اللغة جسر من أهم الجسور التي تصل الناس بعضهم ببعض؛ تعبُر من خلاله أفكارهم وآراؤهم وأخلاقهم، وبقدر تفاوت درجات الجمال الساكن في الألفاظ والعبارات والتراكيب تتفاوت مستويات متانة هذا الجسر وصلابته؛ فبين الجمال والقوة شُبكة وشيجة يساهم في نسجها أرباب الكلام من الأدباء والخطباء، بل بينه وبين التذمم والتأدب من الأواصر والعلائق ما يجعل اللغة الجميلة مسلكا من مسالك التخلق ورافعة من روافع التواصل والتعايش. ومن هذا المهيع افتتن العلماء قديما وحديثا بجمال اللغة وتنافسوا في إصابته والمسْك بأسبابه فافتنُّوا في تشقيق الكلام وتركيب المعاني وتوليد الصور البيانية وإبداع المحسنات البديعية، وجعلوا لذلك فنونا ابتدعوها ومظانا يُرجع إليها، فكان منها الشعر المقروض والنثر الجزْل والمقامات المسجوعة والرسائل المسبوكة. ولقد حظي فن الترسُّل في الحضارة العربية القديمة بمكانة رفيعة ضمن مجموع الأدب العربي وتعلق الأدباء بأفنانه فجعلوها مراقٍ ترتقي بها ألسنتهم وتشتد فيها صلاتهم، لكن هذا الجنس الأدبي بدأ ينكمش شيئا فشيئا بفعل الثورة الهائلة في آليات الاتصال وتناسل وسائط التواصل الاجتماعي وما استتبع ذلك من "الاقتصاد" في التعبير عبر إنشاء أدوات لغوية رمزية تحل محل الكلمات والعبارات، ما أدى إلى ضمور بارز في منسوب اللغة العربية لدى المتكلمين بها وذهول صارخ عن مكامن الجمال في درر ألفاظها ومواضع الحسن في تواليفها. في خضم واقع التواصل الرقمي الجديد، لا يني جلة من الأدباء والعلماء يستمسكون بالذماء الباقي من فن الترسل الأدبي كما كان سائدا في العصور القديمة ابتهالا منهم بسحر اللغة الطبيعية وجمالها وإمعانا في تجويد الكلام واختيار الألفاظ وتنميق العبارات وتصوير المواقف والأفهام في قالب نثري وشعري خلاب. ومن أقطاب هؤلاء وبدورهم الدكتوران قطب الريسوني وبدر العمراني اللذان أبيا إلا أن يحييا هذا الفن عبر تبادل مجموعة من الرسائل الأدبية التي تنم عن إحساس إنساني مرهف وعمق أدبي في التعبير. واحتفاء منها بصدور هذه الرسائل الأدبية المتبادلة مطبوعة في حلة قشيبة بعنوان "ند وبخور" و"عناقيد"، نظمت مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة بالتعاون مع مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية ومكتبة سلمى الثقافية ندوة علمية أدبية لتقديم قراءات في الكتابين المذكورين انبرى لها صفوة من الأساتذة والباحثين المتميزين في جنس الدراسات الأدبية، وذلك يوم السبت 05 يناير 2019 برحاب المكتبة الداودية بتطوان. افتتح اللقاء العلمي مسير الجلسة الدكتور إسماعيل شارية بكلمة رحب فيها بالحضور الكرام، أساتذة وطلبة ومهتمين، منوها بالشراكة المتميزة التي تجمع بين مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة ومركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية من أجل النهوض بالشأن العلمي والثقافي بالمدينة ومشيدا بدور مكتبة سلمى الثقافية الناشرة للكتابين موضوع الندوة العلمية. وتوطئة