مؤكد أن موقع «ويكليكس» هو الآن بصدد إنجاز ثورة إعلامية غير مسبوقة، على مستويات متعددة. لقد مس تسريب المعلومات والوثائق والبيانات قطاعات ومجالات عديدة، تتعلق كلها بالسياسة الدولية. لم تكن هذه التسريبات الهائلة، مسبوقة، أبدا، في حجمها وأبعادها وتأثيراتها، حتى إن أحد صحافيي جريدة «لوموند» سماها، بلغة صدام حسين، «أم التسريبات»... لقد أصابت هذه التسريبات للوثائق والبيانات، في الصميم، مسألة السر الدبلوماسي، الذي يعتبر الممارسة السياسية الأساسَ الذي يحكم علاقات الدول في ما بينها وعلاقات الأجهزة والمؤسسات السرية. لقد بينت تسريبات موقع «ويكليكس» أن الأسرار الدبلوماسية لم تعد كذلك في عصر الأنترنت والشبكة العنكبوتية وأنها لا تظل أسرارا إلا زمن بقائها كذلك في الأرشيفات المغلقة. بهذا المعنى، يمكن القول إن موقع «ويكليكس» أسس لنوع من الممارسة الإعلامية غير المسبوقة، التي صارت معها متاحةً معرفةُ الوثائق الأكثر سرية من طرف الكل. يتعارض السر، تعارضا جذريا، مع الشفافية، تماما كما يتعارض المُقدَّس مع المُدنَّس، بل إن السر اكتسى، في الكثير من الأحيان، مسحة دينية أضفت عليه سمة الرعب. لكن زمننا ليس زمن السر، بل زمن نقيضه، وهو الشفافية، بل إن هناك، بشكل ملتبس نوعا ما، إيديولوجيا متعلقة بالشفافية والاستقامة والبراءة، ترى في السر شيئا خفيا تكتنفه عقدة الإحساس بالذنب. إيديولوجيا الشفافية تنهض إيديولوجيا الشفافية على اعتبار أن كل شيء يمكن عرضه أمام الملأ وأن يصير ملكا عموميا خاضعا لنظرة الآخرين وموضوعا لإجراءات المراقبة. إن الأكثر إثارة للقلق في إيديولوجيا الشفافية، اليوم، هو ارتباطها بفكرة الديمقراطية، كما لو أن تطور الدمقرطة يتساوق مع انتشار الشفافية وتراجع السر. إن بزوغ موقع «ويكليكس» على الساحة الإعلامية الدولية يسهم، بشكل فعال، في انتشار إيديولوجيا الشفافية هذه وفي إعادة النظر في مجموعة من المعايير المرتبطة بالصحافة، بدءا من مصادر الأخبار وحتى صياغة الخبر نفسه. هناك موقفان مما يمكن تسميته «قضية ويكليكس»، الموقف المأساوي والموقف النسبي. تعتبر هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، من ضمن أصحاب الموقف الأول طبعا، لأنها أدانت العمل اللا مسؤول الذي وجه ضربة موجعة للدبلوماسية الأمريكية، مستعملة مجموعة من البراهين والحجج، ومتحدثة عن ضرورة العمل الدؤوب من أجل إصلاح الضرر وتجاوزه. لقد نُشرت مئات من البرقيات والوثائق على الجمهور العريض، واضعة الحلفاء في موقف حرج ومصدوم إزاء طبيعة الأحكام والتقييمات لسلوكهم ومواقفهم، حيث سيصيرون، انطلاقا من ثورة «ويكليكس» الإعلامية والدبلوماسية، حذرين، خصوصا أن الشفافية ليست، في كل الحالات، فضيلة. لقد كتب الصحافي ريشارد كوهن في جريدة «واشنطن بوست» قائلا: «إن الحكومات، كما الزّيجات، لها الحق في الحفاظ على السر». إنها ال»واشنطن بوست» نفسُها التي كانت وراء فضيحة «ووتر غيت»، حين دفعت ريشارد نيكسون، الرئيس الأمريكي، إلى الاستقالة، بعدما كشفت وسربت التسجيلات السرية لمكالماته وحواراته الخاصة في مكتبه في البيت الأبيض. لقد كانت هيلاري كلينتون على حق حين شعرت بالغضب، لأن التسريبات تمت انطلاقا من وزارتها، حسب