يميز الناقد والمؤرخ الألماني هانز روبرت ياوس بين ثلاثة أزمنة قرائية، زمن القراءة الموسومة بالدهشة، وزمن القراءة الاسترجاعية، وزمن القراءة التاريخية. وهي أزمنة لا تتحقق دفعة واحدة بل على مراحل، كما أنها لا تتحقق إلا مع الأعمال الراقية،أي بحسب قوةالعمل الأدبي وقدرته على خلق الدهشة الجمالية لدى القارئ وعلى تواجده في مختلف الأزمنة. ونفترض أن الشعر المغربي الحديث في كثير من نماذجه لم يتجاوز بعد زمن القراءة الأول الموسوم بالدهشة لاعتبارات عدة لعل أهمها ندرة القراءات النقدية، مع العلم أن كثيرا من التجارب الشعرية لازالت وستظل قادرة على أن تخلق سيرورة نقدية لو تم الاهتمام بها لأنها مؤهلة لذلك. إن إشكالية تلقي النص الشعري الحديث والمغربي تحديدا لا ترجع إلى النص الشعري في ذاته فحسب، ولا يتحمل مسؤوليتها الشاعر وحده،ويخطئ من يعمم الحكم على جميع التجارب الشعرية بمختلف حساسياتها،ويحمل المسؤولية طرفا دون آخر،لأنه بذلك يبتعد كل البعد عن الموضوعية، وقد ينمحكمه عن التعصب لنمط شعري وجهل شبه تام بما صدر ويصدر من دواوين شعرية حديثة تستحق أن يقف عندها القارئ الناقد وقوفا متأنيا، لما تزخر به مدونة الشعر المغربي الحديث من كنوز تحتاج إلى مواكبة مستمرة واهتمام كبير، لأنها لم تنل حظها المطلوب، ولأنها قادرة على أن تغير آراء كثيرة وتجعل القارئ يعيد النظر في أحكامه الجاهزة. ومن التجارب الشعرية الرائدة التي لم تنل حظها الوافر من الدراسة والبحث والتحليل، على الرغم من قوتها وأهميتها ورقيها،تجربة الشاعر المغربي الكبير عبد السلام بوحجر و(وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ) تجربة فريدة ومميزة ومثيرة للقراءة بالفعل، كيف لا ونصوصه الشعرية ضرب من السحر وآفاق رحبة من البهاء والصفاء والغناء وعوالم ممتدة من السمو والخيال والجمال، ويكفي أن نقف في هذه القراءة عند ديوان من دواوينه الشعرية الموسوم ب (ستة عشر موعدا) ليتأكد بأنه يشكل علامة فارقة في مساره الشعري الحافل بالعطاء، ونرغب في الكشف عن بعض الأسرار التي تجعل النص الشعري عند الشاعر عبد السلام بوحجر يرقى ليمارس سحره على القارئ ويشد انتباهه واهتمامه بشكل مدهش قد يعز نظيره. في الرّوحِ لَوْحَتُها مُعَلَّقَةٌ/ تُعَلّمُهُ الْبيانْ/ وبِنونِها تَمْتَصُّ أحْلى ما لَدَيْهِ:/ غِناءَهُ ونُعاسَهُ/ تُفْضي إليْهِ بأمْرها:/ اذْهبْ في قراءَتها الْجميلةِ يا جَميلُ/ لكَ الْجَنى والْجَنَّتانْ/ فبأي آلاءِ الْحَكيم تكذبانْ؟ يثير ديوان (ستة عشر موعدا) للشاعر عبد السلام بوحجرالقارئ على عدة مستويات تكوينية بدءاً من العنوان مرورا باللوحة وصولا إلى نصوصه الستة عشرالمحبوكة حبكا فنيا جيدا، وتؤشر عليها متوالية العنوان الذي جاء مركبا من العدد (ستة عشر)،وهو نفسه عدد قصائد الديوان، والمعدود (موعدا) وهي صيغة استعارية وصفة مميزة للمعدود وجوهرية للقصيدة التي لا تأتي إلا في موعدها وعلى وقع من ينتظرها وفي مستوى ومقام الحضور، والحضور في الموعد يعني الوفاء والنقاء والصفاء، والموعد لحظة وصال حميمة ولحظة انصهار وانبثاق تعني التآلف التام والانسجام المطلق بين طرفين متناغمين، والقصيدة عند الشاعر هي موعد خاص مع أنثى الجمال بمختلف دلالاتها التأويلية والرمزية: يَضْرِبُ لِلْجَمالِ ألْفَ مَوْعِدٍ/ وَمَوْعِدِ/ يَهُزُّهُ الرَّحيلُ والْغِناءْ/ لِيَشْرَبَ الرَّحيقَ والسَّناءْ/ في كُلِّ زَهْرَةٍ…وكُلّ مَوْرِدِ.. لا يمكن تجاوز عتبة لوحة الغلاف لأنها ليست تحصيل حاصل كما يعتبرها بعض القراء بقدر ما تشكل مؤشرا فنيا دالا بقوة على افتراض قبلي ممكن يتبلور بشكل فعلي استنادا إلى جملة ملاحظات عامة يؤسسها القارئ لتحفزه على قراءة نصوص الديوان وذلك بتأكيدها أو دحضها عبر سيرورة القراءة؛ ونحن ها هنا أمام لوحة تتقاطع مع مدلول العنوان على عدة مستويات متداخلة لأنها تتألف من ثلاثة مكونات مركزية في تشكيلها للوحة ومحورية في المتخيل الشعري عند الشاعر عبد السلام بوحجر، هي الأنثى والرقص والغناء في فضاء جميل. وتُوَلّد هذه العناصر جميعها قيما جمالية، إذ لا يمكن للرقص أن يحضر ويغيب صنوه الغناء ولا بد للرقص من ذات فاعلة تحققه على مستوى الواقع بانسجام وتناغم وجمال، وهي مداخل أساسية لقراءة نصوص الشاعر عبد السلام بوحجر. يضم الديوان ستة عشر نصا شعريا وزعت على ثلاثة أقسام لكل قسم باب يؤطره عنوان فرعي؛ الأول (ضَمائِرُ الْجمالِ) ويشمل خمسة نصوص (مَقامُ الْهَوى/ مَقامُ الْجُنونِ/ رَقْصَةُ الْوَصْلِ/ هِنْد/ مِنْ أوراقِ حُبٍّ قَديمَة). والثاني تحت عنوان (أصْداءُ الرَّحيلِ) ويشمل سبعة نصوص (بَريدُ الْأبَجَدِيَّة/ نَجْمَة/ مَعْزوفَةُ الرِّمال/ أصْداء/ مِنْ أوْراقٍ مُهَرَّبَةٍ/ اَلْقَسَم/ في بابِ الْبَحْرِ). وأما الثالث فوسمه الشاعر ب (كافٌ.. ونونٌ..) ويشمل أربعة نصوص (دَرْسٌ في الْحُبِّ/ رَبيعُ الْغَضَبِ/ أصْواتٌ مِنَ الدّاخِل/ وَرْدَةُ الْإيقاعِ). وعلى الرغم من افتراض هيمنة البعد الوجداني على القسم الأول، والبعد الوجودي على الثاني ، والبعد الذاتي على الثالث إلا أن هذا لا ينفي التداخل بين مختلف نصوص الديوان. سنحاول أن نطل على عالم النص الشعري من منظور سحر الكلمة الشعرية في علاقتها بالرؤيا والإيقاع باعتبارهما من أهم المقومات الفكرية والفنية والجمالية. سِحْرُ الكلمة/ الجمال: لعل الكلمة الشعرية هي اللبنة الأساس التي يتشكل بها ومنها النص الشعري، وتحظى الكلمة عند الشاعر عبد السلام بوحجر بعناية خاصة واهتمام كبير ذلك أن الشاعر يُنَبر عليها في كثير من