لا يخفى على أحد من الناحية الأدبية، أن أرض المغرب كانت وما تزال معينا دافقا للشعر، تعددت وجهة العطاء الشعري وتنوعت مجالاته.. مما أتاح للشعراء المغاربة أن يصوغوا شعرا جميلا في لوحات من الفن الأنيق المبدع، ينسكب حياة وتجديدا وتواصلا مع الناس، ويمنحهم قدرة فذة على اجتذاب أرواحهم ونفوسهم، مؤثرا فيهم بشعاع المحبة والخير والتصافي. الحاج الصديق الأسفي: عاش هذا الشاعر في أواسط القرن الثاني عشر الهجري، على عهد السلطان مولاي عبد الرحمن، وهو عصر ابتداء نهضة الملحون في المغرب، والتي ازدهرت أيام ولده سيدي محمد بن عبد الرحمن. ويطلق رجال الملحون على هذه الفترة: " الصابة ذا الأشياخ ". ولعله أقدم شيوخ الملحون في أسفي، معروف عند حفاظ الملحون بهذه المدينة ذات البعد الحضاري المتميز. كان مولده بمدينة أسفي حيث يقول: قال حبر الفن الصديق فاسفي متبين فقوالي ما نجحد أرباب اليضمر ويقول في قصيدة أخرى : قال الصديق فاسفي مركاحي مشنوع فاكباح مبشور أبطيب لنشراح وفي مكان آخر يقول : واسمي اشهير ما هو مخبي ستين واربع واميا فالتجناس حبر النظم ربي حسبي في مرست أسفي للمعنى قمطاس ويقول في آخر جدوله : بعد الختام قال الحاج الصديق في أسفي ويحق التجناس من لا يكون طابعه شيخه بصدق وصف لا بد يمساس كان الحاج الصديق الحجازي الأسفي " سرايري" أي يصنع سرير المكحلة، على حد ما يؤكد بعض الأشياخ وكذا ما ذكره الفقيه الكانوني رحمه الله . وإلى جانب ذلك، كان شاعرا مفلقا، رقيق الطبع، مرهف الإحساس . . مما ساعده على تفتق شاعريته التي أهلته ليكون من المجيدين . ويذكر أنه بدأ يتعاطى شعر الملحون خلال رحلاته المتعددة إلى الصويرةومراكش. ولما استقام عوده، كانت له مع شعراء هاتين المدينتين مراسلات كثيرة. وبلغ من نبوغه في تلك الفترة، أن نظم قصيدة خالية من النقط في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم .. تسمى : " الناشفة " وهذا مطلعها : الصمم الطوع لهو السعد أملاه هد لمل ومسك لهدا ومال حلك الرسول المك طها ودود محلاه سعد لورى مدحوه اكما ادواو سلك ملأ الملأ الأعلى الصمد إلاه على الماح صلى وعطاه ملك ويحكى أنه نظمها بعد عودته من حفل استدعي لحضوره مع الجن . ذلك أن الشيخ الصديق بعد صلاة العصر، خرج كعادته كل مساء إلى مكان خارج أسوار المدينة يسمى " الشعبة " وبينما هو جالس، إذ وقعت عينه على ضفدعة حامل، تأملها بإيمان خاشع، وتمنى لو أنه نظم فيها قصيدة، لكن سجيته في ذلك الإبان لم تطاوعه ، متعهدا بأن ينظم شعرا في هذه الضفدعة حين تضع حملها. وبعد أيام قليلة، دق باب منزله، فخرج ليرد على الطارق الذي جاء يقدم له دعوة مذكلرا إياه بالوعد الذي كان قد قطعه على نفسه بمكان " الشعبة " ولعظمة هذا الموقف في نفس الشاعر ، تحركت سجيته ، فنظم هذه القصيدة . وحين بلغ خبرها للسلطان في مراكش، اندهش لعبقرية ناظمها، فسأل عنه، فدلوه عليه، فبعث في الحين من يأتيه به من أسفي . ولما مثل أمام السلطان، حدثه بما حصل له مع الضفدعة .. فاستحسن كلامه معبرا له عن إعجابه بروعة هذا النظم .. فأزجل له العطاء تقديرا منه لشاعريته وإبداعيته . وكانت مناسبة مواتية ليتبارى فيها شاعر أسفي مع شعراء مراكش الذين