ما هو معروف الآن، من خلال المحلل الشاب برادلي مانينغ، الذي اتُّهم بكونه وراء هذه التسريبات الهائلة، إذ كان مسموحا له بولوج موقع الوزارة، الذي يضم الوثائق الكثيرة التي نشرها «ويكليكس»، لكن أشخاصا كثيرين كانوا يلجون الموقع ذاته، وهو ما يضفي طابع النسبية على مصطلح السر. إلا أن روبرت غيتس، وزير الدفاع، عبر عن موقف نسبي إزاء هذه التسريبات واعتبر أن هناك برقيات متسرعة ومجانبة للصواب وأن العمل الدبلوماسي الأمريكي ستشوبه، من الآن فصاعدا، بعض الصعوبات والحرج، لكن نتائج ذلك ستكون، على العموم، متواضعة جدا، وهو الموقف الذي يبدو أكثر ملاءمة للواقع، لأن مضمون التسريبات لا يمس في العمق جوهر السياسة الخارجية الأمريكية إلى حد الآن، بل يُبيِّن الطابعَ الاحترافي الدبلوماسي وحرص السفراء الأمريكيين على رسم بورتريهات نفسية للزعماء والسياسيين في الدول الأخرى، بورتريهات واقعية، مرتبطة بضرورة الدفاع عن المصالح الأمريكية، عن طريق التفاوض. أمريكا «تتعرى» يشير جوليان أسانج، مؤسس موقع «ويكليكس» ومنشطه والمشرف عليه، إلى أن بحثه عن الشفافية المطلقة هو ما يقوده إلى إبراز الطابع الفضائحي والإمبريالي والسيئ للسياسة الخارجية الأمريكية، لكن الأمر يبدو بعيد المنال. لقد قالت «فاينانشل تايمز» (4 دجنبر الجاري) إن الوثائق دقيقة، مكتوبة جيدا ومباشرة كلما دعت الضرورة إلى ذلك. كما أن جرائد «غارديان» و»دير شبيغل» و»إلباييس» و»لوموند» و»نيويورك تايمز» اختارت نشر تقارير تلخيصية وتحليلية لبعض الوثائق. كتبت «تايمز»، من جهتها، قائلة: «ما يصدمنا ويطمئننا هو غياب سوء النية في طريقة إدارة السياسة الخارجية الأمريكية (...)، فبعد سنوات من سوء تدبير إدارة بوش، تُبيِّن البرقيات أن دبلوماسية أوباما تنهض على التفاوض واستعمال الذكاء». ليس هناك، إذن، وجود لمحيطات الفساد والتحايل والخداع والمؤامرات السوداء التي وعد بها «ويكليكس». إن الوثائق المسرَّبة لا تمنحنا عن أمريكا أوباما صورة القوى العظمى الإمبريالية المُعتدَّة بنفسها، بل العكس تماما. تقول ليسلي جلب، الصحافية والدبلوماسية السابقة المختصة في القضايا الإستراتيجية، إن قراءة وثائق «ويكليكس» ترسم لنا بورتريها لأمريكا لم تعد تملك سلطة فرض حلول على الآخرين، أمريكا التي تتفاوض مع حلفائها المحرجين ومع أولئك الذين ترتبط معهم، عبر الحصول على حصتها من البترول (الكثير من الدول العربية)، وأبناء العمومة، الذين لا يملكون جيوشا لإمدادها بهم (الأوربيين) والدولة الكبرى التي تعتبرها خزانا بنكيا (الصين)... إلخ. نحن هنا بعيدون عن البيت الأبيض في عهد جورج بوش -الابن، الذي حاول إعادة صياغة العالم على مقاس سياسة القوة والحروب الاستباقية، وحاول إعادة تشكيل الواقع السياسي الدولي، خصوصا بعد سقوط جدار برلين وبعد ال11من شتنبر 1002. ترسم وثائق «ويكليكس « صورة لأمريكا براغماتية داخل عالم متعدد الأقطاب، لم تعد فيه قرارات وسلطة القوة العظمى الخيارَ الأوحد. هل يتعلق الأمر هنا، بالضرورة، بمعطى دبلوماسي جديد؟ وهل يمكن صياغة عالم جديد يتسم بالشفافية والصراحة وسلطة الحقيقة، انطلاقا من وثائق تعرَّف عليها الجمهور في الأنترنت أو في الصحف الورقية، عبر تسريبات ما زالت، رغم كل ما يقال عن مصدرها، غامضة؟ إنه السؤال /الأسئلة، التي ما زال الجواب عنها الآن سابقا لأوانه، لأن الكثير من علامات الغموض تكتنفه. يقول جوليان أسانج، ضمن أجوبة له عن أسئلة طرحها قراء على موقع جريدة «غارديان»، إنه كان يعلم أنه سيلعب، عبر «ويكليكس»، دورا كونيا وأن الموقع أو التنظيم سيُحدث رجة في الموقف الدولي، معتبرا أن في ذلك إعادة اعتبار للصحافيين الذين يجازفون بكشف المزيد من الوثائق والأخبار. يكمن الجديد، هنا، في وضع العديد من البيانات والكم الهائل من الوثائق مباشرة رهن إشارة العموم، بمعنى تجاوز احتكار الدوائر الدبلوماسية الأمريكية الأخبارَ والمعلومات، والتي لا تنفصل عن احتكارها دواليبَ تسيير السياسة الدولية. يتم، أيضا، عبر هذه التسريبات، تجاوز ثنائية المواقف وما يمكن تسميته النفاق السياسي بين الأنظمة والزعماء، من جهة، والإدارة الأمريكية، من جهة أخرى، لأن الكثير من المواقف الحقيقية لا يتم التعبير عنها إلا في السر، لتتم بعد ذلك صياغتها ضمن بورتريهات السفراء الأمريكيين. لم تكن السياسة، عموما، سواء كانت داخل دولة واحدة أو بين مجموعة من الدول، تعتمد على العلن والكشف، وإلا فقدت الكثير من بريقها وسريتها، وهو نوع من التعايش والنفاق الضروري لحفظ التوازن العالمي. لكنْ، في زمن الأنترنت والمواقع الإخبارية المتعددة، تصير أبسط الجمل والمواقف المعبَّر عنها أو الأذواق والسلوكات الشخصية جزءا من النسيج الإعلامي العام. هناك انتقال من سرد خاص إلى سرود معممة، والأساسي في هذه البورتريهات هو أن أبسط الأشياء قد تصير ذات أهمية وينكب الدبلوماسي على صياغتها بعناية. تتحدث الوثائق، مثلا، عن الحياة الجنسية والعاطفية المتقلبة لسيلفيو برلسكوني، وعن ولع القذافي ب»الفلامنغو» وعن أطواره الغربية وتقلباته المزاجية وعن الفساد والرشوة في نيجيريا وادعاءات لوران غباغبو، الرئيس الإيفواري السابق، أن دوفيلبان طلب منه تزكيته لدى شيراك ليصير وزيرا أول.. كما تتحدث وثائق «ويكليكس» عن الرشوة وحرب المواقع لدى «الأوليغارشيا»، الحاكمة في داكار، وعن خوف واشنطن من انعدام الاستقرار الذي يتهدد السنغال وعن دور فرنسا والولايات المتحدة في إزاحة العقيد داديس كامارا، زعيم الطغمة العسكرية الحاكمة في غينيا، إبان فترة معالجته الطبية في المغرب، وعن غيرها... الأساسي في كل هذا هو أن الدبلوماسية الأمريكية، حيثما كانت، لم تكن نائمة، بل مشتغلة عبر العالم كخلية نحل، لا تهمل أي ملاحظة صغيرة كانت أو كبيرة. تبدو هذه السرود الإخبارية المعممة شبيهة بفصول من رواية كونية شاملة تتنوع فيها الشخوص والأحداث: مهرجون ولصوص وفاسدون ومافيات سياسية تقتطع حصتها، بوقاحة، من الاستثمارات الخارجية، ودكتاتوريون عجزة يحاولون «توريث» كراسيهم للأبناء.. رواية شبيهة ب«دون كيشوت»، الفرق الوحيد هو أن شخوصها تتحكم في العالم، فعلا. صحافيو «ويكيليكس» تقول الطالبة إيزابيل فرازر، التي اشتغلت كمتطوعة في «ويكليكس» في لندن، إن المنطقة تشتغل بدقة، وإن أغلب المتطوعين يساهمون في «ويكليكس» لأنهم يؤمنون بعمله أو لأنهم منبهرون بشخصية جوليان أسانج.. وحين انخرطت في العمل ضمت طاقم الموقع، طُلب منها فرازر التزام السرية