السياقات النصية كما أنه لا يضعها إلا في مكانها الملائم وفي السياق المناسب وفي الموعد المنتظر لأنه يدرك مدى أثرها في النفس البشرية وعلى نفسية القارئ تحديدا ويعي مدى مكانتها عنده، ومن ثمة تشكل الكلمة بؤرة دلالية مؤشرا عليها في كثير من النصوص الشعرية،فتجسد قوة توليدية تشع بمدلولها لتنعكس إيحاءاتها على نسيج النص كله ويسري نغمها الواعد بعد عناء فيدب في شرايين القصيد ليتدفق الخصب والشعر والجمال: تَجيئينَ كَيْ تَعْصِري في شَراييني شِعْري/ جَميلَ جَمالِ جَمالِكْ../ وَكَيْ تولَدي بَعْدَ أمِّكِ مِنْ كَلماتي/ وَأُولَدَ بَعْدَ عَذابي أنا مِنْ خِلالِكْ. إن الكلمة الشعرية مظهر من مظاهر الجمال في النص الشعري، بل إن النص يولد من خلالها، فهي الأصل في كل شيء جميل،ويأتي بها ومنها وبعدها الكل،ما دامت الجمل تتشكل من الكلمات لتشكل نصا. والشاعر يتصيد الكلمات في موعد نضج الرؤيا فيبحث فيما يتوارد على خاطره وما يتناغم والذات الشاعرة وما ينسجم والمقام، ويتخلى عما لا يريد قوله معرضا عن الخوض في كل قول لا يرقى إلى اللحظة الموسومة بالبهاء والنقاء والرِّفاء. والشاعر من أجل ذلك يرحل باحثا عن درر الكلمات متحررا من الكلام الذي لا يريد قوله في إشارة إلى الترفع عن كل ما يعكر صفو اللقاء، وعن كل ما يدنس أخلاقه فيعرض عن كل فعل دنيء أو قول بذيء أو شعر رديء: أحَقّا تُريدينَ أنْتَأخُذيني/ إلى أرْضكِ اللغوية يا بلْسَمي؟/ حَرريني مِن الْكلمات التي/ لا أريدُ قوْلَها/وامْنحيني مِنَ الآن حُريتي في الْكلامِ/ لأختار أنشودتي ..معجمي../ كيْأحَلق نحو الْبَعيدِ.. ولا تولد الكلمة إلا وفق شروط بمقتضى مقام مقول القول الشعري وهو ما يجعلها لا تأتي إلا كالموعود بهافتغدو وكأنها المولود المنتظر في الزمان والمكان لتشع بمدلولها القوي فيسري دبيبها في السابق واللاحق من القول الشعري، وما غيرها عنها بذلك ببعيد ما دام يصعب على القارئ أن يميز في النص الشعري عند الشاعر عبد السلام بوحجر بين القوي وغيره لأنها في مستوى واحد من القول.وإذا كانت القصيدة عند الشاعر عبد السلام بوحجر تتفقد أثر الجمال في كل شيء في الوجود فإن إدراك الجمال قائم على امتلاك مفاتيح الولوج إلى تلك العوالم المبهرة ولا يتحقق ذلك إلا بالكلمة الشعرية ومن خلالها وعبرها فقط. الموعد في حد ذاته ساحر لأنه تأرج بيني قائم على تحقيق التناغم، والمثنى زوج ورمز للخصب والحب والوجود، والشاعر لا تأتيه الكلمة لوحدها بقدر ما تأتي حمالة أوجه تحيل على مثيلها أو نقيضها إحالة ضمنية أو صريحة، وهو ما يجعل المدلول الشعري متدفقا لأنه لا يخضع للتحديد المطلق، سواء على مستوى المعجم أو على مستوى اطراد أساليب شعرية إنشائيةلا يصح الحكم على مدلولها بأنه صادق أو كاذب مادام التحقق