تحت شعار «معارف الأسلاف»، تتواصل في مدينة فاس فعاليات الدورة الرابعة والعشرين لمهرجان الموسيقى العالمية العريقة، وذلك لغاية 30 يونيو الجاري. وحسب المنظمين فإن الهدف من وراء هذا الشعار « ليس هو مدح الماضي واسترجاع بطولات الأجداد بل التكريم والمشاركة في الحيوية والاستمرارية وفي عبقرية هذه المعارف والعلوم التي تتغير من دون أن تفقد طبيعتها التي تتطور وتتأقلم وهي محتفظة بروحها وماهيتها». ويشكل المهرجان، الذي يعرف مشاركة فنانين ومجموعات، من أفريقيا وأوروبا وآسيا وأمريكا، فرصة فريدة للاستماع إلى هؤلاء الفنانين في فضاءات محملة بعبق التاريخ، كساحة باب الماكينة وساحة بوجلود، أو منتزه جنان السبيل أو القصور التاريخية الفخمة، مثل دار عديل ودار التازي. المطروز موسيقى اليهود المغاربيين في فضاء «دار عديل»، قدم الكاتب والملحن الموسيقي سيمون الباز وفرقته، مساء يوم الثلاثاء، لجمهور مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة، حفلا موسيقيا ل»المطروز»، المستوحى من التقاليد اليهودية- المغاربية، كرافد من روافد الثقافة العبرية، الإسلامية والمسيحية في الأندلس، إلى جانب أغاني مستمدة من تقاليد مختلفة، على رأسها الثقافة اليهودية – المغاربية. وتقوم التوليفات والتركيبات الموسيقية على عنصر التداخل بين اللغات : العبرية والعربية، على وجه الخصوص، مع الفرنسية، الإسبانية، الأمازيغية، اللاتينية، والموسيقى اليهودية-العربية، الشرقية، المغاربية-الأندلسية، موسيقى العصور الوسطى. فسواء مع الموسيقى أو بدونها، يتم تقديم الأغاني بالفرنسية عن طريق تسلسلات شعرية قصيرة أو تتخللها ارتجالات صوتية ومعزوفة، ما يتيح استيعاب مختلف جوانب الثقافة اليهودية-المغاربية في تفردها. تراث إنساني من باكستان كما تميزت ليلة الاثنين الماضي بحفل للمجموعة الباكستانية «كوالس باشي دلهي غارانا» وشدت تعبيراتها الموسيقية، لمدة تسعين دقيقة، انتباه جمهور كثيف، ومختلط الأعراق، حج إلى منتزه جنان السبيل، طمعا في سفر روحي، تأتى له، ويرأس المجموعة الباكستانية، الموسيقي سبحان أحمد نيزامي ابن الفنان الكبير آفاق أحمد نيزامي، البالغ من العمر 35 سنة، والذي يقود بشكل رائع فرقته منذ 20 سنة، محافظا على تراث أسلافه، الذي يعود إلى ثمانية قرون خلت. واحتفظت عائلة نزامي بهذا الفن، بشكل صارم الذي انتقلت إليها أسراره أبا عن جد وذلك من ميان ساماط، أول تلميذ للأمير كهوسرو، إلى سبحان الذي هو الثالث والثلاثين من سلالته. ومعرفته الدقيقة بالموسيقى الكلاسيكية الهندوسية التي هي علبة جواهر لنصوص رفيعة، مكتوبة وملحنة من طرف كهورسو أو من طرف عباقرة آخرين عبر العصور تمنح لهذه المؤسسة مكانا استثنائيا. سبحان يملك في حوزته 2000 نص من النصوص القديمة، مكتوبة بلغات اندثرت في وقتنا الحالي: لغة براج القديمة، سانكري القديمة والفارسية. إشراقات صوفية هذا، ويقترح مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة، على جمهوره، هذه الدورة، سفرا روحيا متفردا في عوالم التقاليد الصوفية. ويدعو المهرجان ضيوفه إلى تذوق إشراقات صوفية وروحانية من شتى أنحاء المعمور، ومن المغرب أيضا، حيث كان للجمهور موعد مع أمسية للذكر الصوفي أثثها «حمادشة المغرب»، بينما أتحف المهتمين بهذه الألوان الموسيقية المحلية، تلة من «المقدمين بزوايا» كل من فاس ومكناس وطنجة وأصيلة وتطوان والصويرة. فيما تمت برمجة العديد من الفرق التراثية مثل مجموعة أهل توات (دار الضمانة)، ومجموعة الطريقة السحيمية، ثم الطريقة الدرقاوية، فمجموعة المديح والسماع الصوفي ثم الطائفة العيساوية، والحضرة الشفشاونية المقررة ليلة اختتام فعاليات المهرجان يوم السبت المقبل. المهرجان داخل المدينة ومن أجل أن لا يكون المهرجان نخبويا، تعرف ساحة بوجلود، تنظيم حفلات موسيقية