منه لمناسبة اللقاء، قدم الدكتور شارية أرضية بين فيها ما يتميز به جنس الرسائل الأدبية ضمن مجموع النثر الفني من مكانة رفيعة في التراث الأدبي نظرا لقيمته الأسلوبية وميسمه الجمالي وبعده التداولي فضلا عن مختلف الهموم الفكرية والثقافية والأنظار السياسية والاجتماعية التي يفصح عنها الأدباء في رسائلهم المتبادلة.. ولم يفوت مسير اللقاء الفرصة للتعريف بالدكتورين الريسوني والعمراني مقدما ترجمة مقتضبة لكل منهما أجمل فيها معاقد سيرتهما العلمية من حيث الشهادات المحصل عليها والمؤلفات المطبوعة والمقالات المنشورة والمشاركات العلمية المشهودة. وفي المداخلة الأولى، شكرت الأستاذة حسناء داود رئيسة المؤسسة ومحافظة الخزانة الداودية المتراسلين معا على هذه المأدبة الأدبية التي جعلاها في متناول القراء والمهتمين، معتبرة إياهما من النجوم المتألقة في سماء الأدب والترسل. بعد ذلك أخذت المتدخلة بأيدي الحاضرين مسافرة بهم إلى عالم الكتابين أو المجموعتين معا "ند وبخور" و"عناقيد"؛ فأبهرت القراء بما انبهرت به من الأساليب البيانية والصور الفنية المتلألئة في منثور الرسائل المتبادلة ومقروضها، ولم تخف الأستاذة حسناء وهي المتذوقة لجميل الكلِم مفعول الرسائل في وجدانها وما أحدثه من الشعور بالانتشاء والاحساس بالجمال الثاوي في العبارات المنمقة والأساليب المزخرفة والخيالات المصورة، فأفصحت عن كل ذلك بأبيات شعرية فاضت معانيها وانتظمت مبانيها بفعل سحر الكلمات وجمال الاستعارات. ثم تناول الكلمة الدكتور محمد العمارتي الباحث المتخصص في الاستعراب الإسباني والدراسات الأدبية الأندلسية بمداخلة عنونها ب"اللغة ومستويات التشكيل الجمالي في رسائل قطب الريسوني"؛ عرف فيها بأدب الترسل وفنونه والجنس الذي ينتمي إليه، ثم دلف إلى ندّ قطبٍ وبخوره فوصف محتواها الذي يبلغ خمس عشرة رسالة وواجهة الكتاب وغلافه الخلفي وصفا يصدر عن الرؤية الفنية وأدبيات التوصيف السيميائي. وبعد تعريفه بمقصوده من مفهوم التشكيل الجمالي، عرج الدكتور العمارتي على مداخل هذا التشكيل وتجلياته من خلال الوقوف على خمسة محاور؛ أولها محور العنوان، فالمتأمل في عبارة "ند وبخور" يجدها تزخر بطاقة دلالية كبيرة من حيث الإحالة على الروائح الزكية والمناسبات المتميزة وبعث الإحساس بالارتخاء والانتشاء، الأمر نفسه ينسحب على عناوين الرسائل من حيث الاستعارات المطوية فيها والجنوح الخيالي الذي تهيجه. والثاني محور النص، وهو يدلك على طبيعة متن الكلام وتشكلاته الذوقية واللغوية والبيانية وأبعاده المعرفية وخباياه النفسية والوجدانية، وهي أبعاد لا يخلو منها متن الرسائل القطبية. الثالث من المحاور محور الأنا؛ وهو مرتكز رئيس في تشكيل هذه الرسائل، حيث يفر الكاتب إلى ذاته لمحاورتها ومعانقتها تنفيسا وترجمة لأحاسيس متضاربة. أما المحور الرابع "محور الأنا والآخر" فيكشف عما يجمع بين المتراسلين من عميق التواصل وجميل التوافق، فتكون هموم "الآخر: هي همومَ الذات ولواعجُ الذات ومشاعرها