دعا محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، النخب العربية إلى مراجعة تصوراتها ومقارباتها للواقع العربي الراهن، مؤكدا أن الظروف الإقليمية تغيرت كثيرا، وأن تصوراتها في الماضي أيضا كانت خاطئة. وزير الخارجية السابق أكد في مستهل محاضرته التي ألقاها في إطار منتدى عبد الحميد شومان في عُمان الإثنين الماضي، أن “موضوع النخب والأزمات العربية أصبح ذا راهنية الآن بسبب تفاقم الأزمات في أغلبية الدول العربية، وتفاقم حدتها واتساع تداعياتها”. وتوقف بنعيسى عند “خمس أزمات كبرى”؛ تتعلق ب”انهيار الدولة الوطنية”، وب”الوضع المسدود الذي وصل إليه النظام الإقليمي العربي”، وب”المأزق الذي وصلت إليه العلاقات بمنطقة الجوار الجغرافي..أي إيرانوتركيا”، مضيفا الأزمة الناجمة عن “توقف مسار التسوية السلمية للصراع الفلسطيني العربي- الإسرائيلي”، وكذلك أزمة “تصاعد موجة التطرف الديني العنيف”. ورصد بنعيسى موقف النخب العربية من “انهيار الدولة الوطنية العربية التي أطلقت عليها عبارة “الدولة القُطرية”، واعتبرتها عديمة الشرعية مسدودة الأفق والمستقبل، كما أطلقت عليها “دولة التجزئة” وراهنت على اختفائها وانحسارها في الدولة العربية الموحدة المنشودة”. مؤكدا بأن الخطاب السياسي لهذه النخب التي تشمل “الزعامات السياسية والصفوة المثقفة، والقوى المدنية الفاعلة”، “لم يسع في الغالب للتفكير الجدي الموضوعي في الدولة الوطنية”. وأضاف بنعيسى بأن “الدولة الوطنية السيادية المركزية لا تتعارض ضرورة مع البنيات الاجتماعية العصبية والطائفية والإثنية”، وبأن “التجربة الأوروبية تُثبت لنا أن الدولة الوطنية هي التي وحدت المجتمعات والبلدان ومنحتها هوية قومية مشتركة. وفي ذات السياق شدد بنعيسى على أنه “ليس من الصحيح أن العالم العربي كان موحدا قبل أن تمزقه مخططات الاستعمار، واتفاقيات القوى الدولية المحتلة. فتجزؤ المحيط العربي ليس جديدا. وبعض الدول القائمة حافظت منذ قرون على استقلاليتها، وهويتها الوطنية، بل وحتى على نظامها السياسي كما هو شأن المغرب مثلا”، ليخلص بأنه “على النخب العربية أن تراجع تصوراتها ومقارباتها للدولة الوطنية العربية التي أصبحت اليوم المثال الأقصى المنشود في مواجهة حركية التفكك والتآكل التي تعرفها بلدان عديدة”. وفي معرض حديثه عن المسار الوحدوي العربي بيّن محمد بنعيسى بأن رهان النخب العربية عليه قد فشل. لأن هدف اندماج العرب وتوحدهم، بحسب ذات المتحدث “ليس مشروعا بل هو ضروري وملح، ولكن لأن مقاربة هذه النخب لوحدة العرب واندماجهم اتسمت غالبا بالغنائية الحالمة، وغابت عنها النزعة العقلانية والواقعية الموضوعية”. وأكد بنعيسى بأن “مشروع الوحدة العربية لا يمكن أن يتحقق بالقوة ولا بالتوسع والهيمنة”. مضيفا بأن “مراجعة هذه الفكرة ضروري لاستعادة النظام الإقليمي على أسس جديدة، وفق حقائق المرحلة وتجارب العالم الناجحة في الاندماج”. ولم يفت بنعيسى في محاضرته أن يلفت الانتباه إلى أن “القوتين الإسلاميتين المجاورتين، أي إيرانوتركيا، لم تعودا حاليا في موقع الجوار الجغرافي، بل تحولتا إلى طرفين فاعلين من داخل المنظومة الإقليمية العربية”، ما يدفعه إلى طرح التساؤل: “ماذا نقول إذن إذا كانت إيران أصبحت مسيطرة على قلب المشرق العربي في العراق وسوريا، في حين أصبحت تركيا – كما يراها كثيرون – المظلة الحامية لانشقاقات العالم العربي والقوة الفاعلة في تدبير أزماته؟”. وتطرق بنعيسى إلى الموضوع الفلسطيني، معتبرا بأن إدراته قد تعقدت لأنه “اعتُبر بؤرةَ صراع قومي بين العروبة والصهيونية وصراعٍ حضاري مع الغرب”. ودعا النخب العربية اليوم إلى إعادة النظر في تصورها ل”الموضوع الفلسطيني، وتحديد أدوات وآليات إدارته، بعد أن أدت المعادلة العملية التي كرسها الاحتلال إلى استحالة قيام دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة. بما يعني في الآن نفسه استفحالَ وضع التمييز العنصري داخل الكيان الإسرائيلي الموسع، وبروزَ أوراق جديدة في التعبئة والنضال السياسي من أجل استمالة الرأي العام الدولي لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني المحتل”. وأنهى بنعيسى محاضرته بدعوة النخب العربية إلى “وقفة حقيقية لمعالجة لأزمة المتعلقة بالموضوع الديني، لتصحيح أخطاء نظرية وعملية عديدة طغت على الوعي والخطاب في العقود الماضية، مثل القول بأن الإسلام دين ودولة، في حين أنه ديانة لها بنيتها العقدية، ومنظورها القيمي، وأحكامها التشريعية، وليست نظاما أيديولوجيا للتعبئة واقتناص الحكم”.