صار العديد من المطربين الجدد يميلون إلى إنتاج أغنية منفردة وانتظار ما ستحققه من نجاح، لخوض غمار أغنية جديدة. إنهم يراهنون على الأغنية (tube) أي تلك الأغنية التي تحقق شهرة كبيرة، وتحظى بأعلى نسبة من المشاهدة، عبر قناة اليوتوب وغير ذلك من وسائل الاتصال التي تعتمد على التكنولوجيا. لا يهم أن يكون هذا النجاح ظرفيا أو عابرا، ما يهم بالنسبة لهؤلاء الفنانين هو تحقيق أرباح مادية على وجه السرعة، ثم تكرار التجربة نفسها مع عمل غنائي منفرد آخر. إن إنتاج هذا النوع من الأغاني عادة ما يتم بسرعة، عبر القفز على عدة متطلبات تفرضها الأغنية الحقيقية التي تدوم وتبقى. الاعتماد على التكنولوجيا في صنع إيقاعات موسيقية لمختلف الآلات، عدم الاجتهاد في كتابة النص الغنائي، حيث يصير الكلام العادي والسطحي قابلا لأن يؤدى وتردده الحناجر، كما أن البث والانتشار لا يتطلب سوى نقرة بالأصبع. من قبل، أي قبل ثلاثة عقود أو عقدين على الأقل، كان الإنتاج الغنائي يمر من عدة مراحل لكي يصل إلى الجمهور، وما يرافق ذلك من مشاق وتضحيات وانتظارات ووو.. فهناك لجنة تحكيم خاصة بالكلمات، وأخرى خاصة باللحن وأخرى خاصة بالأداء، وعندما يتم إجازة هذه العناصر المكونة للأغنية، يتم ترتيب موعد لاجتماع الجوق الموسيقي والمطرب والملحن.. من أجل تسجيل الأغنية، وانتظار بعد ذلك الموافقة على بثها عبر وسائل الإعلام. لكن هذا الجهد لم يكن يذهب سدى، بدليل أن أغلب، إن لم نقل كل الإنتاجات الغنائية التي تم إنجازها وفق هذه الشروط، ظلت خالدة، ولا تزال الأذن تعشق الاستماع إليها. الأسماء الأساسية في الأغنية المغربية، سواء من جيل الرواد أو الذي تلاه، توقفوا عن إبداع أغاني جديدة، أو على الأقل صاروا مقلين جدا، ومنهم من فضل أن يتوارى عن الأنظار، لهذا السبب أو ذاك. أحدهم، فتح الله المغاري، كنت سألته في حوار سابق، عن السبب الذي جعله يغيب عن ساحة الغناء؛ فأجاب بأنه لا يرضى بأن يقف في الصف وراء صفوف الجيل الجديد من أجل إنتاج أغنيته. هذا حال العديد من مجايليه: عبد الوهاب الدكالي، محمود الإدريسي، نعيمة سميح.. وبالتالي فإن الساحة الغنائية ظلت فارغة، وكان من الطبيعي جدا أن يملأها كل من هب ودب، فكل من فشل في حياته الدراسية أو المهنية، بات يلجأ إلى الغناء، علما منه أن هذا هو أضمن مدخل لكسب العيش ولم لا الاغتناء السريع والفاحش. طبعا نحن لا نعمم هذا الحكم على جميع الأسماء الجديدة التي طرقت باب الأغنية. هناك مواهب حقيقية، منها من شقت طريقها بنجاح رغم الصعوبات التي تواجه عادة الإبداع الحقيقي الذي يراعي شروط العملية الإبداعية بمختلف عناصرها. يمكن أن نتساءل في هذا السياق عن الأسماء التي برزت في مسابقات الأغنية التي كانت تنظم ببلادنا، العديد من هذه الأسماء لم يتم مساندتها سواء من طرف شركات الإنتاج أو حتى من طرف الملحنين الذين رسخوا أقدامهم في هذا المجال. كان من الممكن على الأقل أن يصدر لكل واحد منهم ألبوم غنائي واحد أو اثنان. لقد بات الإنتاج الغنائي في وقتنا الراهن، يعتمد على الدهاء أكثر مما يعتمد على احترام متطلبات إنتاج أغنية متكاملة، من حيث الكلمة واللحن والأداء. إنتاجات في ظل هذه الشروط عادة ما تملها الأذن، بمجرد الاستماع إليها مرات معدودة في حيز زمني جد محدود، وبات بالإمكان الحديث عن الزمن الافتراضي لهذه الأغنية أو تلك، منها ما تعمر شهرا واحدا، أو نصف السنة، ولا يعود أحد يحب الاستماع إليها، حتى صاحبها نجده يتجنبها والركوب على أغنية جديدة. لكن خلال هذه الفترة القصيرة جدا من حياة الأغنية المعاصرة، صارت تحقق ما عجز روادها على تحقيقه طيلة أعمارهم. لقد رأينا كيف أن أغنية "عندو الزين" لأسماء المنور، أو "أنت معلم" لسعد المجرد، على سبيل المثال لا الحصر، حظيت بعد إنتاجها وذيوعها، بامتيازات لم تكن تخطر على البال: مشاهدات تعد بالملايين في دقائق معدودة وما تذره من أرباح مادية، دعوة للمشاركة في مهرجانات وطنية ودولية، دعوة لتقديم إشهارات مقابل مبالغ مالية خيالية، شهرة واسعة.. إلى غير ذلك. كل ذلك يتم في ظرف زمني جد وجيز، لكن الأساسي الذي هو الأغنية في حد ذاتها، لا يظل لها أي وجود بعد ذلك، إنها شبيهة بغلاف المنجل، يختفي بمجرد ما ينتهي من أداء وظيفته. لا ينبغي إغفال حسن النية الذي عبرت عنه وزارة الثقافة، في ما يخص دعم الإنتاج الغنائي المغربي، على غرار الإنتاجات الفنية الأخرى، غير أن هذه المبادرة ستظل محدودة بالنظر إلى محدودية الميزانية المرصودة لها، وبالتالي فإنه من الضروري أن تتكاثف جهود كل من له غيرة على الأغنية المغربية الجادة، سواء من طرف القطاع العام أو الخاص، لأجل وضعها على السكة الصحيحة؛ فقد حادت عنها بأشواط بعيدة.