«ويكليكس» موقع يضم جميع معطيات بنكية، وثائق عسكرية وأسرار دولية غير أن حربه لكشف المستور تدور في أجواء سرية. وفي قلب هذا الجهاز الغامض، يبرز «هاكر» عبقري في المعلوميات، متنقل دائما، فوضوي ومصاب بجنون العظمة، اسمه جوليان أسانج... مر على تواجده أزيد من قرن من الزمن: منزل أبيض يتواجد في شارع «كريتيسغاطا» في ريكيافيك، التي توجد على بعد مئات الأمتار من المحيط الأطلسي. حتى في فصل الربيع، تهبّ رياح الشمال المتقلبة، فجأة، لتغطي المدينة بالثلج والجليد... كان هذا هو حال صباح 30 مارس، عندما جاء أسترالي يحمل اسم جوليان بول أسانج، طويل القامة، رمادي العينين، أبيض البشرة، فضي الشعر، يرتدي زي التزلج وبرفقته مجموعة صغيرة من الرفاق. «نحن صحافيون، يشرح لصاحب المنزل. نحن هنا لنحرر مقالات عن البركان». يقصد بركان «إيافيالايوكل»، الذي كان قد ثار في نفس اليوم. بعد ذهاب المُكري، أسدل جوليان الستائر وتأكد من أنها ستبقى كذلك ليلَ نهار... سيتحول هذا المنزل، في ما بعدُ، إلى مركز عمليات عسكرية وسيطلق عليه أصحابه اسم «بونكر»، أي «الحصن». مدججين بنصف دزينة من الحواسيب في غرفة جدرانها بيضاء وديكورها بسيط للغاية، مناضلون إيسلانديون قدموا ليباشروا عملهم على مدار 24 ساعة. والهدف؟ تطبيق المشروع «ب» هذه هي التسمية المشفرة التي كان يعطيها أسانج لشريط فيديو مدته 38 دقيقة، تم تصويره سنة 2007 من قمرة قيادة هيلكوبتر «أباتشي» كانت تحلق في سماء العراق. يعرض هذا الشريط صور جنود أمريكيين وهم يقتلون 18 شخصا، بمن فيهم صحافيان تابعان لوكالة «رويتز» للأنباء. هذا الشريط، الذي سيصبح بعد ذلك محط نقاش كبير، إلا أنه آنذاك كان سرا عسكريا مؤمَّنا. يمكن القول إن أسانج هو مهرب معلومات، وبمساعدة شركائه، يجمع وثائق وصورا تعتبرها الحكومات والأجهزة الموازية لها سرية للغاية وينشرها على موقعه الإلكتروني. أمين المال كونكريغب إلى جانب أسانج، يعمل روب كونكريغب، شخص نحيف، أصلع، ذو صوت دافئ، هذا المناضل والهاكر رجل أعمال هولندي، كما أنه مُقرب من أسانج منذ سنوات عديدة. عند سماعه ما يروج من أخبار حول قريبه وعن مراقبته، قرر أن قريبه يحتاج إلى مساعدته مضيفا: «قلما يستطيع جوليان النوم، فهو كائن بشري كسائر البشر لصبره حدود، وعندما أدركت أن زمام الأمور بدأت تفلت من يديه وأنه أصبح يفرط في تضييق الخناق، قررت أن ألتحق به لأساعده في ضبط الأمور وفي التحكم فيها بشكل أفضل».. وهكذا، أصبح كونكريغب هو المسؤول وأمين المال غير الرسمي للمشروع «ب» مقدما له حوالي 10 ألف أورو لتمويل العملية. أما داخل الحصن، فهو يتكلف بجميع ما يحدث ويسهر على أن تسير الأمور بشكل جيد، كما أنه يحرص على أن يكون البراد مزودا دائما بالمؤونة الكافية. نائبة برلمانية في الخدمة عند الساعة الثالثة زوالا، تظهر بريجيتا غونسدوتير، نائبة إسلاندية في الأربعينات من عمرها، طويلة الشعر، مع غرة تغطي جبينها، ترتدي