بوعياش تحظى بدعم إفريقي لرئاسة التحالف العالمي لمؤسسات حقوق الإنسان    صادرات الفلفل المغربي إلى أوروبا تسجل قفزة كبيرة بنسبة تفوق 65%    توقيف طبيب وشخص من ذوي السوابق ببركان للاشتباه في ترويج المؤثرات العقلية    بركان.. توقيف طبيب وشخص من ذوي السوابق بتهمة ترويج المؤثرات العقلية    تحذير من أمطار قوية ورعدية غدا الثلاثاء بعدد من الجهات    الدار البيضاء: المحكمة تقرر تمتيع أخت جيراندو بالسراح المؤقت وتسليم ابنتها 'ملاك' لها    بعد استهدافها بهجوم إلكتروني.. لجنة مراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي ترد    المغرب وفرنسا يوقعان إعلانا مشتركا لتعزيز التعاون القضائي والقانوني    الرئاسة السورية تعلن توقيع اتفاق مع الأكراد يقضي باندماج قوات سوريا الديمقراطية في مؤسسات الدولة    شفشاون تتصدر مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية.. وهذه توقعات الثلاثاء    قصر الفنون يحتضن سهرة روحانية ضمن فعاليات "رمضانيات طنجة الكبرى"    زيلينسكي يصل جدة للقاء ولي العهد    1068 قتيلا مدنيا في الساحل السوري    ندوة صحفية لوليد الركراكي الجمعة    الأمم المتحدة: افتتاح الدورة ال69 للجنة وضع المرأة في نيويورك بمشاركة المغرب    اجتماع "لجنة المالية" يشعل غضب مكونات المعارضة في مجلس النواب    وزارة السياحة: المغرب يستقبل نحو 2,7 مليون سائح عند متم فبراير    "تساقطات مارس" تحيي آمال المزارعين في موسم فلاحي جيد بالمغرب    "الأحمر" ينهي تداولات بورصة البيضاء    المغرب يحيي ذكرى محمد الخامس    الانتقادات تلاحق الإنتاجات الرمضانية .. حضور موسمي في غياب للإبداع    كلية الآداب والعلوم الانسانية بالمحمدية تنظم احتفالاً باليوم العالمي للمرأة    دراسة أمريكية.. قلة النوم تزيد من خطر ارتفاع ضغط الدم لدى المراهقين    حماس تقول إن إسرائيل "تواصل الانقلاب" على اتفاق الهدنة في غزة    مقاييس التساقطات المطرية المسجلة بالمملكة خلال ال24 ساعة الماضية    اعتقال سائق سيارة أجرة بتهمة الإخلال بالحياء    الجزائر تغازل إدارة ترامب وتعرض معادنها النادرة على طاولة المفاوضات    فالفيردي يصل إلى 200 مباراة في "الليغا"    فتح باب الترشح لنيل جائزة التميز للشباب العربي 2025 في مجال الابتكارات التكنولوجية    ملخص كتاب الإرث الرقمي -مقاربة تشريعي قضائية فقهية- للدكتور جمال الخمار    "البيجيدي" يطلب رأي مجلس المنافسة في هيمنة وتغول "الأسواق الكبرى" على "مول الحانوت"    أوضاع كارثية وأدوية منتهية الصلاحية.. طلبة طب الأسنان بالبيضاء يقاطعون التداريب احتجاجا على ضعف التكوين    "نساء متوسطيات" يمنحن مراكش أمسية موسيقية ساحرة    من وهم الاكتفاء الذاتي إلى استيراد مليون رأس غنم بشكل مستعجل! أين اختفت السيادة الغذائية يا تبون؟    