احتمالا ممكنا لا يكتمل إلا مع القارئ. وعلى هذا الأساس لا تولد الكلمة إلا وفق شروط تقتضي مقام القول الشعري ولا يتهيأ المقام إلا بحصول تناغم بين أزواج الكلمات لتخصيب الرؤيا التي تصدر عنها نصوص الديوان. والكلمة الشعرية كائن وجودي له حضوره الفعلي في عالم النص الشعري وله وضع مميز في تجربة الشاعر ووقع خاص على نفسية القارئ. فبالكلمة وعبرها ومن خلالها يرحل الشاعر في عالم الذات ليكشف الحكمة والحقيقة والجمال: قادَتْ خُطايَ إلى ظلالي نَجْمتان/ لأرى وأسْمَعَ داخِلي مِنْ خارجي/ وعَلى الْمُغَنّي أنْ يَزورَ غيابَهُ/ بَعْد التورُّطِ في الظّلالِ/ ففي الزّيارة حِكْمتان:/ أنْ يَفْتحَ الماضي ليقرأهُ/ بلا خوفٍ عليهِ/ ويَفْتحَ الآتي لأنْسامٍ/ تُجَدِّدُ روحَهُ في كُلّ آنْ..! الكلمة الشعرية الساحرة والشاعرة هي تلك التي تشع بمدلولها الإيحائي والمرجعي على نص غائب فيحضر على سبيل التضمين، ولعل التوظيف الجيد للكلمة عبر التناص وعبر تقنيات فنية وأساليب متعددة ميسم مميز للنص الشعري عند الشاعر عبد السلام بوحجر وخاصة الإحالة على القرآن الكريم من خلال كلمات منتقاة بعناية مركزة وبتوظيف جيد يخدم المقام ويغني الرؤيا التي يستند إليها النص. بحيث يطرز الشاعر النص الشعري بكلمات لها وضع خاص في مخيلة القارئ وتأثير قوي على نفسيته فتأتي في وضعها الملائم، لا من أجل الزخرفة والتنميق بل لتؤدي وظيفة جمالية محملة بمدلولها السردي ومولدة لمدلول متخيل جديد من خلال حسن التوليف والتناسق والانسجام، هكذا تغدو سورة المعجم الشعري في صورته وشكله وهيأته: ولَكَمْ راوَدَتْكَ التي كُنْت في بيْتها/ يا فتايَ/ وقدَّتْ فميصَك من دبُرٍ/ وقالت بلا خجلٍ/ هيتَ لكْ!/ هيتَ لكْ! وهكذا فسحر الكلمة يكمن في كونها تروم التوسط لتحقق المقروئية، ولعل السياق والقدرة على تطويع المعجم ما يجعلها تؤدي هذا المدلول الشعري وفق مقوماته، وهي قناعة يؤمن بها الشاعر وخاصية يعبر عنها ويعمل بها في شعره وتصب في مفهومه للشعر الذي ما يفتأ يبسط بعض آرائه في ثنايا قصائده. كل هذا وغيره كثير يكسب الكلمة شعريتها ويجعلها ساحرة لا تأتي إلا في الموعد الموعود وتنزل وفق المقام الملائم لها وتركب السياق القولي الذي يجعلها مهيأة لما وضعت له فتقع على نفسية القارئ بردا وسلاما لتمارس غوايتها وسحرها. سحْر الرّؤيا/ الحكمة: تتميز الرؤيا التي يصدر عنها الشاعر عبد السلام بوحجر بالعمق الفكري والامتداد الزمني واللاتحديدالفني فهي قائمة على التوقع لا على الواقع وعلى الاحتمال لا على الاكتمال وعلى منطق الصمت لا على منطق القول وحده، على اعتبار أن ما هو مذكور لا يكون له معنى إلى باعتباره مرجعا لما لم يذكر وفي ضوء ما لم يذكر، وعلى هذا الأساس تظل الرؤيا منفلتة في مجمل نصوص