تنورة سوداء وقميصا في نفس اللون، مزينة بالجماجم. تُخرج من حقيبتها قميص «ويكليكس» وترميه لأسانج قائلة: «إنه لك، عليك أن تغير ملابسك»!... يضع أسانج القميص جانبا ويستأنف عمله. جلست هذه المناضلة تحت قبة البرلمان منذ عام تقريبا، إلا أنها تعتبر نفسها شاعرة وفنانة وكاتبة ومناضلة.. ما يهمها بالأساس هو قناعاتها السياسية الثورية. «وحتى أكون صريحة، فقد كنت عاطلة قبل أن أحصل على هذا العمل، عندما دخلنا البرلمان أول مرة، كان الكل في غاية العصبية: أناس متعصبون للديمقراطية التمثيلية ومؤيدون للثورة، وهم اليوم في المكان المناسب، لم يكن أحدنا يوما يظن أنه سيصبح رجلَ سياسة. لدينا أجندتنا، وبمجرد تحقيقها، سوف نرحل». وهي تخرج حاسوبها، تسأل أسانج عن تصوره لتنظيم العمل. مناضلون إسلانديون آخرون في الانتظار: حوالي 12 منهم سيشاركون في تركيب الشريط، ومثلهم متطوعون قادمون من بلدان أخرى، ليساعدوا في إنجاز المشروع. يقترح أسانج أن نتصل ب»غوغل»، لكي يتأكد من أن «يوتوب» سيسمح بنشر الشريط وبألا يزيله، تحت أي ضغوطات»، تطالب غونسدوتير. «لديهم قوانين بخصوص العنف غير المبرَّر، لهذا يحدث أنهم يزيلون بعض الأشرطة، إلا أن هذا العنف ليس بغير المبرر»، يضيف أسانج. ماذا يا ترى بإمكاننا أن نطلب من سيد ... ليفعله؟ تسأل غونسدوتير، إلا أن أسانج، المنهمك في عمله، يترك تساؤلها دون جواب. «الفتنة الإعلامية» منذ إنشائه في دجنبر 2006، سرّب هذا الموقع العديد من الوثائق السرية والتدابير العملية الموحدة لمعسكر «دلتا» في «غوانتانامو» مرورا بمحتويات البريد الإلكتروني الشخصي «ياهو» لسارة بايلن، وصولا إلى رسائل البريد الإلكتروني المتعلقة ب«فضيحة المناخ»، التي أرسلتها جامعة «إيست إنجليا» في إنجلترا... هذه القائمة جديرة بأن توضح لنا أن «ويكليكس» ليست مجرد منظمة، بل هي -بتعبير أصح- «فتنة إعلامية»، فالموقع لا يُشغّل موظفين ولا يملك آلات ناسخة أو مقرات ثابتة، فحتى صاحبه لا يملك منزلا قارا، فهو يسافر من بلد إلى آخر ويؤويه أصدقاؤه أو بعض المتعاطفين معه. وقد قال لي في يوم من الأيام: «أقطن حاليا في المطارات»... أسانج هو المحرك الأساسي للموقع، وأينما حل وارتحل كان «ويكليكس» برفقته. وبالموازاة مع ذلك، هناك آلاف المتطوعين عبر العالم الذين يساعدونه في صيانة البنية المعقدة للموقع، غير أن أغلبيتهم لا يقدمون الشيء الكثير، ما عدا ثلاثة أو خمسة أشخاص متفرغين بشكل جدي لخدمة الموقع. فالأعضاء الرئيسيون حتى داخل «ويكليكس» لا يعرفون إلا بالأحرف الأولى من أسمائهم مثلا «م.» حيث يتواصلون بواسطة برنامج مشفر للمحادثة على الأنترنيت. هذا المناخ السري نابع من قناعة هي أن جهازا استخباراتيا ك«ويكليكس» أسسه ناس عاديون لا يملكون تقريبا أي مصادر وينشر معلومات لا ترغب مؤسسات وازنة في الإدلاء بها سيواجه لا محالة أعداء كُثْراً. كانت أيسلندا المكانَ المثالي لتطوير المشروع «ب». ففي