إدارة السجن بني ملال تنفي ما تم تداوله حول وفاة سجين مصاب بمرض معدي    حقيبة رمضانية.. فطور صحي ومتوازن وسحور مفيد مع أخصائي التغذية محمد أدهشور(فيديو)    كيف يتجنب الصائم أعراض الخمول بعد الإفطار؟    قلة النوم لدى المراهقين تؤدي إلى مشاكل لاحقة في القلب    الكوكب يبسط سيطرته على الصدارة و"سطاد" يستعد له بثنائية في شباك اليوسفية    "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ..؟" !!(1)    أدت ‬ببعضها ‬إلى ‬الانسحاب.. شركات مالية ‬مغربية ‬تواجه ‬أوضاعا ‬صعبة ‬بموريتانيا    في رثاء سيدة الطرب المغاربي نعيمة سميح    هَل المَرأةُ إنْسَان؟... عَلَيْكُنَّ "الثَّامِن مِنْ مَارِسْ" إلَى يَوْمِ الدِّينْ    غاستون باشلار وصور الخيال الهوائي :''من لايصعد يسقط !''    ترامب: التعليم في أمريكا هو الأسوأ في العالم    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين    نهضة بركان على بعد خطوة من تحقيق أول لقب له بالبطولة    كوريا الجنوبية/الولايات المتحدة: انطلاق التدريبات العسكرية المشتركة "درع الحرية"    عمر هلالي يعلق على أنباء اهتمام برشلونة    الصين تعزز الحماية القضائية لحقوق الملكية الفكرية لدعم التكنولوجيات والصناعات الرئيسية    دراسة: الكوابيس علامة مبكرة لخطر الإصابة بالخرف    أبطال أوروبا .. موعد مباراة برشلونة ضد بنفيكا والقنوات الناقلة    إسرائيلي من أصول مغربية يتولى منصب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي    مباراة الوداد والفتح تنتهي بالتعادل    بطل في الملاكمة وبتدخله البطولي ينقذ امرأة من الموت المحقق … !    8 مارس ... تكريم حقيقي للمرأة أم مجرد شعارات زائفة؟    الأمازِيغ أخْوالٌ لأئِمّة أهْلِ البيْت    القول الفصل فيما يقال في عقوبة الإعدام عقلا وشرعا    









بلاغة الترسل والبعد الإنساني في “عناقيد” للكاتب المغربي بدر العمراني
نشر في بيان اليوم يوم 01 - 02 - 2019

يضم كتاب”عناقيد” لمؤلفه بدر العمراني خمْسَ عشْرَةَ رسالةً صدَّرها بمقدمة أطَّر فيها رسائلَه منطلقا منهجيا يخُطُّ به طريقته في الكتابة، دعما لهذا التقليد الأدبي الذي أسس لنفسه أدبياتٍ تناقلتها الأقلامُ، وأعرافُ الكتابة الترسلية عبر العصور، ليحصر جوهرَ الكتابة عنده في إشارات لمَّاحة لكنها بائنةٌ عن المقصود؛ أوجزها في قوله بأن مواضع الرسائل “طريفةٌ تتقلب في أودية الأدب شعرا ونثرا: تقويما لأسلوب، وإعجابا برمز، وإيقادا لفكرة، وتنويرا لعِبرة، وتنويرا بفطرة، وإبرازا لإبداع..” (ص: 9.)
