" والميل إلى الانعزال والشراهة في التدخين والأرق وانعدام الرغبة في الأكل مع ما يترتب عن ذلك من تدهور على مستوى الصحة العضوية، لذلك فإن هذه الحالة هي التي تفرض طقوسها كالانعزال داخل الغرفة لمدة قد تطول أو تقصر حسب الصبيب الإبداعي المترسب في النفس، ثم الشروع في الكتابة على دفتر ينبغي أن يكون ورقه بمربعات من الحجم الصغير وأقلام بألوان مختلفة، تصاحبني قهوة سوداء يجاورها ركام من أعقاب السجائر المنتهية الصلاحية. والملاحظ أنه كلما استرسلت في الكتابة كلما تقلصت حدة التوتر إلى أن ينضب السيل فتتوقف العملية الإبداعية لتنتابني حالة من الهدوء والسكون، وأتحول إلى متلقي للمنتوج الطري، أداعبه وأهذبه بسعادة ومتعة، وبعدها أعود إلى حالتي الطبيعية فأفتح غرفتي وأقبل على العالم من جديد. إن هذه اللحظة تذكرني بحالة الكرادلة عندما ينتهون من عملية انتخاب البابا، فلا ينقصني سوى الدخان الأبيض لأعلن للعالم عن المولود الجديد، قصة، أو ومضة، أو فصل من رواية... طقس الكتابة عندي أوراق مدسوسة في كتاب فضيلة الوزاني (قاصة – تطوان) القراءة والكتابة يتلازمان عندي، لا أستطيع الفصل بينهما، أقرأ في أوقات الفراغ بالعمل، وبالمقهى والمطعم، بالبيت بكورنيش مدينتي، بالقطار والحافلة، لا فرق، كل الأماكن صالحة للقراءة؛ وفي نفس الكتاب أحتفظ بأوراق بيضاء، جاهزة دائما لتسجيل فكرة، أو كتابة جملة، وفي أوقات نادرة أكتب نصا كاملا، يكون قد أتعبني أياما بلياليها، ربما رآني الناس أتكلم مع نفسي في الشارع، وربما همست لها في الغرفة، وربما أيقظتني ليلا، وقد تستوقفني على الشاطئ، الأفكار مثل بيضة الدجاجة عليها أن توضع حينما يحل وضعها، لذا كان لزاما علي أن أصطحب الأوراق البيضاء لاستقبالها في أي وقت. الأمر يختلف عندما يتعلق الأمر بدراسة نقدية أو مداخلة في ندوة، هنا لا مجال للمزاجية؛ حاسوب وأوراق ومراجع على المكتب، وفناجين قهوة قد يصل عددها إلى سبع، وسهر لليال متواصلة؛ النص يأخذ شكله النهائي قبل الساعات الأولى للصباح، ثم بعدها أجهز نفسي للمشاركة دون عودة للنوم، سواء تعلق الأمر بمشاركة في مدينتي أو مدينة أخرى. طقس الكتابة عندي أوراق مدسوسة في كتاب، وقلم جاهز للخدش في أي وقت، وأي ظرف، نصوصي الأولى بدأت أخطها على متن قطار 395، الرابط بين طنجة والقصر الكبير. الكتابة حوار مضن مع ذات نزقة ومتهوّرة عبد القادر الدحمني (روائي- سوق أربعاء الغرب) تتأبّى عليّ الكتابة في المنزل، وتحرِن في مربضها لا تنقاد أبدا ما دمت لم أسافر أو أقصد المقهى، وهذه محنة الإبداع عندي، لا بد أن أهرع إلى أقرب مقهى، كي أباشر استسلامي لمخاض اللوعة الحرّي التي ترجّني كي أستجيب لوصال الكلمات. المقهى فضاء اللقاء بيني وبين الكتابة، يخترقني وجع الفكرة أو حنين الخاطرة أو حيرة السؤال، أو خفقة مشهد، فأراوغ ما أمكنني المراوغة قبل أن تختمر المعاني قليلا ثم تسوقني إلى مخدعها في خذر متعة الإبداع وألمه. الكتابة عندي تورّط شبه متواطئ مع الحنين والاستشراف المقلق، والحوار المعقّد مع اللغة. الكتابة عندي اكتشاف على إيقاع الوجع الخاص، وكأنه وصال لا يزيدني إلا عذابا ولا يزيد جرحيَ إلا اتساعا. أهز بجدع الذاكرة، وأترك اللغة تكشف ساقيها أمام مرايا حزني العميق، أو حيرتي الذابحة، ويحدث أن