من خلال التراكم الذي حققته أصوات غنائية مغربية من الجيل الحالي، ومن خلال التميز الذي أظهرته سواء على مستوى الكلمة أو الأداء وحتى على مستوى اللحن، أمكن لنا الحديث عن منعطف آخر تعبره الأغنية المغربية، منعطف له بصمته الخاصة وله إضافته الخاصة كذلك؛ ففي الوقت الذي صرنا نلحظ فيه تقلص نشاط مطربي الأجيال السابقة، سواء تعلق الأمر بالرواد: عبد الوهاب الدكالي، نعيمة سميح، محمود الإدريسي.. وغيرهم، أو بالجيل الذي أتى بعده، جيل نعمان لحلو، عائشة الوعد، لطيفة رأفت.. وغير ذلك من الأسماء الممثلة لهذا الجيل الذي يمكن القول إنه حافظ على تقاليد الأغنية العصرية كما كرس لها جيل الرواد إلى حد ما. في الوقت الذي خبا فيه نشاط هذه الأسماء والتجارب الغنائية المحترمة، صعد جيل جديد، له أسلوبه الخاص، ليس في الغناء فقط، بل على مستوى ترويج منتوجه كذلك. ***** ما يميز هذا الجيل الذي تمثله أسماء عديدة، أنه برز بشكل سريع، وقفز على الكثير من المراحل التي من المفروض أن يعبرها الفنان قبل فترة النضوج. إنه جيل شبيه بتلك الثمرة التي تنبت فجأة وتصبح جاهزة للأكل دون أن تتغذى من الشمس والهواء والماء، وبالتالي فإن طعمها لا شك أنه سيكون غير طبيعي. مع الاعتذار عن هذا التشبيه البسيط. ما يميزه بصفة خاصة، أنه لا يراهن على الألبوم الغنائي، الذي يمكن أن يضم أكثر من ثلاث أو خمس أغاني أو أكثر، بل صار يعتمد بالأساس على ما يسمى بالأغنية السينغل، أي تلك الأغنية التي يتم تسويقها على انفراد. لقد رأينا كيف أن أغنية واحدة، وربما الأولى في رصيد هذا المطرب أو ذاك من مطربي الجيل الحالي، تجعله ذائع الصيت، داخل الوطن وخارجه، ويحظى بدعوات لا حصر لها لتنشيط حفلات غنائية في مناسبات مختلفة وفي كل الأماكن. عادة ما يتم تجريب أغنية ما عبر إذاعتها بشكل حصري في برنامج إذاعي مباشر، خصوصا في ظل رعاية الإذاعات الخاصة للأصوات الغنائية الجديدة، حتى إذا حظيت برضى وبتجاوب المستمعين، يتم العمل على تسجيلها، ونشرها على نطاق أوسع، من خلال ما تتيحه التكنولوجيا من وسائل سهلة وسريعة للتسويق. لقد بات بإمكان الفنانين الجدد أن يتم استضافتهم في محطات إذاعية أو قنوات تلفزية وغير ذلك من وسائط الاتصال، ويجري الحديث معهم حول تجربتهم الغنائية، حتى قبل أن ينتجوا عملهم الإبداعي الأول. وهنا نتساءل بأي صفة يحضر هؤلاء؟ وبماذا سيفيدون المستمع ما داموا أنهم ليس لهم تجربة قصيرة كانت أم طويلة في المجال الذي يتم استضافتهم بسببه؟ في اعتقادي أن الخطأ ليس خطأهم، بل خطأ صاحب المنبر الإعلامي الذي يستضيفهم، والذي ليس له من هدف آخر غير شغل المساحة الزمنية السائبة التي يستغرقها برنامجه الفني. أصوات غنائية تسعى إلى أن تحقق النجومية بضربة حظ، وبالتالي الحصول على الكسب المادي السريع والفاحش، مع هذه الأصوات لم يعد الهدف من الغناء هو تبليغ رسالة سامية أو التعبير بالمواصفات الفنية والجمالية المحترمة، بل تحقيق أعلى نسبة من المشاهدة عبر قناة اليوتوب وغيرها. فيمكن للمرء أن يؤدي لونا غنائيا يسمى