ولم يفُوِّتِ الكاتب الفرصةَ ليُقدم توصيفا تذوقيا لكتابة فن الترسل باعتباره صنعةً يأتلف فيها رصف الألفاظ بروح إيقاع الكلام والشعور، وتوليد حُلو المعاني، حتى تنعمَ النفوسُ بقراءتها لترفع مقال صاحبها وهو يبث المواجد الصادقةَ؛ مستشهدا بما دبَّجه الأوائل الكرام؛ بدءاً بسيد الخلق أجمعين نبيِّنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم، ثم الملوك والأمراء والعلماء، والأدباء؛ من قبيل: الجاحظ، والشريف الرَّضي، وأبي العلاء المعري،.. ومن العصر الحديث؛ أحمد زكي باشا، ومحمد صادق الرافعي، وشكيب أرسلان، ونزار قباني، وعبد السلام بنونة، ومحمد داود، وحسن الوراكلي وغيرهم .. ليُعرِّج الكاتب على مراسلاته مع العلامة أويس محمد بوخبزة، والأستاذ محمد البغوري .. لينتهي إلى مقام التصريح باستفادته مما كُتب في الفن الأدبي، والانخراط في غماره واقعا يقدَح زناد الكتابة الترسلية، وهي مراسلاتُه مع صديقه قطب الريسوني التي شكلت لحمة الكتاب وسداه، وفجرت ينابيع حلو كلامه، عبر فترة زمنية تمتد إلى ثلاث سنوات، ليُقيدها نصوصا للقراءة وتوثيق الذكرى، والبوح ببعض أسرارها، ووظائفها، وطُرقها الفنيةِ وطقوسِ كتابتها التي يعمل فيها على عملية السبك بإعمال النظر، وتقليب الألفاظ والمعاني حتى تستوي صافية الأديم أو منظدةً في عِقْد جميل. لذلك حدد سياقاتِ عنونةِ الكتاب “عناقيد” تيمنا بمعاني “الارتباط والاتصال والاقتران والاندماج” (ص: 10).
وسار على النهج نفسه في بقية عناوين الرسائل التي تدل على روح متنها ثريا تضيء معالم النص، وتُلمِّح إلى بعض معانيه استعاراتٍ بليغة أو ألفاظاً بائنةً عن المقصود؛ فها هو الكاتب يكشف في عنوان نص “صروف الشجى”(ص:27) ومنذ الأسطر الأولى، عن فحوى الرسالة دون إطالةٍ في الديباجة خاصة عندما ارتبط المقامُ بحدثٍ جلل، وهو وفاة أستاذنا المرحوم العلامة سيدي عبد الله المرابط الترغي. لينقل لنا الكاتب أحاسيس الأسى التي انتابته وهو يكتب رسالة لأخيه قطب مستعيدا بعض ملامح الذكريات الإنسانية والعلمية مع الفقيد؛ فقيد الأدب المغربي وأحدِ رجالات علم التراجم، وهي رسالةُ وفاء وثق فيها بعض فضائل الرجل في مساعدة طلاب العلم من كل فج عميق، نصائحَ وإشرافا على الرسائل الجامعيةِ، وتنقيباً عن الكتب لإفادة الناس، وهذه الرسالة كذلك هي مناسبة لقولٍ شعري رثاءً في حق المرحوم توثيقا للأثر النفسي الذي تركه في نفس كاتب الرسالة (وفي نفسنا جميعا) وتوليدا لآثار علمية سابقة يتخذها الكاتب شاهدا على أعمال رجالات العلم الأوائل ممن ساروا على الطريق نفسه؛ في إفادة الناس رغم مرضهم كأبي الريحان البيروني، وقد بث الكاتب، في هذا النص، لواعج الحسرة على فقدان العالم الجليل المرحوم سي عبد الله المرابط الترغي واصفا بعض مكارمه الإنسانية النبيلة، وحبه للنادرة، ومساعدة طلاب العلم وتشجيعهم، وجمع الكتب، والذخائر، وعظيم كرمه في إهداء كل كتبه، ومخطوطاته، ومطبوعاته، وشقاء عمره لمكتبة كنون بطنجة صدقة جارية وصنيعا قل نظيره.
أما عنوان “أطياف” فهو اشتغال على المعنى وتداعياته في النفس، وتقريظ، ووصف للسيرة الأدبية للصديق قطب الريسوني التي وشحها ب “الفراشة والمرايا” ونشرها سنة 2015، واصفا انطلاقة التعبير وعفويته كقوله: “فإن الكلماتِ تزهو جذلى بين الأنامل، تُزاحم بعضها بعضا، وتتسابق الخيول من أجل الظفر بقصب السبق.. أي منها تحسن تصوير الخيالات..طرزتها مقاطع (الفراشات والمرايا)، ليستدعي ذكرياتِ الصداقة الأولى أيام الطلب، والتحصيل، في محاولة لاستعادة الأيام الخوالي تنشيطا للذاكرة، واستمتاعا بالماضي المتجددةِ أيامُه مع الزمن لقاء علميا أو أخويا.