سنة 2009، عمل أسانج، مع مناضلين ومسؤولين سياسيين إيسلانديين، على بلورة قانون يحمي بشكل خاص حرية التعبير. وقد قبل بعضهم بالتعاون بشأن شريط الفيديو في سرية تامة. كان الشريط مدهشا، إذ كان تمثيلا واضحا للغموض والوحشية التي تتصف بها الحرب المعاصرة، وكان أسانج يأمل في أن يفجر بنشره جدلا واسعا حول العراق وأفغانستان في الأوساط الدولية. كان يرغب في عرض هذه الصور أمام صحافيين في النادي الوطني للصحافة في واشنطن صباح يوم الخامس من أبريل. وفي أعقاب عيد الفصح، كان على الصحافة الهادئة أن تعيره بعض الاهتمام، ولبلوغ هذا الهدف، كان على أسانج وطاقمه أن يحلل شريط الفيديو العنيف ويعرضه كفيلم قصير. وقد أنشأ لهذا الغرض موقعا خاصا لنشره وأطلق حملة إعلامية واسعة وأنجز جميع الوثائق الإضافية اللازمة، وكل هذا في ظرف أقلَّ من أسبوع. تحدّ ومعطيات محصّنة يود أسانج أن يتأكد من أنه بمجرد ما سينشر شريط الفيديو على الشبكة العنكبوتية، سيكون من المستحيل على أي كان إزالته. وحسب تفسيراته، ف«ويكليكس» موقع يُخزّن معطياته في أكثر من 20 خادوما إلكترونيا وبأسماء نطاقات مختلفة. أما النفقات فتغطيها التبرعات، زيادة على أن بعض المتعاونين أسسوا ما يسمى «مواقع مرآة»، تمد الدعم ل«ويكليكس». يصف أسانج موقعه بأنه نظام من المستحيل مراقبته، مخصص بالأساس لإفشاء جميع الأسرار وللتحليل العلني لوثائق يستحيل على أي كان العثور على مصدرها وبأن أي حكومة أو شركة ترغب في سحب أي وثيقة عليها أن تفكك شبكة الأنترنيت بأكملها. وإلى يومنا هذا، ما زال الموقع يستقبل المئات من التهديدات بمتابعته قانونيا، إلا أنه حتى الآن لم يرَ أيٌّ منها النور... هدد محامو البنك البريطاني «نورترن روك» برفع دعوى قضائية عقب نشر الموقع وثائق داخلية «محرجة» تتعلق بالبنك. إلا أن هذه التهديدات تحولت بشكل تدريجي لتصبح توسلات. ومن جهته، توعد مسؤول كيني بأن يلاحق أسانج بعد نشر الأخير تقريراً سرياً يفيد أن الرئيس دانيال أراب موا وحلفاءه نهبوا المليارات من الدولارات. وقد لقي هذا الإنجاز صدى طيبا، إذ حاز «ويكليكس» على جائزة من طرف منظمة العفو الدولية. وبشكل عام، فأسانج لا يأبه كثيرا بالتهديدات التي يوجهها له بعض ذوي النفوذ، ففي سنة 2008، نشر بعض الكتيبات السرية للسيونتولوجيا، والذي طالب محامو الكنيسة بسحبها فوريا. وردا على هذا، قام أسانج بنشر وثائق سرية أخرى، مرفوقة بالبيان التالي: «لن تخضع «ويكليكس» للطلبات المتعسفة قانونيا للكنيسة، شأنها في ذلك شأن الطلبات المماثلة للبنوك السويسرية والمراكز الروسية لإنتاج الخلايا الجذعية والمرتشين من بين الحكام الأفارقة السابقين والبنتاغون». ويلاحَظ من خلال ما ينشره على الأنترنيت، وخصوصا في موقع «تويتر»، أن أسانج يدافع عن نفسه بكل شراسة عند استفزازه من أي طرف مُعادٍ، في حين أنه يظهر برودة دم غريبة في مقابلاته التلفزيونية. فتحت الأضواء، يبدو أسانج، بشعره