الديوان شأنها كشأن كل شيء جميل مما يعكس فلسفة الجمال كهاجس يشغل الشاعر في مقوله الشعري بشكل ملحوظ في جل نصوص الديوان. والملاحظ أيضا تَنْبير الشاعر على المثنى وعلى العدد اثنين كمقوم أساسي ليس في بناء الصورة الشعرية وتأثيث الرؤى فحسب ولكن في بناء وهندسة مدلول النص الشعري بوجه عام. إذ يقوم المتخيل الشعري على جدلية بين طرفين تحضر بقوة وتقوم على التأرجح بين الاتصال والانفصال فلا تأخذ الألفاظ مدلولاتها إلا في علاقتها بغيرها. فكل شيء يولد من الأسماء ويؤول المدلول الشعري إليها وبها تتشكل الجمل فالأبيات ثم القصيدة. وما دامت الرؤيا منفلتة فهي تتلبس كثيرا من العناصر الشعرية التي يستحضرها المتخيل الشعري عند الشاعر عبد السلام بوحجر؛ فهي أنثى الجمال في أبهى مظاهرها، وهي اللحظة الجذلى في أجل تجلياتها، وهي القصيدة المثلى في أجمل تحققاتها. يقول في قصيدة (نجمة): أسَمّيكِ في عَتْمتي نَجْمَتي/ حِكْمَتي/ رَعْشَة النَّهَوَنْدٍ/ أسَمّيكِ نَفْسي/ وظلّي وشَمْسي/ وشَهْدي/ ونَوْمي وَحُلْمي وسهدي/غِطائي..سَريري.. وَوَرْدي.. هكذا تسعى الرؤيا إلى مقاربة أنثى الجمال في عالمها البين بين، بين الحضور والغياب، أنثى جمعت من المحاسن ما لم تره العين وما لم يخطر على بال بشر، ولا شك في أن سحرها يحيل على أسمى ما في الوجود من آيات الجمال والخلق والبهاء. والشاعر يقف مشدوها أمامها ولا تسعفه العبارة في ملاحقة سموها الشاهق ونفورها الدائم وتجلياتها المضمرة، هي إذن أنثى قدت من خيال الشاعر ونسمة من الرياحين لا تهُب عليه إلا في موسمها الذي ترتضيه لنفسها، ونغمة عذبة من حنين يجنح لمقام الصِّبى والصَّبا والصبابة. وسحر الرؤيا يكمن في التأرجح الوجودي للذات الشاعرة عبر الزمن وانفلاته والمكان وتداعياته، بين الماضي والمستقبل، ويكمن في التأرجح الذاتي عبر سمو الذات الشاعرة بذاتها عن ذاتها، والتأرجح المقامي لمقال القول الشعري بين الواقع والتوقع. يرى الشاعر في الرمال رمز الغياب ويرى في الحضور رمز الغناء وكل منهما يعزف لحن الحب والأمان والحياة. ويتفاعل الحضور والغياب في رؤيا الشاعر التواقة إلى الجمال: أرى نَفْسي الْبَعيدَةَ في الرّمالِ/ كَأنَّ قانونَ التّشابُهِ بَيْننا/ هو سَيِّدُ الْأشْياءِ في هذا الْمَكانْ! تتعدد ضمائر الجمال عند الشاعر عبد السلام بوحجر بتعدد مقامات القول الشعري وباختلاف الرؤياالفكرية المؤطرة له،ومنها الهوى والجوى، واللقاء والفراق، والذكرى والتذكر، والخصام والوصال، والعقل والجنون، والحقيقة والخيال، والخصام والوصال، والرقص والغناء..