وفي عنوان الرسالة الثالثة “أوتار الرقة” يعزف الكاتب على ثلاثة أوتار إنسانية؛ وتر أستاذه المرحوم سي عبد الله المرابط الترغي، ووتر أبيه العلامة الترغي، ووتر صديقه قطب، وهي أوتار إنسانية يؤلف بينها الوفاء الإنساني، والاعتراف بفضل الآخرين عليه نبلا إنسانيا هو من شيم العلماء والراسخين في العلم والأخلاقِ، والأستاذ بدر العمراني من هذه الطينة العطرة التي نقرأها في دماثة أخلاقه، كما نقرأها في نصوصه صادقة المحيا صافية الأديم، كما نقرأها في صنوه الأخوي والعلمي صديقه قطب الريسوني سليل بيت علم وكرم أخلاق.
إن شاعرية العنونة تمتد في النصوص سهلة المأتى، غنيةً بأبعادها الجمالية، وإيحاءاتها اللطيفة تورية أو استعارة أو مجازا أو تلميحا أو لفظة تحمل بلاغة في نفسها رمزا دالا.
ونقرأ من هذه العناوين اللماحة إلى كنه جمالها ما يلي: سِحْرُ القصيد مُتعة الوشي مَتِّع عيونك العَيدانية بوارق الحسن، في جمالٍ.
وعنوان “نزه عيونك” اقترن، في النص، بمدينة طنجة العالية التي وصفها بالغزالة الضاحكة “أرخت خصائلها المنيرة عل بسائط الربيع المريع”(ص: 20) وقد ربطها الكاتب بمعاني وجدانية حيث تملي العيون بالمكان الطبيعي، كما اقترنت باستمتاع الشاعر بأشعار شواعر من أزمنة متعددة (اعتماد الرُّمَيْكِيَّة حسناء التميمية حفصة بنت حمدون.. ثم في الشعر الحديث: نازك الملائكة، فدوى طوقان وعاتكة الخزرجية .. أما عنوان “في جمالٍ” فراوح مكانه، تورية، بين صفة الجمال واسم العلم الصديق الأستاذ جمال البختي كما يدل عليه متن الرسالة.
اعتنى الكاتب إذن في رسائله بشاعرية عتباته سواء اهتمامه ببراعة الاستفتاح؛ بعد البسملة، أو بعنونة كل رسالة التي جاءت لماحة للمقصود في غير إبهام، مما يغري على قراءة الرسائل إشراكا للقارئ في توقع معانيها، وغاياتها ولغتها؛ حيث نلفي بين العنوان والمتن لُحمة قوية يمتد فيها معنى النص وفاء لثريا النص ( العنوان).
ويوشي الكاتب رسائله في عتبات التحية بعبارات مُحلاة بمعجم تتقاسمه ألفاظ الحواس وألفاظ القيم؛ فمن حقل الحواس يمكن أن أنتقي الشم ( نفح عبق أريج شميم العَرف الطيب يضوع أريج رحيق) والبصر (الجمال: زهر الرمان ندى شفيف يضيء، يندى ) والتذوق (المُدام عسل القند ينطف عسلا) والسمع (أغاريد صداحة).واستعمل من ألفاظ الأحاسيس الإنسانية؛ الابتهاج رقيق الشعور ينتشي الأشواق شوق.. ومن ألفاظ القيم تلفي الإخاء السلام المودة صدق الأمل الطهر.. وهو معجم يخاطب في المتلقي أحاسيسه الإنسانية النبيلة لتلقي الرسائل قيما سامية تؤلف بين قلوب المتراسلَيْن بناء لجسور متعددة كالمحبةِ والتعاون العلمي وتبادلِ الأفكار والأخبار، وأشجان الحياةِ، وأفراحِها وأتراحها وتقلباتها.