الأبيض المخيف وبشرته الشاحبة وعينيه الفاتحين وجبينه العريض، وكأنه كائن نحيف أتى إلى الكرة الأرضية ليكشف للبشرية الحقائق الخفية... تعزز هذا الانطباعَ الذي يعطيه عن نفسه هيئتُه المتحفظة وصوته الحاد. أما بعيدا عن الأنظار، فأسانج شخص مفعم بالحيوية والنشاط، كما يملك أيضا قدرة هائلة على التركيز، وفي نفس الوقت، يمكنه أن ينسى بسهولة أن يحجز تذكرة طيران عند السفر.. وإذا تذكرها، فهو ينسى تسديد ثمنها.. وفي حالة ما إذا سددها، فهو ينسى موعد الطائرة!... لحسن الحظ أن الناس الذين من حوله يهتمون به طواعية حريصين على أن يكون في المكان والوقت المناسبين وألا ينسى ملابسه في الآلة المجففة قبل أن يغادر. يجلس على مائدة خشبية صغيرة في «البونْكر»، يبدو أسانج منهك القوى، جسمه النحيف منحن على حاسوبين، أحدهما متصل بالأنترنيت والآخر يحوي جميع الوثائق العسكرية السرية، إلا أنه معزول عن العالم العنكبوتي. ففي عالم التجسس لا شيء آمن. أما أسانج فيأخذ جميع الاحتياطات اللازمة، عندما يتعلق الأمر بتأمين موقعه، فالآذان المتصنتة تترصده في كل وقت وحين. أصيب طاقم «ويكليكس» ببعض الذعر، فقد أكد أسانج أن بعض المتطفلين مجهولي الهوية كانوا يتعقبونه، ليلتقطوا له صورة بغية مراقبته. وفي مارس، نشر تقرير عسكري سري أنجزه جهاز كشف التجسس الأمريكي في 2008، والذي يحذر من الخطر الذي يشكله «ويكليكس» ومن أنهم سيعملون على إقناع الجهات التي تزوده بالمعلومات بالكف عن ذلك. رأى أسانج في هذا التقرير حربا معلنة عليه، فقرر نشره تحت عنوان «أجهزة الاستخبارات الأمريكية تريد تدمير ويكليكس». في أحد الأيام، وقبل أن يستقر في «البونكر»، وهو في طريقه لحضور إحدى الندوات، انتابه شعور بأن أحدا ما يراقبه، فبدأ الخوف يسكنه. وذكر أسانج أنه كان في السويد، اضطر للمبيت لدى إحدى المراسلات، وإذا به يجد نفسه وحيدا، بعدما هربت وتركته وحيدا وقد اقتنعت أن وكالة الاستخبارات الأمريكية تتعقب خطاه. شيء ما مريب في إيسلاندا لم تتبدد مخاوف أسانج الأمنية تماما، فقبل أيام قليلة، يوم 26 مارس، قام بكتابة رسالة إلكترونية مدوية عنونها ب«هناك شيء ما مريب في إيسلاندا». وقد حكى في هذه الرسالة كيف ألقى شرطي محلي القبض على شاب متطوع يعمل لصالح «ويكليكس» لِما يزيد على 20 ساعة في اليوم، تم توقيفه لمحاولته اقتحامَ المصنع، حيث يشتغل والده. وقد أوضح أسانج أن «دوافعه لم تكن مبررة». وقد قال الشاب إنه تم استجوابه بخصوص المشروع «ب» من طرف رجال الشرطة أثناء احتجازه. أكد أسانج في رسالته أن الشرطة أرت الشاب صورا له، مأخوذة خلسة أمام مطعم «إيسلنديك فش آند شبس» في إيكيافيك، حيث تم عقد اجتماع ل«ويكليكس» في قاعة استقبال خاصة. وبما أن الشرطة أنكرت نقطا أساسيا من هذه الرواية، فإن أسانج يحاول معرفة المزيد. ها هو يتلقى اتصالا هاتفيا ويقفل الخط، في غضون دقائق معدودة. «تحدث صديقنا الشاب مع أحد رجال الشرطة، كنت على وشك أن أعرف المزيد، إلا أن بطارية هاتفي فرغت»، يقول أسانج مبتسما، وهو ينظر إلى هاتفه بنوع من الريبة. علقت النائبة الرلمانية غونسدوتير التي تعمل معه قائلة: «كلنا مصابون بانفصام في الشخصية». وأشارت إلى أسانج، الذي ما زال يرتدي زي التزلج: «انظروا إلى ملابسه!»