أستلقي على ظهري في ربيع المواجد محدقا في الشمس بكل شغب، يحدث أيضا أن أغازل خطوي في الطريق إلى الوصال، ويحدث في الكثير من الأحيان أن تخونني اللحظة وتهزأ بي الكتابة وهي تطل من تحت شرفتها بلا اكتراث. الكتابة لا تخضع للزمن الموضوعي أبدا، لا منطق له، ولا يسلس قياده إلا بقهوة مرّة على حافة معنى هارب، في صباح بارد، في أمسية لاغطة بمقهى هامشي، في ظهيرة تحاول عبثا إيقاف يومها عن الدوران، في لحظة سفر يهرب من سلطة المكان. ومؤخرا فقط، ألزمت نفسي قرارا قاسيا يتجلى في البعد عن الكتابة في الورق إلا ما اضطررت إليه. صار الحاسوب شريكي في الورطة، أداعب لوحة مفاتيحه فلا يبخل بإمكانية المسح والتصحيح وطي الوقت. أعقد مع الكتابة صفقة أن تترك بعضي إلى كلماتٍ أُخَر، وأناشدها كي تحفظ الذكرى وتديم الوصال. ولادة قصيدة محمد دخيسي (شاعر- العيون الشرقية) أحاصر الكلمات أياما أو أسابيع وربما شهور، يغتالني الصمت الإبداعي، وتأبى الرحلة أن تستمر إلا بانفجار الدواخل، وخلخلة الخواطر. المعاناة في الغالب تكون الحافز والدافع، والألم المصاحب لحالات الصمت يساهم في تكون القصيدة.. يستمر تكونها وتدفقها وتصورها لحظات لأعيش حالة احتضار أخيرة، احتضار نفس، لمخاض ولادة روح جديدة هي النص الشعري الجديد.. فالقصيدة إذن توتر داخلي، وإحساس قبلي، وموقف من الذات ومن الآخر وسط عالم الحلم والحقيقية. القصيدة بناء لغوي، لكن لغته تفوق اللغة العادية جمالا ورونقا، وتتحدى المؤتلف إلى طابعها المختلف، لتحوز في النفس برزخا بين الذات والحلم، وبين الحلم والحقيقة، وبين الحقيقة والآخر. القصيدة، كما قلت لا تخرج دفعة واحدة، بل تتناغم وتتصادم وتتحاور داخليا، لتجيب عن أسئلة محفورة في الذات، أو محفوفة بخطر الذات الأخرى. تجتاز مرحلتها الأولى باعتبارها هاجسا أوليا.. الهاجس يأخذ شكل النزيف الداخلي الذي يؤدي إلى الموت، والموت هنا هو نهاية خاطر داخلي وبوحه الطبيعي في شكل صور وألفاظ ودلالات.. إنها المرحلة الثانية أي التفريغ وتفتيت الواقع. خلال فترة التفريغ، تخرج القصيدة متدرجة، عبارة عبارة، سطرا سطرا، مقطعا مقطعا، بمعناها وتصويرها وإيقاعها.. تستمر العملية وقتا أقل من الزمن الشعري الماضي، لتنتهي القصيدة أخيرا، وتعود الحالة الطبيعية للشاعر، أو استرجاع النفَس الداخلي، حينها تختزل الذات لحظات الهاجس والتفريغ والاسترجاع، ويتحقق النص على الورق، وفي الغالب ينزل مباشرة على شاشة الحاسوب، حيث تسهل عملية التنقيح النهائي، ليتم التعديل بوضع عتبة العنوان وإرسال النص إلى القارئ، وأكون أنا أول متلق له، بطريقة عفوية أيضا حتى أتأمل ما يمكن أن يتأمله الآخر. فالهدف إذن أو الوظيفة، لا يحكمها وقع معين، أو نقر وتري مخصص، بل تتوالد صورها داخليا، لتعبر مجاز اللفظ وانزياح الدلالة إلى قارئ مفعم بهموم يتوخى تلذذها والتشبع بقوامها اللغوي والتخييلي. الكتابة هي نَبْضٌ ودَفَقَان قد يَنْدُر وقد يغزر جمال الدين الخضيري (قاص- الناظور) الكتابة مُخاتِلة باستمرار، فهي لا تستجيب في كل حين، وتخضع لشروط ذاتية وموضوعية تتغير من كاتب لآخر. إنها رهينة بطقوسها الخاصة. فثمة محفزات مختلفة تستوجبها الكتابة. وفي اعتقادي أن الحالة النفسية للكاتب تلعب دورا كبيرا في التعاطي لفعل الإبداع الذي يتحول