وبعد التحية يأتي الغرض الذي تحكمه بواعثُ مختلفةٌ؛ ربط فيها الكاتب رسائله برسائل سابقة إحالة أو تذكيرا أو إِخبارا أو تعبيرا عن شعور بغبطة أو أسى أو موقف أو شعور عابر؛ واصفا معاني رسالةَ الصديق، ولغتَها ومشاعرها، رابطا لجسور أخرى أدبية مقترِنة بباكورة الشاعر “ورد وحسك” وهو مقام الوصل الأدبي الذي ألهم الكاتبين بعض النصوص الشعرية التي تبادلاها في غمرة الحياة شعرا رقيق المعاني يطفح بالمحبة والمودة الأخوية، وجسرا أدبيا يمده بنسوغ الكتابة والإلهام، ويَقدح زناد العبارات، ومغناها، وشجاها؛ حيث البوح ببعض بواعث الكتابة (بلغني، سررت، تسلمت، شكري إليك موصول، أصل نقش نمنماتك، اهتز كياني، باغتني مرض، شجون سعدت، مغتبط.) ليدلف إلى الغرض في حسن مأتى، وجميل سعي، ولطف جواب، ليوشي أغلب رسائله بنصوص شعرية في وصف الطبيعة، ومختلَف الأماكن التي تملى بجمالها وأُنسِها .. فضلا عن وصفه لشعور إنساني تجاه الأبناء، أو معارضة لقصيدة سابقة، أو استعادةً لذكريات الطفولة على شاطئ مرتيل، أو إعجابا بالشخصية العلمية لأصدقاء، أو التعبير عن عاطفة جياشة..، أو مساجلة شعرية مع شاعرة، أو معارضة لنص سابق.. مما يجعل من الرسائل منبرا يختزل فلسفة أخرى في الكتابة عبر مطارحات أدبية يصقل فيها الكاتب موهبته، وينقل إحساسه بالزمن المتسارع الذي يربك قريحة الكتابة لديه، كتعبيره عن ابتعاده عن أهله الذي كان باعثا على توقد القريحة الشعرية طلبا للوصال ليخلص الكاتب إلى توثيق مناسبة بعض نصوصه “أراك تطلب وصلا” التي نشرها في دواوينه؛ ك ” ورْد وحَسَكٌ”.
الكاتب يتخذ من كل رسالة مناسبة لوصف شاعري لنصوص الصديق؛ وهو نقد تذوقي مؤصَّل بعشق قراءة عيون الشعر وتذوق معانيه، والنسج على منواله حتى يشتد عود القريحة، وتنسابَ النصوص الشعريةُ عذبة اللحن، عميقة الصورة، مرهفةَ الإحساس، سلسة اللفظ. وهذا النوع من النقد هو الأشد التصاقا بروح الشعر من برودة المصطلحات والمفاهيم، وهو وعي حاضر في رسائل الكاتب، يرسَلُ عبر إشارات نقدية لماحة لأنها تقرأ الشعر من الداخل، وتصف أثر الشعر في الروح والوجدان؛ كيف لا الشعر عند الأستاذ بدر العمراني هو ما يهز المشاعر ويوقظ القريحة، ويحفل بصدق المشاعر في قالب من الإيقاع الشفيف، والمعاني السامية، واللغة الغنية بمرجعياتها الثقافية، مما يجعل من الرسائل كتابة بالأثر النفسي الطيب للحدث والموقف، ودعوة مضمنة لتقييد العواطف الإنسانية اعترافا بأستاذية أستاذ، أو بصدى فرح بمناسبة المولود الجديد ( أويس).. إلى آخره.