التامة، بل إن الكثير من زملائها يخشون الملاحقة والتصنت إلى هواتفهم. تصف فرازر شخصية أسانج بأنها ساحرة وشبيهة بعازف الناي في الخرافة، الذي يتبعه حشد من المعجبين الذين يعبرون عن إعجابهم به عبر الأنترنت.. ويعتبر أعضاء «ويكليكس» أنفسهم صحافيين مختصين في البحث والتحري، يقومون بعمل لم يعد الصحافيون أنفسهم قادرين ولا راغبين في القيام به، إنهم ينجزون نوعا من الصحافة الخام، حيث إن «ويكليكس» يدرس كل وثيقة على حدة يرغب في نشرها ويلجأ، أحيانا كثيرة، إلى مختصين من أجل التأكد من صحتها ومصداقيتها. إنه عمل أرشيفي خالص، يرتبط عبره «ويكليكس» بعلاقات معقدة مع وسائل الإعلام ووسائط الاتصال، لخدمة الهدف الأوحد لهذا الموقع/المنظمة وهو «نشر العدالة في العالم»... يولي «ويكليكس» لنفسه، إذن، مهمة أكثر نبلا مما تسنده إليه وسائل الإعلام. لقد صار جوليان أسانج مثل «بابا» الوثائق الأسرار الدولية، كما بيَّن ذلك، مثلا، غلاف العدد الأخير لمجلة «تايمز»، الذي صوره ملثما بعَلم أمريكي مع العنوان التالي: «هل تريد معرفة سر؟»... لقد تدخل «ويكليكس» في منطقة ملتبسة وخطيرة بالسر السياسي، لذلك ضيَّق عليه المسؤولون السياسيون الخناق، وليس مستبعَدا ترحيله إلى أمريكا، بعد اعتقال أمؤسسه في بريطانيا. لقد أعلن إيريك هولدر، وزير العدل الأمريكي، أن هناك إمكانيات للمتابعة القضائية، حسب القانون ضد التجسس أولا والقانون المضاد للإرهاب ثانيا، مع تفضيل الاختيار الأول. واعتبر مايك هوكابي، حاكم ولاية أزكنساس السابق، أن أسانج يستحق الحكم عليه بالإعدام، لأن كل حكم آخر عليه سيكون ضعيفا، أما سارا بايلن، المرشحة الجمهورية السابقة للرئاسة، فقد اعتبرت أن مؤسس «ويكليكس» يجب أن يحاكم حسب قانون الإرهاب لأنه «ليس صحافيا، بل عميلاً مضاداً لأمريكا، ملوث اليدين بالدم»... واعتبر شافيت، صحافي الرأي في الجريدة اليومية «هارتز» الإسرائيلية، أن جوليان أسانج مجرم خطير، ليس إرهابيا في شبكة الأنترنت ولا مجرد فوضوي مهووس يسيء إلى أكبر قوة سياسية في العالم، بل إنه مجرم، لأن الوثائق التي سرَّبها موقعه تلغي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ومشكلة المستوطنات والاحتلال وتركز فقط على إيران. ولا علاقة، حسب هذا الصحافي، بين المشكلة في الشرق الأوسط والمشكلة المتخيَّلة كما نشرتها الصحف نقلا عن «ويكليكس». يمكن استخلاص الكثير من الدروس والعبر: هل يجب الحفاظ على نظافة الأيدي أم تلويثها؟ وهو السؤال الذي يميز بين دعاة الشفافية المطلقة ودعاة السر. أما الموقف الوسيط بينهما فهو يتعلق بطبيعة النوايا والنتائج الناجمة عن ذلك. لقد حرص «ويكليكس» على تسريب الوثائق وتنظيم ذلك عبر عناوين الصحف الخمس الكبرى التي اعتمدتها، وعبر إزالة الأسماء. يكمن الجديد هنا ليس في الوقف التقليدي للصحافة التي عادة ما تبحث عن مصادر الأخبار الصريحة أو السرية، بل في موقف مؤسس «ويكليكس»، الذي فضّل تسريب صيغة مراقبة من الوثائق التي هي في حوزته، من خلال تعاونه مع الصحافة. لم يكن جوليان أسانج، إذن، «زعيمَ الشفافية»، كما يذهب إلى ذلك أنصاره، لأنه التزم بنوع من المسؤولية إزاء طبيعة التسريبات التي قام بها، لأن التسريبات السابقة (004 