... يقوم أمين المال كونكغريب ويتجه نحو النافذة ويفتح الستائر ليراقب ما يجري خارجا. أهناك أحد؟ تتساءل غونسدوتير. «إنها فقط الشاحنة التي تحمل الكاميرا، أجابها بخفة ظل. إنها شاحنة التلاعب بالدماغ». مصادر أسانج تشير الساعة إلى حوالي السادسة مساء، عندما قام أسانج أخيرا من مكانه. يحمل في يده قرصا صلبا يحوي المشروع «ب» وهو عبارة عن مقتطفات مصورة من كاميرا موجودة في «الأباتشي» والتي تظهر جنودا ينفذون عمليات في شرق بغداد. منذ ثلاث سنوات ووكالة «رويترز» تحاول، جاهدةً، الحصول على هذا الشريط، متحججة بالقانون الأمريكي لحرية المعلومة، ولكنْ دون جدوى... لا يرغب أسانج في الإفصاح عن مصادره، مكتفيا بالتأكيد على أن مصدره شخص تمرَّد جراء هذا الهجوم. وقد استغرق «ويكليكس» ثلاثة أشهر لفك رموز الفيديو المشفَّر. وبصفته متخصصا في علم التشفير، وصف العملية بأنها كانت «متوسطة الصعوبة». الكل مجتمعون حول الحاسوب، يشاهدون صورا بالأبيض والأسود: مروحية من نوع «أباتشي» تابعة للفرقة العسكرية الثامنة والتي تحلق فوق سماء بغداد، بمعية مروحية أخرى. تُظهِر الزاوية التي تصور منها الكاميرا صومعة مسجد والعديد من المباني والنخيل والشوارع المهجورة. نسمع أصواتا مشوشة وصفارات الراديو ومقتطفات من محادثة بين الجنود. أولى الكلمات المسجلة: «نعم، نلت منه!».. في هذه اللحظة، يوقف أسانج الشريط ليشرح: «في هذا الشريط، سوف ترون العديد من القتلى».. الفيديو، بشكل عام، مقسم إلى ثلاثة أجزاء. «في الجزء الأول، سوف ترون هجمة تم شنها عن طريق الخطأ، ويبدو بشكل جلي أنها نتيجة إهمال خطير. في الجزء الثاني، سنرى هجوما يهدف أساسا إلى القتل، وهذا تصور أي شخص يرى الشريط، أما الجزء الثالث فيستعرض مذبحة ذهب ضحيتَها مدنيون أبرياء، عقب متابعة الجنود هدفا مشروعا». الجزء الأول تقشعر له الأبدان، من جهة، لأن المزاح الذي كان يدور بين الجنود كان بعيدا كل البعد عن كل ما هو حضاري. «ما هذا القرَف!؟ إذا رصدتَهم فلتُفجِّرْهم»، قال أحدهم. ينزل الطاقم ليحاصر عشرات المارة الذين كانوا يتجولون في المكان، على بعد مجموعة من المنازل المعزولة التابعة لهم، ويشير إلى أن خمسة أو ستة أفراد يحملون بنادق «كلاشينكوف»، وفي الوقت الذي كانت «الأباتشي» تستعد لكي تناور وتتأهب لإطلاق النار، لمح الجنود أحد صحافيي وكالة «رويترز» للأنباء وسط عدد من المارة وإذا بالجنود يخلطون بين جهازه للتصوير عن بعد وبين قاذفة صواريخ. وفي غضون 25 ثانية، قتلت «الأباتشي» تقريبا كل المتواجدين في حقلها... أما الجزء الثاني فيبدأ بعدها بقليل، فبينما كانت المروحية تحلق