ولعل سمة الصحوة الثقافية في لغة الرسائل، وأساليبِها، ومعجمها، دليلٌ قوي على قدرة الكاتب على إحياء فن الترسل الذي كثيرا ما تراخى الناس عنه في مقام التراسل الإلكتروني، أو التواصل العابر الذي يقطع نفسَهُ الممتدّ ضيقُ الزمن وعجلةُ الناس، وأحيانا “ضعف الصبيب الإلكتروني”، وكمُّ الرسائل، والبرامج التي تجعل من التواصل “جَمْجَمَةً” سريعة، أو إعادةَ نشرِ جمل مسكوكة؛ فلا يبقى للنص أثر يسم كيانه النصي الموثق، ولا يصمُد أثره الوجداني في ظل الزمن المتسارع الذي يقول لك افرح بإيقاع الآلة لا بإيقاع الروح؛ حيث لا نكاد نتملى بالجملة حتى تغيب في لجج الرسائل المتناسلة، ولا نثبت على معنى أو فكرة أو لفظة أو هدف؛ هذا التواصل التي قتل اللغة بالصورة، ووصل الرحم برنة أو تدوينة ميكانيكية وجاهزة، كما قتل جزالة اللفظة، وأذاب المعجم العربي الغني في معجم يكاد أن يكون واحدا، ويتم التواصل به بألفاظ قليلة، أو شبه جاهزة؛ حتى تكاد لا تفرق بين التحية التي تُرسل للرجل، والتحية التي تبعث للمرأة.
لذا آثرت أن أنقل بعض زهرات هذا الحقل الذي يتضوع عبيرا؛ يُسحر الألباب رقةَ عبارةٍ، ولُطفَ إشارةٍ، وعمقَ دلالةٍ في توقيع يُطرب الأُذن، ويُنعش روح القراءة، ويفتحُ ذهن القارئِ على تلقٍ ثقافي للنصوص.
لا يستدعي الكاتب المعجم زُخرفا لفظيا وتعابير مسكوكةً غير ذاتِ دلالة في مقام الكتابة، وإنما يغترف من كنوز التعبير التراثي ليضع كل لفظ في مقامه المناسب وعيا عميقا بصدى اللفظةِ في القارئ المثقف، لنقرأ له وهو يوثق للمودة الأخوية مع صديقه الأستاذ قطب الريسوني قائلا:
“سلام أشهى من زهر الرمان”، وهو دعاء للصديق بالصحة والعافية والسعادة وطول العمر (الاشتهاء المعنى لا المادي المقترن بالطعام) وهي إشارة، كذلك، إلى نظارة الزهر من جهة، وتيمنا بفاكهة الجنة وفوائدِها الصحية، خاصة وأنها فاكهة معمِّرة.
وفي مقام آخر نلفيه ينتشل المعجم من النسيان، ومن بواطن الكتب التراثية تقوية للسانٍ أو ميزانٍ؛ كاستعمال للألفاظ: احتوشتَني الخواطر، اعذوذب، اغدودن، المفاتشة، العيدانية، القَند، الألوكة، أفواف. أفكوهة ..
كما نجد في الرسائل وعيا ثقافيا بأهمية رصانة اللغة؛ في ضمان حضور النص فنا أدبيا يُدَرَّس ويُحلل، وتتناقله الألسنُ والدراساتُ، دون أن يجعل من الرسائل تبادلا لمشاعر المودة والمحبة بين الصديقين فحسب، وإنما ليجعل منها التماعاتٍ نقديةً وأدبيةً حول الشعر وفتونه، واستبطانا للمعجم الشعري، والإيقاع والصورة، ومعاني الحسن في الطبيعة، وتفاعلِ الذات الشاعرة مع مرابعها وعوالمِها البديعةِ؛ توليدا لمشاعرَ إنسانيةٍ في مقام الجمال، واستدعاءً لنصوص غائبة تُرسخ أثرها في نفس الكاتب قراءةً ودراسة وحفظا.
