إن هناك صِرَاعًا مُحْتَدِمًا بين المشارقة والمغاربة مفاده: “أن أدب الغرب الإسلامي ما هو إلا صدىً لأدب المشارقة”؛ ومن أشكال هذا الصّراع أنهم كانوا يجرِّدون الشعراء الأندلسيين من إبداعيتهم، فنعتوا الشاعر الأندلسي ابن زيدون ب: “بحتري المغرب”؛ واعتبروه صدىً لصوت شعريّ متفرّد هو الشاعر المشرقي أبو عُبادة البحتري الذي كان على مذهب الطّبع، كما أنهم وصفوا ابن هانئ الأندلسي ب: “متنبي المغرب”؛ لأن شعره كان شبيهًا بشعر أبي الطيّب المتنبي في فخامته، وجزالته، وجهارته؛ حتّى قيل: “شعر ابن هانئ كرحى تطحن قرونا”. ولست بحاجة لأن أخوض في هذا الإشكال التاريخي، والأدبي فقد سال فيه مدادٌ كثيرٌ، وعالجه شيوخُ البحث في الأدب الأندلسي، وعلى رأسهم البحّاثة المغربي عبد السّلام الهرّاس رحمه الله فقد أثبت هذا العالم الفذ على مدى خمسة عقود أن الأدب الأندلسي له شخصيته المستقلة، وثوبه الذي يلبسه على مقاسه، وإن كان تأثّرُ أدب الغرب الإسلامي واضحًا بالطابع المشرقي في فجره، ومنذ بزوغه، وما إن استدّ، واشتدّ ساعده حتى أصبحت رايته مرفرفة في سماء قرطبة، وغرناطة، وبلنسية، وسرقسطة، وغيرها من مدن العدوة الأندلسية لا ينكرها إلا جاحدٌ متعصبٌ؛ ويكفيك يا أندلسُ فخرًا أن فن الموشح خرج من تحت معطفك، وتربّى في حضنك، وعزّك، وهو ابنك الشّرعي لا ينازعك فيه منازعٌ. والحقيقة أنه لا يمكن الفصل بين الأدب الأندلسي، والأدبي المغربي؛ لأنهما سيّان، وكلاهما استمرار للآخر، وأدب المغرب الأقصى تعرّض هو الآخر لظلم كبير، وهجوم عنيف، حتى زعم بعض المشارقة أنه ليس هناك ما نسمّيه أدبًا مغربيًّا؛ وقد تصدّى الأديب اللبيب، والعالم النجيب عبد الله كَنون لهذه التّراهات الّنزقة، والمزاعم الفارغة بكتاب ماتع جمع بين دفتيه ما أنتجه أدباءُ المغرب، وشعراؤه سمّاه “النبوغ المغربي في الأدب العربي”، وانتبِهْ حفظك الله إلى كلمة “نبوغ” الواردة في عنوان الكتاب، فهي تدل على أن هناك أدبا مغربيا وصل إلى حد النبوغ؛ ليقطع بذلك كل الشكوك، ويُطلع من لا يعرف أدب المغاربة على ما أنتجوه! فقد كان همّي من هذا كلِّه أن أعرّج على ثنائية “الصوت”، و”الصدى” في الأدبين المغربي والمشرقي؛ فأقول: إن أوصافا وُصف بها بعضُ الشعراء، وهم لم يكونوا مقلدين، بل منجزهم كان استمرارا للمثاقفة الشعرية، فعندما نُعِتَ الشاعر المغربي محمد الحُلوي بأمير شعراء المغرب، فهو يعد استمرارا لحركة البعث، والإحياء التي تزعّمها أمير الشعراء أحمد شوقي، وشاعر السيف والقلم محمود سامي البارودي، وشاعر النيل حافظ إبراهيم.. وعطفًا على هذا التوصيف الأخير؛ ألا يحق لي أن أصف الشاعر المغربي محمد بودويك ب: “أدونيس المغرب”؟ دون أن أُجرِّد أستاذي الناقد، والشاعر محمد بودويك من إبداعيته، فهذا مما لا يحتمله كلامي لا تصريحًا، ولا تلميحًا، وأعتبره بحكم تتلمذي على يده من المعجبين بأدونيس، ولطالما حدثنا عنه في حلقات الدّرس، واستشهد بكتبه، وأشعاره؛ فالرجل استمر على الفكر الحداثي الأدونيسي، فقد تشبع بأفكاره، وآمن بها، ودافع عنه باستماتة، وجرأة نادرة سببت له مضايقات ممن يعارض الفكر الحداثي، وقد كتب عنه مقالا غنيّا ينم على أن الأستاذ محمد بودويك يعرف أدونيس معرفة عميقة دقيقة عنوانه “في إنصاف الشاعر أدونيس”، وكلُّ من اطلع على ما كتبه في حق أدونيس؛ سيجد أنه رد بشكل قويّ، وعنيف على خصومه الطامعين في النيل منه؛ فيقول: “سيظل الشاعر أدونيس شاعرا كبيرا، ومفكرا عظيما، إذ بقدر ما يطير الإنسان عاليا، يبدو صغيرا للذين لا يستطيعون اللحاق به فيما يقول مثل صيني. وبقدر ما ننأى، ويتعب البعض في الركض وراءنا طويلا، نكون عرضة للسهام، والنبال، والحجارة الكثيرة. وكذلك عانى المتنبي من الصغار في عصره، وأبو العلاء، وأبو تمام، وأبو نواس، وبشار بن برد، وابن الرومي، وغيرهم من الأفذاذ التاريخيين حتى في عصرنا وراهننا. لكنهم بقوا وصمدوا، واستمروا مضيئين ليلنا العربي القاتم، فيما خبا مرضى القلوب، الحاقدون، الموتورون، الكارهون كل جديد، وقشيب، ومختلف وحر”. ويعتبر الأستاذ محمد بودويك أن ذيوع صيت شاعر كبير مثل أدونيس قد حجب الضوء عن كثير من شعراء عصره؛ قائلا: ” قد تحجب ظلال شاعر كبير، غيره من الشعراء، كما كانت عليه حال المتنبي، والمعري، وأبي نواس، وأبي تمام، وغيرهم. غير أن هذا الحجب ليس مدعاة، ولا مسوّغًا، ولا ذريعة لطمس أسماء وأصوات، ومغامرات أندادهم الآخرين من الشعراء”. وقد ذكّرني قول أستاذي هذا بما قاله ابن حزم الأندلسي: أَنَا الشَّمْسُ فِي جَوِّ العُلُومِ مُنِيرَةٌ وَلَكِنَّ عَيْبِيَ أَنَّ مَطْلَعِيَ الغَرْبُ وقد فُهِمَ هذا البيتُ الشعريُّ على غير قصده؛ فابن حزم لا يفضّل المشرق على المغرب كما توهّم كثيرٌ من الناس لكنّي أفهم قوله: “ولكن عيبي أن مطلعي الغرب” فهمًا آخر؛ فكونه في بيئة عالمة كان هذا من معايبه، من باب الذم على ىسبيل المدح. والشاعر المغربي الكبير محمد بودويك له أسلوبه الخاص في بناء النص الشعري الحداثي، وتتميّز لغته بشعرية عميقة، فقد عُرف بتطويعه للغة الشعر، فحين يحدثك الرجل عن جوهر الشعر؛ فهو الخبير بأسراره، ومكنوناته، ومسنوناته، وإن حدثك عن خارطته؛ فهو الجغرافي، والرحالة العارف بأدغاله، والتواءاته، وشعابه، فما أروع لغته الرقراقة الشفافة! إنه شاعر يصول، ويجول في لغة العرب العذبة، فلغة قصيدته نهر جارف لا ينضب، ولا يجف، وحتى وهو يكتب النثر يبقى الشاعر الطفل مستيقظا في ضميره لا ينام، ولا يمكن للمتلقي إلا أن يتلقف نصوصه بشغف؛ لأنها كقطع الحلوى تسيل لعاب المتحلقين حولها. فالدكتورُ محمد بودويك رجلٌ لا يُحصى؛ فهو الشّاعرُ المُفْلِقُ، والنّاقدُ المتريّثُ، والمثقفُ المستنيرُ، والمناضلُ الوفيُّ، والمربّي المعلِّمُ بحيث يصعب الحديثُ عنه؛ وهو حديثٌ لا يسلم من مزالق، وكل ما أدوّنه هنا مجرّد أفكار التقطتها ممّا عاينته، وليس حديثًا أكاديميًّا عالمًا.