كما لو أنها مستنسخة عن الآخر. وقد يكون هذا الآخر شاعرا أو كاتبا أو أستاذا من أهل الأثرة في الأنا فيكون البوح بخصوصها بثا وإفشاء لما يمور في القلب من مشاعر الإكبار والإجلال تُجاهها. وأما المحور الخامس والأخير فهو محور الانزياح؛ وهو ملمح أسلوبي وجمالي يستثمره الناثر أو الشاعر لتوليد الدلالات والمعاني وبعث الإدهاش في النفوس اجتلابا للمتلقي. أما ثالثة المداخلات فجاءت بعنوان "بلاغة الترسل والبعد الإنساني في عناقيد رسائل بدر العمراني"؛ استهلها الدكتور محمد بنعياد الناقد والباحث البيداغوجي بالتنويه بقيمة هذه الرسائل في باب فن الترسل ضمن جنس الأدب النثري، ثم طفق المتدخل يفكك الوجوه البلاغية الكامنة في الرسائل الخمس عشرة المضمومة بين دفتي الكتاب؛ بدءا بالوقوف على شاعرية العناوين فوصفها بكونها لماحة من غير إبهام، ومثنّيا ببيان عناصر البراعة في الاستفتاح متمثلة في المعجم المستعمل المحلى بألفاظ القيم ومفردات الأحاسيس والقدرة على استثارة الرغبة في قراءة الرسائل، لينداح الكاتب بعد ذلك في إلقاء البواعث على الكتابة وترجمة حوامل الترسل وهي شتى؛ منها ما يخص بث الشعور بالإعجاب حيال شخصية مرموقة في عالم الأدب والعلم، ومنها ما يتعلق بذكريات الطفولة، وقد يكون الحامل الانبهار بجمال نص نثري أو سحر بيت شعري.. وقد لاحظ المتدخل أن سمة الصحوة الثقافية حاضرة بقوة في لغة الرسائل وأسلوب التعبير، وهو ما يندّ عن السائد اليوم في مواقع التواصل الاجتماعي حيث "يغلب إيقاع الآلة على إيقاع الروح" وصار التواصل بها ميكانيكيا قد قتل جزالة اللفظة وأذاب اللغة في معجم واحد جاهز بارد. بالمقابل تجسد الرسائل محل النقد أصالة اللغة وعراقتها وقدرتها الفائقة على التصوير الفني وتكثيف الدلالات واستعارة التشبيهات.. وهذا بين في عناية صاحبها بصنعة الرسالة صوتا وإيقاعا ودلالة وبيانا هذا فضلا عن حضور وازن وصادق للمشاعر الإنسانية وروابط الصداقة العميقة التي تجمع المتراسلين، ما يجعل منها "صولة وجدانية" مفعمة بالمشاعر وناثرة للجمال. بعد هذه المداخلات أحيلت الكلمة على المحتفى بكتابهما الأديبين قطب الريسوني وبدر العمراني فعبر كل واحد منهما عن عميق امتنانه وجزيل شكره لكل من ساهم في عقد هذا اللقاء الأدبي وإنجاحه تنظيما ومشاركة وحضورا، وأفشيا أمر هذه الرسائل المتبادلة؛ مبدأها وسيرورتها وبواعثها ومشاعر الود والتقدير المحركة لها، ثم استودعا الحاضرين أمانة اللغة العربية وحب جمالها وسحرها وبيانها. وقبل أن يرخى الستار على أعمال هذه الندوة فتح مسير الجلسة الباب واسعا للتساؤلات والاستفسارات ختمها الدكتور جمال علال البختي بكلمة عبر فيها باسم مركز أبي الحسن الأشعري عن وافر اعتزازه بالتعاون مع مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة في تنظيم هذا اللقاء قياما بالدور المنوط بالمؤسستين من واجب النهوض بالشأن العلمي والثقافي بمدينة تطوان والعمل على إشعاع ثقافة المعرفة واحتفافا بلغة العلم؛ اللغة العربية.