إلى تنفيس ومخاض لابد منه لمكنون الذات والإفصاح عن رؤيتها للعالم. فعلى الرغم من سطوة المكان وحميميته مُتَخَيلا كان أو واقعيا، ودوره الكبير في إذكاء مشاعر الأديب، ودفعه للكتابة والتماهي مع الطبيعة ومحاكاتها، فإن العامل النفسي والذاتي هو العُمْدة، وهو بمثابة وقود يشحن الكتابة بحيوية لا تنضب. لذا فغالبا ما تكون الأمكنة إسقاطا لحالاتنا النفسية فنُجَمِّلها حينا ونُقَبِّحُها حينا آخر. أي أننا نعيد تشكيل الواقع وفق رؤيتنا له. وتبعا لهذا فإن الكتابة بالنسبة لي هي نَبْضٌ ودَفَقَان قد يَنْدُر وقد يغزر، فعلاقتي بها ليست نمطية ومتواترة، وغالبا ما تأتي من غير استئذان، ولا ميقات لها. ليس لي طقس معين أو مراسيم أستحضرها وجوبا أثناء الكتابة من غير ورقة وقلم أو أي وسيلة تحل محلهما للإمساك بعنانها، لأنها فعل مُنْفلت وعابر بامتياز إذا ما راود الخاطر ولم نمسك زمامه ونعتقله داخل ورقة. وبعد ذلك قد تأتي عملية الانتظام والاتساق بمراجعة وتنقيح ما تم تدوينه حتى يستوي على عوده، فالتأليف ليس فعلا اعتباطيا، ولابد له من ضفاف ومحددات، ودائما يظل أجمل كتاب هو الذي لم نكتبه بعد، فالرضا عن المنجز والمكتوب مَشُوبٌ ببعض الرّيبة والتردد. الكتابة زائر يأتي على غير انتظار محمد شيكي (شاعر – تيفلت) الكتابة بالنسبة لي لحظة تأتي على غير انتظار، لم يحدث أبدا في ما سبق أن كتبته على مدى 30سنة أو يزيد أن ضرب موعدا مع الكتابة، بل إنها تسرقني من انشغالاتي اليومية العادية، فتأتيني بلا موعد تطرق بابي وتدعوني إلى رحلة في الوجود فنمضي معا نسير على هدى ما يشغلني بل نسير أحيانا على غير هدى. حتى نجد أنفسنا قد أنتجنا نصا قد تكون ولادته مكتملة وقد تكون في حاجة إلى بعض النبش لاستكمال جوانبها الفنية تماما كما ينقش النحات آخر لمساته على منحوتته كي تصير أكثر جاذبية وقبولا. فالكتابة قد تداهمني ليلا أو نهار واقفا أو جالسا، أو حتى نائما فتوقظني كي نمشي في رحلة معا، وندخل محراب التأمل معا فكثيرا ما حدث أن غادرت فراشي كي ألبي داعي الكتابة، غسقا أو عند الغبش ... وكثيرا ما استنجدت بقصاصة من ورق التقطتها من على الأرض أو مزقتها من دفتر أو حتى على علبة سجائر أو على صفحة جريدة ... لأدون فكرة تعن لي أو جملة شعرية داهمت وجداني، بل كثيرا ما أستنجد بأيقونة التسجيل على هاتفي المحمول كي لا تضيع الفكرة. الكتابة انخطاف للذات من قبل الحلم. فحينما لا يستطيع الحلم إلا أن يكون حلما فإنه يعلو مرفرفا في مدارج الرؤيا التي تؤطره في منظور المبدع شاعرا كان أم قاصا أم غير ذلك من أجناس الابداع. ولأن المبدع حالم بالفطرة وبالضرورة فإن حلمه ما يكاد يطرق باب مخيلته حتى يفتح نوافذها وينساق مع تجلياته ( الحلم) ويركب رهاناته، فتأتي صورة هاته الرهانات على بساط جمالي يتشكل في وعي المبدع قبل أن تترجمه لغته، هده اللغة التي تأسره كليا، وبالتالي فإن هذا الأسر لا موعد له وإنما يداهمه وهو في قمة معاركه اليومية وانشغالاته الطبيعية دون سابق إشعار. الكتابة كالفصول مهما تأخرت تأتي في النهاية سعاد غيتو (شاعرة - القنيطرة) حين أهيم بالكتابة أو الأصح حين تهيم هي بي، لا أجد بدا من حمل القلم لأن الكلام يجئ فجأة، في أي لحظة وفي أي وقت. لا أربط موعدا معها وأجلس إليها كما البعض جلسة