أحبوه وواصلوه . للحاج الصديق قصائد كثيرة في مختلف موضوعات الشعر الملحون . وفعلا ، فقد كان شاعرا مجيدا ، ولسوء الحظ ، ضاع الكثير من شعره مع ما ضاع من تراثنا . ومن قصائده: " الزيارة القادرية الجدول المرسول فاطمة القفل غادي انزور ابن عيسى في باب الجديد العيسوية الكوط بومحمد صالح الناشفة الدالية… ونشير إلى أن الأستاذ المرحوم محمد الفاسي قد أورد في كتابه : " معلمة الملحون " القسم الأول والثاني من الجزء الأول ، مجموعة من قصائد الحاج الصديق ، ذكر عناوينها ، ولا شك أنها موجودة ومتوفرة لديه رحمه الله ، وهي الآن في حوزة أسرته التي كانت قد استرجعت كل ما أودعه الأستاذ محمد الفاسي لأكاديمية المملكة بعد وفاته .. مما حدا بهذه المؤسسسة ل… وهذه نماذج من بعض شعر الحاج الصديق . يقول في قصيدة " التوسل " إلى الشيخ أبي محمد صالح : برهانك معلوم يالقطب الفالح نصغ أهل أسفي باثنا سرك باح ديما يالهمام عار ابلادك نصاح برهانك اشريق أمضوي مصباح لهله الكوط بو محمد صالح حام على بلادك هلها يرتاح من حبك لعشيق انشطن أبن صالح رايس الوطان أسلطان بلادي نادتك بالسر والعلان وانتيا كهف الثنا أهلان كمل قصدي أو مرادي شين طلبات لك به مان يا منه صرخة الكل مان جا حضري والبادي يمك يم أغزير غير كيتكفح يسعد من اسقتيه أرووا أشباح اسق روضي يترا إولي لاقح وتشهد الخلايق تفتان القاح يفوح زهر اعضاه فالجدول فتح يستنشقوه من يهوهم تفتاح حرمت جيرانك فالبلاد أمصابح أرجال أسفي حضر والليساح كمل قصدي يترا إولي ناجح والهم سكني يقبض نهج اسراح لهله الكوط بو محمد صالح حام على بلادك هلها يرتاح …. كان الشيخ الصديق أيضا عيساوي الطريقة، وله عدة ذكرات منها التي حربتها : ارواح أمن ابغى يزور الهادي بن عيسى أنادي الاركاب للزيارة وهي في قياس ( صلى الله عليك ياالشافع في الأمة طه ) وله ذكرة أخرى حربتها : عنايتي مولى مكناس سيدي محمد ابن عيسى ( حضاري ) وله الجيلانية وحربتها : سيدي جلول ولد خيرة زوكنا في احماك يا مولى بغداد وله قصيدة " المكي " وحربتها : رف واعطف عني يا مالكي المكي لا تصد العاشق اخش وخاف مولاك ومن قصائده أيضا " القفل " التي أشرنا إليها سابقا ، والحربة هي : قفلي صايل ما يطرشه طراش ألويجي أشحال من قداش لا صاب باش لا حيلة ولو يجيب أبو منقاش والمطرشة وهي في قياس الدربلة من بحر ( المبيت ) هذا إذن هو شاعر الملحون الشيخ الحاج الصديق الأسفي .. رحمه الله رحمة واسعة ، فقد خلد بشعره قصائد كثيرة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويكفي مدينة أسفي فخرا واعتزازا أن تكون قد أنجبت شاعرا كبيرا في الملحون الذي يعد ذخيرة أدبية مغربية يحق للمغاربة أن يعتزوا به ، ففيه رسم للشخصية الوطنية وكل ما يمس واقع الإنسان المغربي في افراحه وأتراحه إلى درجة أضحى معها سجلا حافلا لمجريات الأحداث وللحياة اليومية في أدق تفاصيلها وجزئياتها ، كاشفا الغطاء عن نفوس المغاربة في انفعالاتهم وعواطفهم . يصير لأنام هذا قولي بينما إريد الله بالخلف ما زال تشوف كراما وهذا تعليل واضح لما ذهبنا إليه سابقا .. والمطلوب هو توفير أسباب حماية هذا التراث الشعري ، حتى يبقى بالفعل صورة الشخصية الوطنية ..