فوق المجزرة، لاحظ الطاقم أن أحد الجرحى يحاول الزحف جاهدا. لا يبدو الجريح مسلحا. «كل ما عليك فعله هو أن تمسك بسلاح»، يقول أحد الجنود، وفجأة، تظهر شاحنة في مجال رؤيا المروحية ويخرج منها ثلاثة رجال غير مسلَّحين، راكضين نحو الجريح لمساعدته». لدينا ثلاثة أشخاص في المكان، لدينا انطباع بأنهم يريدون استرجاع الجثث والاستيلاء على الأسلحة»، يشير أحد الجنود، مع العلم أن هؤلاء الرجال لم يحاولوا فعل شيء سوى مد يد المساعدة. في الجزء الثالث، يخبر الطاقم مسؤولا رفيعا بأن ستة رجال مسلحين دخلوا إلى بناية في طور الإنجاز في منطقة حضرية آهلة بالسكان. من المحتمَل أن يكون بعضهم قد شارك في الاشتباك الأخير مع الجنود الأمريكيين، لكنْ يبقى هذا مجردَ افتراض يحتمل الصواب والخطأ. يطلب الطاقم الإذنَ لقصف المبنى الذي يبدو لهم مهجورا. «يمكن أن نصوب نحوه صاروخا»، يقترح أحد الجنود. أُذِن لهم بإنجاز المهمة، وبعد حين، يدخل شخصان غير مسلحين إلى المبنى. ورغم أن الجنود عاينوا الوضع، فقد استمر القصف: ثلاثة صواريخ «هيلفاير» تدمر المبنى، وإذا بالمارة يُدفَنون تحت كتلة هائلة من الحطام... فضح الأمريكيين في العراق من الناحية الأخلاقية، يرى أسانج أنه لا مجال للنقاش في أحداث العراق، أما من الناحية القانونية، فالشريط يبقى غير كافٍ للحكم بسهولة. شهرا قبل ذلك، تَعرّض أفراد الكتيبة البرية لما يزيد على 150 هجمة خلّفت 4 ضحايا و19 جريحا. وفي فجر ذلك الصباح، قامت الوحدة بتمشيط المنطقة، لجمع الأسلحة الصغيرة. لم يتورع جنود «الأباتشي» عن التقتيل والتحدث بعدها، بكل سخرية، عن ضحاياهم. لكن الهجوم الأول يبقى الأكثرَ وحشية. أما الهجوم الذي شُنّ على الشاحنة قابل للنقاش، ولو أن استعمال القوة لا محل له من الإعراب وغير مدروس، لكن الجنود لهم الحق في إطلاق النار على المقاتلين، ولو كانوا يمدون يد المساعدة للجرحى ويمكن أن نقول إن طاقم «الأباتشي» اعتقد، لأسباب معقولة، أن هؤلاء الرجال كانوا يساعدون العدو. يعتبر الجزء الثالث، على الأرجح، غيرَ قانوني، إذ يمكن أن يبدو على أنه قتل ناتج عن الإهمال أو أسوأ. إطلاق صواريخ على مبنى في وضح النهار لقتل ستة أشخاص ليس لهم أي أهمية إستراتيجية هو عمل ينم عن شطط في السلطة لا غير. والغريب أنه تم التعامل مع هذه القضية بكل استخفاف ولم يَصدُرْ أي أمر بفتح تحقيق في هذه المجزرة... أسانج رائد «الصحافة العلمية»! حصل أسانج على وثائقَ سريةٍ بخصوص الجيش تؤكد أن جميع القتلى، ما عدا صحافيَّيْ «رويترز» كانوا متمردين. وفي اليوم الموالي لهذا الحدث، صرح ناطق باسم الجيش قائلا: «ليس هناك أدنى شك في أن جنود التحالف دخلوا في اشتباكات عنيفة مع العدو». يأمل أسانج أن المشروع «ب» سيدحض هذه الرواية الرسمية التي تبنّاها الجيش الأمريكي. «إن هذا الشريط يبين ما أصبحت عليه الحرب المعاصرة، وأظن أن الناس بعد مشاهدتهم هذا الفيديو، عندما سيسمعون عن ضحايا