ألف وثيقة) وضعت حيوات أشخاص كثيرين في خطر، ومن ضمنهم المخبرون الأفغان والباكستانيون. قبل الخبر إن زخم الأخبار والكم الهائل للمعلومات التي تضمنتها الوثائق قد تقتل الخبر وتنزع مصداقيته، خصوصا في زمن يلفي فيه المرء نفسه محاصَرا بطوفان إعلامي من كل حدب وصوب، لذا كان ضروريا الاختيار بينها، لإعطاء حياة جديدة للصحافة الورقية. لقد شكلت الأنترنت، في هذا السياق، نوعا من التحفيز للصحافة، ودفعها إلى المزيد من الفعل وروح المبادرة. تفرض هذه القضية على الصحافة المزيد من العمل في التحليل الصحافي والعمل الأرشيفي وانتقاء المعلومات والأخبار والبحث عن سياقاتها وتحديدها والتزام نوع من المسافة الموضوعية إزاءها، أي تفرض عليها، بالضرورة، المزيد من المهنية والالتزام بالأخلاق العلمية للصحافة، التزاما إيجابيا وفعالا، بالنظر إلى النتائج الدبلوماسية والسياسية التي قد تترتب عن كل تهور. هناك «فانتازمات» كثيرة حول الدبلوماسية الأمريكية أسقطتها وثائق «ويكليكس»، إذ بالرغم من المعلومات حول التجسس على أعضاء وموظفي الأممالمتحدة والهوس الغريب بجمع الحمض النووي، تركز أغلب الوثائق على حقوق الإنسان (782152 وثيقة) أكثر مما تركز على المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة (11255 وثيقة). ليست أمريكا هي التي تمت تعريتها وكشفها في الوثائق، بل الأنظمة الديكتاتورية الاستبدادية، لأنها الأكثر خوفا وهلعا من «ويكليكس» ومن الشفافية، خصوصا أن ممارساتها السياسية والاقتصادية كثيرا ما يسودها الغموض والسرية المفرطة والارتباط بمافيات تشتغل خلف الستار وفي الدهاليز المعتمة لسلطة القمع وسلطة المال والأعمال. آلآذان في كل مكان إن عمل «ويكليكس» ينبغي أن يحتل موقع الوسط، لأن الشفافية بدون مسؤولية قد تقود إلى «التوتاليتارية». كما أن المسؤولية بدون شفافية قد تخنق الديمقراطية. لقد اكتشف العالم أن آذانا كثيرة عبر العالم كانت تنصت، بانتباه، وتدون كل ما يقال، وأن رأي الدبلوماسيين الأمريكيين لم يكن هو المهم، بل ما يقوله ويبوح به محاوروهم من الأجانب، ضمن ما أسمته الأسبوعية الروسية «expert» جاسوسية الروايات التي تقرأ في محطات القطار... إن ما اكتشفه العالم ليس جديدا بالضرورة، وهو أن الأمريكيين موجودون في كل مكان ويقومون بعملهم بدأب وحنكة، ويتم الإنصات إلى آرائهم باهتمام.. كما أن وسائل الإعلام العالمية -ينقل «ويكليكس»- تبين نوعا ما، أن العالم صار مجموعة من الوثائق والسرود (مفرد سرد) موجهة لنوع القارئ المتفرج ضمن فرجة كونية عارية، كثيرا ما يتم إهمال سياقاتها الاجتماعية والسياسية والجيو إستراتجية، فرجة شفافة تماما، مثل إعلان إشهاري لمادة استهلاكية، تروج في مختلف مناطق العالم ويقدمها في الإعلان نجم أو نجمة سينمائية من هوليود... إنها قوة التأثير التي يمارسها سرد الحكايات منذ نهاية القرن العشرين، وخصوصا مع بداية القرن الواحد والعشرين. الفرق الوحيد هو أنه ليس سردا متخيلا بل واقعي، مرتبط بأحداثٍ ووقائعَ وشخوص تمثل أدوارها الفعلية فوق الركح الكوني. لكنه يحضر كنوع من «إيديولوجيا الهيمنة»، في زمن الزخم الإعلامي الطوفاني، حيث يتم إنتاج الحكايات بطريقة متسلسلة وحسب الفصول والتقلبات!...