وأصداء الرحيل هي جملة مواقف ورؤى وأسئلة يعرضها الشاعر وهو يعيد النظر ويقلب الفكر في علاقته بالقصيدة التي كتبها بالفعل وتلك التي لم يكتبها وتلك التي كتبت نفسها بنفسها، ويعكس هذا مفهومه للكتابة التي تظل في الديوان المقروء رهانا حاضرا في كل نص شعري في بعده الوجودي والجمالي والرسالي. كما يتجلى سحر الرؤيا فيما تولده القصيدة عند الشاعر عبد السلام بوحجر من مدلولات وجدانية ووجودية وذاتية لا تنسحب على الذات الشاعرة وحدها بل تسع كل ذات تواقة إلى المعرفة والحكمة والحقيقة. ولا تخفى على القارئ تلك الآراء الثاقبة والإشارات الذكية التي تتخلل النص الشعري مما ينم عن نضج الرؤيا وقوة خصوبتها. من قبيل قول الشاعر: اَلْجِسْمُ يَنْضجُ في بلادِ الشّرْق قبْلَ الْعَقْلِ أحْياناً. حِكْمة الشُّعراءِ تَهْزِمُها الْعطورُ. نَحْتاجُ أحْيانا إلى الْخُروجِ منْ عاداتِنا/ كَيْ نَنْفضَالْأعْباءَ مِنْ أعْماقِنا. وحْدَهُ الطّفْل فينا يُحَرِّرنا/ منْ غُبارِ النفاقْ. سَتدركُ أنَّ الأنوثَةَ حينَ تفيضُ هياماً/ كشلال نورٍ وماء. ولا شك في أن سحر الرؤيا الشعرية يكمن في عمقها فالشاعريستبطن الرؤى الفكرية ويترجمها فنيا لتتم قراءتها وتلقيها تلقيا جماليا. فالذات الشاعرة تستغور الرؤيا المراد نسجها فيتم النبش في غياهب الصمت للكشف عنها وفق أقنة فنية ورمزية وثقافية وللتعبير عن قناعاتها وقيمها ومبادئها الراسخة التي جعلتها وتجعلها تأبى أن تنزوي خلف جدار السجن وتظل باكية وشاكية ومتبرمة. فلا مناص للذات من البوح الجميل لتُحرر نفسها بنفسها وتحرك ما بداخلها من حجر السكون ومن جليد الصمت وتفتته بأشعة الكاف والنون: ربَّما هَكذا/ أعْتلي حاجزَ الصَّوْتِ والصَّمْت في داخِلي!/ وأكونُانْطلَقْتُ إلى مَوْعدٍ مَع نَفْسي…/ وخالَفْتُها في الذَّهاب إلى نَفْسِها نَفْسِها…/ ثُمَّ أوْقَفْتُ هذا الزَّمانَ على رُكَبتيَّ/ كشيْءٍ عَصِيٍّ/ وحاصَرْتُه/ ثُمَّ عاصَرْتُهُ/ وَعَصَّرْتُهُ شِعْراً يَسيلُ دَماً/ وغنىً…وَغِنَا…! سحْرُ الإيقاع/ الغناء: يعتبر الإيقاع ظاهرة فنية تفرض نفسها على الدارس بقوة في شعر الشاعر عبد السلام بوحجر بحيث يغدو ضربا من السحر، ومن ثمة لا يختلف اثنان حول أهمية الإيقاع في نصوص الديوان المقروء وفي مختلف دواوين الشاعر من حيث كونه يشكل مكونا أساسيا مميزا لشعريته وشاعريته. إذ يسعى الشاعر إلى أن تكون القصيدة قطعة إيقاعية محبوكة باحترافية عاليةلتطرب القارئ وتشد انتباهه من بدايتها حتى نهايتها وذلك لانسجام أصواتها وتناسق حروفها وجمالية أنغامها وقوة تناغمها مع الذات في علاقتها بمختلف عناصر الطبيعة والكون والوجود. يتولد سحر الإيقاع عن طبيعة انسيابية المدلول الشعري وديناميته المستمرة، ذلك أن لكل قصيدة في الديوان حركية مضبوطة وهندسة محكمة تتحكم في مشاهدها ولوحاتها وتنظيم العلاقة الجدلية القائمة بالقوة بين مختلف مقاطع النص الشعري. ويغدو الموعد إيقاعا نفسيا وموسما للخصب والغناء