الواي الواي- لاحظوا معي هذا الإسم العجيب- ليتربع على القمة، رغم أنه لم يشرع في ممارسة الفن إلا منذ سنة واحدة فقط أو أقل من ذلك. ولا شك أن اسم اللون الغنائي يدل على قيمته الفنية: الواي واي. لنتأمل عنوانا لإحدى الأغاني التي حظيت بنسبة عالية من المتابعة والمشاهدة، والتي حصل صاحبها على مكاسب، لم يحلم بها من رسخوا أقدامهم في ساحة الفن: (نبغي تجيني بالسورفيط) لأيمن السرحاني. إنها بالفعل عناوين غريبة، يمجها الذوق الفني، لا يراد بها سوى لفت انتباه الجمهور. كما هو الحال بالنسبة للأغنية الأخيرة لسعد المجرد التي حملت عنوانا بالإنجلزية، وحققت نسبة مشاهدة تفوق المائة مليون. الأدهى من ذلك أن هناك من هذه الأصوات الغنائية الجديدة من بات يلجأ إلى افتعال فضائح ذات بعد أخلاقي أحيانا، بعد أن يكون قد فشل في الظهور بعمل فني لائق، من أجل العودة إلى الواجهة. هناك أسماء أخرى من الجيل الجديد كذلك، التي استطاعت أن تحقق مكاسب مادية كبيرة، وتحظى بجوائز عديدة في ظرف زمني لا يكاد يذكر، كما هو الحال بالنسبة لأسماء المنور، التي قامت بإلصاق مقطع غنائي من تراثنا الشعبي، بكلمات من إبداع شاب ليس له رصيد يذكر في مجال الكتابة الشعرية، لتتبوأ بدورها المراتب الأولى في نسبة التلقي، ويسمح لها ذلك بالظهور في وصلات إشهارية تذر مزيدا من الأرباح، بالمشاركة بتلك الأغنية ذاتها، وهذا أمر مثير للغرابة: هل ننتج أغنية لتوظيفها في مادة إشهارية، أم أننا نغني لأن الغناء فن أسمى من كل ما هو مادي وتجاري؟ دنيا باطما المحسوبة بدورها على الموجة الجديدة من المطربين المغاربة، استطاعت بفضل ذكائها أن تكسب شهرة كبيرة في ظرف زمني قياسي، علما بأن أغلب أعمالها الغنائية يغلب عليها الطابع الخليجي. المثير في هذا السياق أن مطربة أخرى من الجيل نفسه تقريبا، عرفت بأدائها للأغنية الشعبية الأصيلة، هي زينة الداودية، لجأت أخيرا إلى الأنغام الخليجية وصبغت بها كلماتها الدارجة، كما هو الحال بالنسبة لأغنيتها الشهيرة (اعطني صاكي)، وقد استنكر العديد من عشاقها هذا التحول في مسارها الفني، مطالبين إياها بالبقاء وفية لتجربتها الغنائية الشعبية. ولا نغفل كذلك اسما آخر من الموجة نفسها، يدعى عبد الحفيظ الدوزي، كان له أسلوبه الخاص في تحقيق النجومية، والذي يعتمد على ما تتيحه التكنولوجية الحديثة من طرق للانتشار السريع، مع العناية بالأداء بلغات مختلفة، محاولة منه بلوغ قطاع أوسع من الجمهور، سيما وأنه ظل يراهن على الجولات التي يقوم بها خارج المغرب، منذ ظهوره في برنامج تلفزي يبث من أوروبا. ***** هناك إذن، حركة غنائية، موسومة بالشبابية، وهي صفة مغلوطة، إيمانا منا بأن الغناء لا يخضع لهذا النوع من التصنيف الفج. هذه الحركة الغنائية، التي استطاعت أن تحقق لأصحابها مكسب الشهرة والمال في ظرف زمني جد وجيز، لم تستطع مع ذلك أن تحقق شيئا أساسيا وهاما، وهو أن يكون إجماع حول قيمتها الفنية، وهو ما يفسر كذلك اختفاءها من الساحة بعد فترة قصيرة من ذيوعها، وقد صدق من قال: لا يصح إلا الصحيح.