ومما يُخرج الكلمة في رسائل بدر العمراني من وعائها اللغوي المغلق، عنايته بصنعة رسائله عن وعي فني متجذر فيه بقراءاته المتنوعة، وجميل تذوقه للعربية صوتا وإيقاعا ودلالة وبيانا، وأنتقي من عناقيده ما حلا من بديعه (وهو كثير) على سبيل المثال لا الحصر، اهتمامه بقِصر سجعاته ليتغلغل بها في عواطف المتلقي خاصة عندما تكون كل سجعة في قرائن تركيبيه تدل على معنى مغاير لمعنى سابقتها ومنه قول الكاتب:
” مرافئ الإبداع، ومراوح الإمتاع ص: 61
” يضيء الأملْ، ..هواه رسلْ ” . (ص: 62).
طرب سري، واهتز خاطري . (ص: 18)
في حب صادق، وأنس رائق . (ص: 14)
جديد الخبر، وذكي الأثر. (ص: 47)
لطفك الجميل وكرمك النبيل . (ص:18)
كما يمكن أن أضيف اهتمامه باتحاد الفواصل “تُطرَبُ نفسي بأنسك، وتمرعُ عيني بحرفك، وتنشد سري بنبضك”. والتوازي الصوت كقوله: وصفا وسردا /خيالا ومثالا/ تعقيبا وتنكيتا نثرٌ مطرِب وشعرٌ مُرقِص ” وتبقى شاعرية البديع في الرسائل سمة فنية تحتاج إلى دراسة مستفيض تميط اللثام عن دررها الجمالية لذا اكتفيت من القلادة بما يحيط بالعنق وإلا فإن الموضوع متعدد الصدفات واللآلئ.
وخلاصة القول إن الرسائل عند بدر العمراني اشتغال جمالي على ترجمة للأحوال المشترَكة بين الصديقين، وترجمة لما يدور في عقل كاتبِها وروحه من تجاربَ إنسانيةٍ بقيت آثارها في نفسه أفكارا وأحاسيسَ وذكرياتٍ ومواقفَ .. لذا ألفيت أن الجانب الانفعالي في الرسائل كان قويا، مما يدل على صدق كاتبها سواءً في تعبيره عنها بضمير المتكلم، أو باستعمال ضمير الجماعة (فقبلناه زغرودتك، مشاعرك، رسالتك، ابتهجت باستمرارك قريحتك) إشراكا للصديق قطب في هذه الانفعالات التي ترجمها مقاماتٍ تواصلية متعددة تنوعت بين صداقة علمية، وذكريات شبابية، ومنافعَ، وأحداثٍ مشتركَة، وفوائدَ، ومطارحات فكرية، ومعارضات شعرية، ومنافسة على القول الشعري والترسلي عبر التحكم في ناصية اللغة والدعوة على قيم الجمال في الروح والتفكير والشعر.
الرسائل، كذلك، صولة في المشاعر الصادقة، وشهادات علمية وإنسانية في أدباء وعلماء وباحثين وأساتذة أجلاء من قبيل محمد الصباغ، وعبد الله كنون، وعبد الله الجراري، وأحمد متفكر، وعبد الله المرابط الترغي، وحسن الوراكلي، وحسناء داود، وجمال البختي وغيرهم، وهي كذلك استقطار للفظ ومعانيه، وبثٌ لقيم الوفاء الأخوي، واستلهامٌ لثقافة الكاتب، ومحاولةٌ لإشراك توأمِ نفسه العلمي والإنساني (الدكتور قطب الريسوني) في عوالم أدب الترسل بالصوت والصدى، وقد ضمخ كتابه بلطائفِ الألفاظ والتعابير، وفتون الصنعة اللغوية؛ في غير تكلف، ولا تمحل، ليتضوع عطر طيبه نفحاتٍ من الأرج توجت عناقيد الرسائل بحلو المذاق وطيب الوداد .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.