على مقام الحروف في حضرة الألق، وموعدا للاعتراف والبوح والوصل الجميل والتذكر والحنين في حضرة الذات الشاعرة التواقة إلى الرهافة والكمال والجمال في تناغمها مع ذاتها أولا ومع العالم من حولها ثانيا. وسحر الإيقاع ملمح يتسم به شعر الشاعر بل ويتفرد ببعض خصائصه لأنه ليس مكونا فنيا أساسيا في النص الشعري عنده فحسب وإنما يغدو في كثير من النصوص هاجس الشاعر وديدنه، بحيث ينشده في شعره وكأنه الهواء الذي يتنفس، والماء الذي يشرب ويخصب اشجار قصائده، والتربة التي تزهو بها ومن خلالها وفي حضنها نصوصه الشعرية: أمّا اليَقينُ.. فَوْحَدُه الإيقاعُ/ يُبْقيني على قَيْدِ التَّنَفُّسٍ والْحياةِ. ويتجلى سحر الإيقاع في تناغم الذات مع ذاتها وفي إصرارها على المضي قدما نحو ما سطرته لنفسها، نحو الحلم والأمل والنور والخصب والحياة والجمال، دون تذبذب أو رجوع أو نكوص أو خمول، فلا مناص من الاستمرار على درب القصيدة وعلى نهج الحب توقا وشوقا إلى عالم فاضل عالم الحرف النبيل دون اكتراث بكيد الكائدين الحاسدين ولا من ركب البلاغة الجوفاء وتاجر بالقصيدة. ولعل سحر الاصرار في علاقته بالذات الشاعرة يتجلى بقوة في وحدة الهدف ووضوح الغاية وبيان المراد وهي: الحب والأمل والألق وفي ذلك تكمن الحقيقة والحكمة: تُلْقي قَصيدَتَها على حَجَرِ التَّوازنِ مَوْجَتَيْنِ/ تُدَغْدِغانِ العودَ والمَوْعودَ:/ واحدَةٌ تَقودُ الرّوحَ نَحْوَ الْقاعِ بِالْإيقاعِ/ أخْرى تَحْمِلُ الدُّنْيا/ على أرْجوحةِ الرُّؤيا إليَّ/وَلَوْ على جَبَلٍ مِنَ الْأملِ الضَّئيلْ..! ويمكن للقارئ أن يقف عند جملة ملفوظات شعرية تدل على أن الإيقاع ليس مكونا مهيمنا على جميع النصوص الشعرية فنيا فحسب بقدر ما يجعل الشاعر عناصر الإيقاع والموسيقى مكونا بنيويا يحضر داخل النص كمفكر فيه وهو يبرر حضور البنية الإيقاعية وهيمنتها، ويجعل النص الشعري في كثير من النماذج قطعة موسيقية قابلة للغناء لأنها تأتي طربية وكأن سحر الموسيقى سر وجودها ومركز قوتها وألقها. ويجد القارئ حضورا قويا لظواهر صوتية وفنية تخدم بكثافة البعد الإيقاعي بما في ذلك من تكرار استرجاعي وتضادي وتقابلي وجناس تام وغير تام واشتقاق بمختلف أشكاله وتواز لفظي وتركيبي ومقطعي. كما يمكن أن يلاحظ القارئ أن الروي كصوت مُنَبَّر عليه لا يختفي إلا ليظهر من جديد وليظل يمارس لعبة الإخفاء والتجلي ويولد لدى القارئ إحساسا بالجمال ويمنح للنص تناسقه الصوتي. ولا يتوانى الشاعر في أن يصور الملفوظ عند تكراره وكأنه ترديد مستمر لاسم من يحب على إيقاع دقات قلب الشاعر. وهكذا يغدو الإيقاع قوة داخلية تحرك الشاعر وتفرض عليه نفسها وهي التي لا تتشكل إلا وفق ما يتلاءم ورؤيا الشاعر، ولا غرابة في ذلك مادام القلب مصدر الإلهام والغناء والحب: لَكِنَّ فُؤادَهُ مِثْلَ السّاعَةِطولَ الْوَقْتِ يَدُقُّ/ كَأنَّ الدقَّة.. تِلْو الدقَّةِ.. تِلْو الدقَّةِ../حينَ تُطارِدُها أوْ تَسْمَعُها لَيْلاَ/ لا تَعْنِي في لُغَةِ الْحُبِّ الْفُصْحى إلاّ/ لَيْلَى..