مجانية، موجهة للعموم، والتي تعرف تقاطر جمهور غفير بكيفية يومية على الساحة التاريخية للاستمتاع بمختارات من الأغاني الشعبية، الكلاسيكية أو الصوفية. ويقترح «المهرجان داخل المدينة» ثلة من الفنانين بألوان موسيقية متنوعة، من قبيل «رضوان الأسمر»، و»زهير البهاوي»، وعثمان الخلوفي»، و»إدورار نتمينيت»، و»يونس فايز»، و»فاطمة تبعمرانت». كما تسنح الفرصة لجمهور المهرجان الاستمتاع بعروض تقدمها عدد من الأصوات المغربية، ك «حجيب»، و»فاطمة الزهراء العروسي»، و»مسلم»، و»حاتم عمور»، و»الشاب يونس»، و»كادر الجابوني». التراث الموسيقي مكون جوهري للهوية وجدير بالذكر أن المنتدى الذي أقيم بالتوازي مع مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة منذ 23 قد أسدل الستار عن أشغاله يوم الاثنين الماضي، بعد أن عرف مشاركة ثلة من الباحثين والكتاب والفلاسفة المرموقين الذين سلطوا الضوء على روح التسامح والتعايش من خلال الفنون والموسيقى. وأجمع أثناء جلسته الختامية، ثلة من الباحثين المختصين في علوم الموسيقى، على أن المغرب يعد من بين أكثر بلدان العالم التي تمكنت من الحفاظ بأمانة على موروثها الموسيقي الأصيل، انطلاقا من الوعي العميق بأن التراث الموسيقي هو مكون جوهري للهوية المغربية الأصيلة. وأوضحوا كذلك خلال ندوة نظمت في إطار منتدى مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة، ضمن محور «الفنون والإبداع»، أن المغرب ظل محافظا بأمانة على موروثه الموسيقي الأصيل، على اعتبار أن الموسيقى بمختلف مشاربها وأجناسها، لاسيما العريقة منها، هي بمثابة «موروث لامادي قيم يجسد هوية الأمم ويمنحها أصالتها وطابعها الثقافي المتفرد». وهكذا، قال المختص في الموسيقى الروحية جيرارد كورديجيان، في مداخلة له، إن الموسيقى كباقي الفنون والأنماط التراثية الأصيلة «تصاب بالصدأ والتآكل» بفعل النسيان وسيادة الأنماط الهجينة، وأحيانا بسبب غياب رؤية تروم صيانة هذا الموروث والحفاظ عليه سعيا إلى إيصاله في أبهى حلة للأجيال «الحاضرة والمستقبلية»، التي تظل في أمس الحاجة إلى التوفر على هوية ومرجعية ثقافية تميزها. من جهته، أوضح الباحث في علوم الموسيقى أحمد عيدون، أن الموسيقى المغربية تتميز بغنى وتنوع لا مثيل له من حيث الإيقاعات والأساليب والأنماط الغنائية، التي تجد تفسيرها في التنوع الحضاري والإثني الذي ميز المغرب على مر التاريخ ومنحه طابعا متفردا من حيث اللحن والأداء والمتن الغنائي. وسلط عيدون الضوء على العلاقة الوثيقة القائمة بين الحرف التقليدية والموسيقى المغربية الأصيلة من قبيل لوني «الملحون» و»الطرب الأندلسي»، التي كان الصناع- المعلمون أول من ابتكرها وطورها ووضع قواعدها. وفي هذا الصدد، أوضح الباحث في علوم الموسيقى أن جل المصطلحات المستعملة لتعريف الكثير من مكونات وآليات هذه الموسيقى مستوحاة من القاموس الغني للحرف التقليدية، وذلك على غرار «الصنعة»، و»القياس»، و»المرمة»، و»الحربة»، و»النشبة»، و»البروالة» . من جانبه، قدم نبيل الرحموني، وهو مختص في التراث، لمحة تاريخية مقتضبة حول مدينة سلا، التي تعد إحدى أعرق حواضر المملكة وأكثرها غنى من حيث الموروث المعماري والحضاري والأثري، مستعرضا في هذا السياق عددا من المحطات التاريخية البارزة في تاريخ هذه الحاضرة التي تعد مدينتها القديمة النواة الأولى لنشأة العدوتين (الرباطوسلا) في شكلهما الحالي. ويشار إلى أن مهرجان الموسيقى العالمية العريقة الذي صار تقليدا سنويا هو أحد أهم المبادرات الثقافية التي تروم تنمية وتطوير مجموعة من الألوان والأشكال التعبيرية التي تشكل روافد مهمة في الموروث الثقافي والفني المغربي، والتعريف بها، وتكريس دور فاس كمدينة ساهمت بشكل كبير في النسيج الثقافي المغربي وكانت لها امتدادات ومساهمات في التراث الإنساني.