الاشتباكات التي تكون مدعمة بالقوات الجوية، سيفهمون حقيقة ما يجري. ويوضح الشريط كيف أنه، ما عدا الأطفال، يعتبر كل المدنيين متمردين، بشكل تلقائي، وأن المارة الذين يسقطون ضحايا هذا التقتيل لا تتم حتى الإشارة إليهم». يتلقى «ويكليكس» أزيد من 30 تسريبا في اليوم الواحد، تنشر منها تلك التي تبدو موثوقا منها على الموقع، دون أي حذف أو تعديل وتكون مرفوقة بالتعليقات. يقول أسانج إنه ينوي إحداث مفهوم جديد في عالم الصحافة، هو «الصحافة العلمية». عندما تريد نشر مقال عن الحمض النووي، يتوجب عليك أن تقدم لجميع مجلات البيولوجيا الجادة جميع بياناتك، لتفادي احتمال أن يتم إعادة إنتاج بحثك، لهذا يتم التحكم فيه والتحقق منه. هكذا يجب أن يكون الحال أيضا في الصحافة، لأن اختلال موازين القوى جلي، فالقارئ عاجز عن التحقق مما يروى له، الشيء الذي يؤدي إلى العديد من التجاوزات». وبما أن أسانج ينشر وثائق أصلية، فهو يعطي نفسه الحق في أن يبدي رأيه بشأنها، ولو كان مجرد تخمينات. في حالة المشروع «ب» فهو يريد أن يعرض الشريط الأصلي على شكل فيلم قصير، لدعم التعليق. وقد فكر في أن يعنونه ب»رخصة إطلاق النار»، قبل أن يتوصل إلى صيغة أقوى وهي «جريمة ثابتة». على نهج بن لادن في 2006، نشر «ويكليكس» أولى وثائقه بعنوان «قرار سري»، من توقيع الشيخ حسن ظاهر عويس، أحد مؤسسي وقياديي اتحاد المحاكم الإسلامية الصومالية، والتي تم الاستيلاء عليها من الخادوم الذي يصل شبكة «تور» بالصين. كانت الوثيقة تطالب بالإجهاز على بعض المسؤولين، باستخدام قنّاصين محترفين. لم يكن أسانج وشركاؤه متأكدين من صحة هذه المعلومات، إلا أنه ظن أن القراء، باستعمالهم بعض خدمات الموقع على شاكلة «ويكبيديا»، بإمكانهم أن يساهموا في تحليل هذه الوثيقة. وكان «ويكليكس» قد نشر هذه الوثيقة مرفقة بسؤال: «هل لهذا البيان الجريء لمناضل إسلامي علاقة ببن لادن؟» أم إنها خطة ذكية وضعتها الاستخبارات الأمريكية لتُفقد الاتحاد الإسلامي مصداقيته وتزعزع التحالفات الصومالية وتتلاعب بالصين؟»... لم تثبت، يوما، صحة هذه الوثيقة، إلا أن خبر ولادة «ويكليكس» كان له تأثير سريع على تسريب هذه المعلومة. بعد أسابيع قليلة، ذهب أسانج إلى كينيا، ليعرض موقعه أمام كبار المعولمين في اجتماع شهده المنتدى الاجتماعي العالمي. «لم أر يوما أحدا يُعد حقائبه مثل أسانج»، يخبرنا أحد أقربائه. «جاء أحدهم ليقله، فسأله عن حقائبه، وإذا بأسانج يركض إلى منزله ويجمع ملابسه بسرعة البرق، كان أغلبها جوارب رماها في كيس من القماش الخشن». ظل أسانج عدة شهور في كينيا. كان يتصل خلالها في بعض الأحيان بأصدقائه، إما عن طريق الهاتف أو البريد الإلكتروني، لكنْ دون أن يخبر أحدا بما كان يفعل. «كنا دائما نتساءل عن مكانه»، يقول أحد أقربائه. «كنا نجد صعوبة في إيجاده وكأنه كان يحاول الاختباء»... ضربة ويكليكس المباغتة يعتبر الشريط الأصلي في حد ذاته لغزا، فهو