لَيْلَى..لَيْلَى..!!! إن النص الشعري عند الشاعر عبد السلام بوحجر كلٌ متكامل، ذلك أن الحديث عن مكون ما لا يلزم وما ينبغي له أن يتم بمعزل عن باقي المكونات الفكرية والفنية والجمالية. فالكلمة الشعرية تُلقي بظلالها على النص كله فيسري سحرها في جسمه ويخصب مختلف أطرافه وأجزائه، كيف لا والنص الشعري ذاته قُدَّ من ذات الشاعر نفسه بصدق ووضوح وبيان. وهو ما يجعل القصيدة تنطلق في حركة دائبة وحثيثة لا تهدأ حتى تصيب الهدف وتبلغ الغاية في سياق رحلتها الساحرة عبر زمن الكتابة وهي في خضم ذلك تقتنص أجمل الكلمات وأطيبها وتجلب لذائذ الكلم وأحلاه وجميل الصور وأدقها وأطرب الإيقاعات وأنغمها وأرقى المدلولات وأرقها وأعذب الأساليب وأفصحها. وعليه فإن سحر الكلمة الشعرية يجعلها أم القصيدة وبنت الشاعر، ويتوحد الشاعر والكلمة في مقام العشق والجنون فيغدو الجنون عشقا والعشق جنونا، فتنصهر الكلمة وذات القصيدة انصهارا عجيبا، ولا غرابة في ذلك ما داما يصدران معا من أعماق الشاعر، ويرقى بهما عبر الرؤى الشعرية وتوقا إليها إلى أعلى مقام في تناغم ساحر يعكس التوحد بين الذات والقصيدة والعالم في علاقة قوية تنم عن نضج الرؤيا الشعرية وجدانيا ووجوديا،علاقة ظاهرها ساحر وباطنها من قبله الألم والشجن. وعندما تأتي القصيدة على نهايتها يدرك الشاعر أنه لم ينل من اللحظة الجذلى الواعدة والموعودة إلا القليل وأن ما كان يصبو إليه أجلى وأسمى وأرقى مما عاشه في تجربته ومما تخَيله في شعره، فيبقى الشاعر والقصيدة على اتصال شبه مستحيل كل منهما ينشد الآخر كقمرين جميلين يتقاربان ويتناجيان ثم يبتعدان. لا أسْبقُ الرُّؤيا إلى الْإيقاعِ مثْلُ الصّانعِ الْحِرَفِيِّ/ في قَلْبي هُما يَتعانقانْ/ يَتناجيانِ ويَشْرَبانِ ويَكْبُرانْ. يتبين من خلال هذه المقاربة أننا لازلنا بالفعل في زمن الدهشة الجمالية، وأننا ما فتئنا نبحث عبر فعل القراءة عن تبرير مقنع لهذه الدهشة مع النصوص والتجارب الشعرية الراقية تحديدا أي تلك التي تتعالى عن زمنها الأول، وأن تبريرها يقتضي مضاعفة الفعل القرائي كما يستلزم تعميم شبكة التأويل لتشمل جل أو أهممقومات النص الشعري المغربي الحديث والمعاصر. وأن هذا الأمر يتطلب قراءة النص من منظورات منهجية متعددة ومختلفة. وعلى هذا الأساس يغدو ما قيل عن سحر الكلمة الشعرية في ديوان (ستة عشر موعدا)مبررا في علاقته بمختلف العناصر المشكلة لجمالية العالم الشعري عند الشاعر الكبير عبد السلام بوحجر ما ذكر منها وما لم يذكر.