الحبيب. هي القصيدة تفرض ذاتها في العمل أو في المطبخ. في الصبح أو في عمق الليل، لكن الأساسي أن تدون لحظة الولادة وإلا ضاعت مني... أحيانا كثيرة أتهاون في توثيق ما جادت به القريحة بحجة أنني سأتذكر المقطع بعد حين. لكن أثبتت التجربة أن الذاكرة لا تُخزن الطلق الأول، لهذا أصبحت لا أتفانى في التدوين الآني. الكتابة بالنسبة لي إفضاء نفسي غالبا ما يكون بعد لحظة ألم أو تدمر. لا أتذكر يوما أن الكتابة جاءتني بعد لحظة فرح. لكن الجميل أنني بعد انتهائي من مخاضي تعود نفسيتي (التي كانت في زوبعة) لحالة الرضا والهدوء. وكأنني انتقمت بالكتابة من الشيء الذي كان سببا في توتري. يحدث أحيانا أنني لا أكتب مدة طويلة، الأمر الذي كان يقلقني. كنت أخاف أن يذهب الكلام مني إلى الأبد، لكن بعدما تكررت الحالة عندي لمرات عدة، اكتشفت وأيقنت أن الكتابة كالفصول مهما تأخرت تأتي في النهاية. تدور دورتها وتعود. قد لا تعود في موعدها، لكنها أبدا لا تنقطع. فلم تعد هذه الظاهرة تقلقني، أيقنت أنني والكتابة على موعد حتى الموت، وأن لحظة الألم الحاد هي أرضية اللقاء مع القصيدة، أقصد هو توقيت البوح. يحدث أيضا أن تلهمني قراءة نص أدبي ما. كتابة قصيدة، كما حدث معي في قصيدة وليمة أخرى لأعشاب البحر، وكان ذلك بعد انتهائي من قراءة رواية حيدر حيدر. عند ولادة القصيدة يصبح لزاما علي أن أقرأها على الأصدقاء أولا، قد يلحقها بعض التغيير لكنه طفيف، أما النشر الورقي أو الإلكتروني فهو بالنسبة لي توثيق وحفظ من الضياع. اقتناص وسرقة جزء من الزمن البشير الدامون (روائي – تطوان) ليس عندي طقس محدد للكتابة. فبحكم الانشغالات المنزلية مع زوجتي وأطفالي الثلاثة الصغار وبحكم الإكراهات المهنية حيث أنني أشتغل في إدارة البريد وأعمل بتوقيت العمل المستمر والعمل متعب شيئا ما، فإنه لا يمكنني أن أحدد طقسا معينا للكتابة، فأنا أقتنص اللحظة المناسبة كلما سنحت لي الفرصة لأخط بعض الكلمات. وعادة أكتب في الغرفة المخصصة للجلوس، حتى أنني تعودت بعض الشيء على أن أكتب بين ضجيج الأطفال وطلبات أمهم، كما أنني أحيانا أكتب وأنا أهدهد طفلي الصغير. أما التوجه إلى المكتب والتهيؤ للكتابة فنادرا ما أستمتع به اللهم إذا كان الزوجة والأطفال خارج البيت أو ناموا باكرا. الكتابة بالنسبة لي ليست انتظار إلهام ما والتهيؤ لاستقباله، بل هي اقتناص وسرقة جزء من الزمن موات أستطيع فيه أن أركز ولو لحين. لا أخفي عليك أنني الآن أهدهد طفلي الرضيع وأنا أكتب هذه الشهادة. "مَا اَضيع اليومَ الذي مَرَّ بي منْ غَيْر أَن اقرأ وأن أكتب خديجة الحمراني (شاعرة – أكادير) الكتابة كما أشعر بها وليدةٌ شرعية للقراءة، ولا يمكن أن تأتي إلا بعد تَخَمُّر أعوام وأعوام من القراءة المتنوعة وجرعات كبيرة من عشق القراءة والكتاب. فحين تكون القراءة مصدر انتشاء ستُوَلّد كتابة تكون أيضا مصدر انتشاء للكاتب وللقارئ مع. الكتابة بالنسبة لي جرعة أوكسيجين يومي كبيرة وضرورية، فأنا أكتب لأتنفس هواءً نظيفاً ولأنتج أيضاً مثله لمن يقرأ لي، كما الشجرة الوارفة الظلال والعطاء، وهذه أعتبرها رسالة مقدسة. لن أقول إن الإلهام يكون مصدراً وحيداً أو كافياً لإنتاج متكامل، لكنه الشعلة الأولى لكل إبداع، ثم يليها العمل والاجتهاد على الصياغة والترصيع