مقتطَف خارج سياقه. استغرق أسانج وطاقمه بعض الوقت داخل «حصنهم»، يحاولون تجميع جميع قطع اللغز: الوحدات المعنية، طريقة قيادتهم، قواعد الاشتباك، المصطلحات المستعمَلة من طرف الجنود في اتصالاتهم اللاسلكية، وخصوصا التحقق من وجود أسلحة لدى العراقيين الضحايا. «أحدهم يحمل سلاحا»، يلاحظ أسانج، وهو يمحّص في الصور التي كان يظهر فيها كثير من الناس. «انظروا إلى كل هؤلاء الناس!».. «هناك من يحمل قنابل»، يقول كونكغريب. «لست متأكدا من ذلك»، يجيب أسانج، «ولكنها تشبهها شيئا ما». يعاود مشاهدة الشريط مرة أخرى. «سأقول لكم ما يبدو لي مريبا: إذا كان الأمر يتعلق بقاذفة قنابل، فإنني أرى واحدة لا غير، أين هي إذن بقية الأسلحة؟ كل هذه الأنواع، هذا شيء غريب».. ولكون الخوض في المسائل القانونية أمرا حساسا للغاية، فقد رفض أسانج مناقشة الأمر مع مسؤولي الجيش. «لا أظن أن هذا سيحسن الأمور، بل سيزيدها سوءا، سبق لي أن اتصلت بهم، إلا أنهم بمجرد ما يسمعون كلمة «ويكليكس»، تتغير نبرتهم ولا يُبدون أيَّ رغبة في التعاون»... يعتبر أسانج المشروع «ب» بمثابة ضربة مباغتة. وقد حاول مرارا أن يجذب إليه اهتمام «البنتاغون» بتعزيزه إشاعة تفيد أن هذا الشريط تم تصويره في أفغانستان سنة 2009. يرى أسانج أن الجيش لا يتصرف بحسن نية مع الإعلام: «بأي حق تتوصل هذه المؤسسة بالمعلومات قبل أن تصل إلى الرأي العام؟» يتساءل أسانج، بسخط. تنتقل هذه الحالة المضطربة لتخيم على»البونكر». في وقت متأخر من الليل، يُبدي أحد المناضلين تخوفه من إمكانية إلقاء القبض عليه عند وصوله إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية. «لن تجد وقتا مناسبا وآمنا أكثر من الآن للذهاب إلى الولاياتالمتحدة»، يطمئنه أسانج. «يقولون إن «غوانتنامو» تكون رائعة في هذا الفصل» يمزح كونكغريب. «وحده أسانج يبقى قابعا في مكانه، يمكن أن نخرج في الليل ونعود في الصباح لنجده في مكانه، غارقا في العمل. ويُحكى أنه، ذات يوم، اعتكف في غرفة في باريس قضى فيها شهرين متتاليين، دون أن يخرج، حيث كانوا يكتفون بتزويده بالطعام والشراب... أسلوبه في الحديث مع زملائه مقتضب جدا، فهو يكتفي بجمل قصيرة، مثل «أحتاج إلى برنامج التحويل» أو «تحقق من أن التبرعات عن طريق البطاقات البنكية مقبولة»، مع الحرص على تهدئة المشاحنات التي تنشأ بين مساعديه». وليتذكر كل واحد ما له وما عليه، يقوم كونكغريب، بمعية مناضل آخر، بإلصاق ورقة في المرحاض فيها برنامج العمل. وفي غرفة مجاورة، تتم ترجمة تعاليق الفيديو إلى لغات مختلفة، كما يتم التأكد من أن خواديم الأنترنيت ستتحمل الضغط المحتمَل بعد نشر الشريط. يريد أسانج أن يتأكد من إخبار عائلات الضحايا العراقيين، لكي يكونوا مستعدين بشكل جيد لوسائل الإعلام ولكي يزودوهم بمعلومات إضافية. وقد تم ذلك بتعاون مع التلفزة الوطنية «لاروف»، التي أرسلت صحافيين إيسلانديين إلى بغداد للتحدث إلى هذه العائلات.