حتى تحمل الكتابة بصمة المبدع، كما لو أنني أعمل على خلق تحفة متكاملة الجمال وعميقة الدلالة والرسالة. فأنا شخصياً أشتغل في قصائدي على الموسيقية وغنى وتنوع الصور البلاغية، لذلك لن أدعي أن الإلهام لوحده يكفيني ويستجيب لمواصفات القصيدة التي أحب أن أكتب. أكتب، في كل مكان يتيح لي الجلوس وتدوين أفكاري في انتظار العودة للبيت، حتى أعود لها مراراً وتكراراً لصقلها وتنميقها. ثم المقهى أحيانا، أو أمام البحر، خارج المدينة في عطلات نهاية الأسبوع. لكن الكتابة فعل يومي عندي حتى أنني في استراحة الفصل الدراسي، إما أقرأ أو أكتب وأُجَمّعُ لمشاريع قصائد أشتغل عليها عند عودتي إلى البيت. أحيانا يمكن أن أكتب لمدة أكثر من 6 ساعات يومياً بدون انقطاع، وأحبذ الكتابة في المساء، فالليل خليل الصمت والهدوء وهذا عالم يلهمني كثيراً. تختلف طقوس كتابتي حسب المكان وبهذا تبقى الورقة سيدة المضمار، لكن حال عودتي أنقض على الحاسوب وأفرغ فيه جعبتي وما على الورقة. لكن جرعات القهوة ضرورة ثابتة في كل الحالات والأماكن والاوقات، وكذا الموسيقى الهادئة: مادتان مغذيتان للكتابة عندي. بالإضافة للملاحظة، فلا غنى للشاعر عن الاتصال بالواقع – بصيغة المفرد والجمع- لأنه مصدر غني لتغذية خياله وخلق الصور التي تجعل من شعره ترجمة ملتزمة ورصداً قريباً من معيش الإنسان. متى نزل الإلهام علي أسرع إلى الكتابة محمد مباركي (روائي – وجدة) حيثما كنتُ في المنزل، في المقهى، في الطريق، في الحافلة. أكتب كلمات في شكل خربشات. وحين أعود إلى منزلي في السرير أضطجع على شقي الأيسر وأعاود قراءة ما كتبت عدة مرّات. وأتساءل "ماذا كنت أريد قوله من هذه الخربشات؟". أصوّب ما كتبته، فيخرج قصة قصير في الغالب أو مشروع رواية. حين أبدأ كتابة الرواية لا أتركها حتى النهاية. عمر الكتابة الأولى في رواية "جدار" ثلاثة أشهر. وفي رواية "تِغسال" شهر وستة عشر يوما. وفي رواية "مُهجة الصّقلية" ثلاثة أشهر وثلاثة عشر يوما. أكتب وأعيد الكتابة إلى المرّة العاشرة ولا أمل. هي المتعة في كتابة وقراءة ما أكتب. بهذا العمل أكون أول من يتمتع بما يكتب. أمتح في الكتابة من حيوات الناس الذين عاشرتهم ووجدت ذاتي فيهم. هم يطلقون الكلام على عواهنه وأنا ألتقطه بأذن المبدع وأتركه يختمر لأخبزه إبداعا. تباغتني الكتابة حتى في الأماكن العامة كريم ترام (قاص – أسفي) للكتابة سحرها وبهاؤها وغوايتها وطقوسها المائزة. التي تختلف من مبدع الى آخر. ولعل هذا الأمر قد نوقش بشكل كبير من لدن نقادنا العرب القدامى في مصنفاتهم الضخمة. فهناك من المبدعين من يكتب في الصباح ومنهم من يكتب في المساء. ومنهم من يكتب في الهزيع الاخير من الليل. وهناك أيضا من يكتب في أماكن محددة كالمقاهي والحانات. وبالنسبة إلي باعتباري كاتبا شابا أفضل الكتابة في المقهى صباحا بحثا عن الهدوء التي يتوفر في هذه الفترة بالذات، إذ أستطيع أن أركز كثيرا في هذه العملية، وأحيانا اذا استعصى علي إيجاد مقهى في هذا الوقت بالذات أؤجل إلى ذات الليل لما يوفره من فرصة للتأمل والبحث. وطقوس الكتابة بالنسبة إلي فتتمثل في انزوائي بعيدا عن الناس. فأحيانا تباغتني الكتابة حتى في الأماكن العامة فأبادر للبحث عن قلم وورقة مسجلا خربشاتي التي أعمل على تنقيحها لا حقا...