من القواعد الثابتة في الاجتهاد القضائي الجنائي أن “تصريحات متهم على متهم لا يعتد بها إلا إذا اقتنعت بها المحكمة”. ومعنى ذلك، أن جميع الإفادات والتصريحات والأقوال التي يدلي بها المتهم خلال إجراءات المحاكمة والخصومة الجنائية لا يمكنها أن ترتب آثارا قانونية في حق الأغيار، إذا لم تستقر عليها القناعة الوجدانية للقاضي واقتنعت بها هيئة الحكم اقتناعا شديدا. كما أن الممارسة القضائية برهنت على أن المشتبه فيه أو المتهم، بحسب مراحل الدعوى، غالبا ما يلوذ بالإنكار ودحض التهم المنسوبة إليه، مدفوعا إلى ذلك بما تختزله الثقافة الشعبية المغربية من أن “الناكر لا يبيت في السجن”، وهي مسألة قديمة ومتقادمة تعود لفترة زمنية كان فيها القانون يعطي الحجية المطلقة للاعتراف، وكان يعتبره “سيد الأدلة”، وبالتالي فإن الإنكار كان ينسف الأدلة كلها، ويمنح للمتشبث به البراءة أو الإعفاء من العقوبة بحسب الحالات. أما اليوم، وبعدما فقدَ الاعتراف حجيته القطعية، وتنوعت الأدلة والقرائن والإثباتات، وصار العلم والتكنولوجيا الحديثة في خدمة العدالة، فإن المحاكمات لم تعد تراهن على الاعتراف بقدر ما تحرص على تعزيز وسائل الإقناع العلمية. وبالتالي، فإن المتهم سواء أنكر أو اعترف بالمنسوب إليه، فإن القضاء يرتب الجزاءات القانونية بما توفر لديه من حجج وقرائن عديدة تعزز الإدانة أو تدعم البراءة، بحسب ظروف كل قضية على حدة. ومرد هذا الحديث، إلى أن بعض الجهات تحاول في الآونة الأخيرة تقديم تصريحات بعض المتهمين، ودفوعات محاميهم، على أنها هي الحقيقة المطلقة، وأنها مؤشر قطعي على براءتهم، وقرينة قوية على أنهم “مستهدفون” بسبب مواقفهم وآرائهم، كما هو الحال في قضية المتهم توفيق بوعشرين المتابع بالاتجار بالبشر والاغتصاب وهتك العرض، وقضية ناصر الزفزافي المتابع من أجل المس بأمن الدولة الداخلي والتحريض على العنف والتخريب والمساس بالأمن والنظام العامين. وإذا كان الفقه والقضاء والقانون يعتبرون جميعا بأن “الحكم القضائي هو عنوان الحقيقة وليس الحقيقة”، إيمانا منهم بأن الحقيقة المطلقة عند الله سبحانه وتعالى، فكيف لنا كبشر وكمتقاضين وقضاة أن نعتد، بشكل مطلق وقطعي، بتصريحات شخص يحاول التنصل من متابعة جنائية تعززها وتعضدها وسائل إثبات قوية؟ أو نضفي الحجية المطلقة على دفوعات وملتمسات المحامي الذي يرتبط مع المتهم ب”التزام ببذل عناية” من أجل تبرئته أو تلطيف وضعه القانوني أمام المحكمة. ولنأخذ على سبيل المثال قضية توفيق بوعشرين، حيث يتم نشر بعض الدفوعات والتصريحات على أنها موجبة للبراءة وإسقاط المتابعة، والحال أنها تبقى مجرد طلبات يتقدم بها الدفاع ويتعين على المحكمة إما البت فيها حالا أو إرجاء ذلك، بقرار معلل، إلى غاية البت في جوهر الدعوى. وبالتالي فهذه الدفوعات لا تكتسي الحجية المطلقة، ولا هي مسوغ للبراءة أو مبرر للإدانة في مواجهة أية جهة أخرى. ومن ضمن التصريحات التي أدلى بها أحد أعضاء هيئة دفاع توفيق بوعشرين أن الانتداب الصادر عن الفرقة الوطنية للشرطة القضائية والموجه لأحد متعهدي شبكة المواصلات، كان يحمل تواريخ محددة، بالرغم من أن هذه الفرقة لم تكن تعلم بأمر تلك الآجال الزمنية إلا بعد استقراء شرائط الفيديو التي حجزتها يوم اعتقاله! وفي تعليقه على هذا الموضوع، أوضح مصدر قضائي بأن هذا الدفع يحمل في طياته إقرارا صريحا بوجود أشرطة فيديو توثق للجرائم المرتكبة، رغم أن دفاع بوعشرين ظل لمدة طويلة ينفي وجود هذه الأشرطة، وذلك قبل أن يستطرد بأن تاريخ الانتداب مؤرخ في 19 فبراير 2018، أي مباشرة بعد توصل الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بشكاية إحدى الضحايا. ويردف ذات المصدر، بأن هذا الانتداب جاء تلبية لحاجيات البحث بعدما أوضحت الضحية بأن المشتكى به توفيق بوعشرين تواصل معها هاتفيا في عدة مناسبات، وأن هذه المكالمات تتضمن قرائن قوية على ارتكاب الجرائم التي صرحت بها، وقرينة أيضا على وجود مشتكيات أخريات كن ضحايا لجرائم جنسية، وهو ما اقتضى التماس أمر النيابة العامة المشرفة على البحث للتحقق من صحة هذه التصريحات عبر مراجعة متعهدي شبكة المواصلات. ومن اللافت أيضا، التصريحات المنسوبة للمحامي محمد زيان الذي ساوم فيها المحكمة وقايضها على حياديتها عبر معادلة غريبة وطوباوية، التي قال فيها “لتكون المحكمة محايدة يجب السماح لبوعشرين بكتابة افتتاحياته!” ولئن كانت الصفة هي مناط الدعوى، فبأي صفة ستمنح المحكمة لبوعشرين صلاحية كتابة افتتاحياته؟ هل هي وزارة للاتصال أم هيئة رقابية على الصحافة أم هي منبر إعلامي أم ماذا؟ وبأية صفة سيكتب بوعشرين تلك الافتتاحيات، هل بوصفه متهما في جرائم جنسية أم مدير نشر معتقل؟ أكثر من ذلك، فقد أخذت الحماسة الإعلامية النقيب محمد زيان إلى أبعد الحدود لدرجة صار يبحث في مرتكزات المحاكمة والمسطرة الجنائية المغربية، هل هي مسطرة تفتيشية أم مسطرة اتهامية، ناسيا أم متناسيا بأن النظام القضائي الوطني يوازن بين المسطرتين، ويحرص على التوفيق بين الحق في الحرية من جهة، وضمان حماية النظام العام من جهة ثانية. نفس الأمر ينطبق على النقيب بوعشرين الذي أنكر جملة وتفصيلا الفوارق الاصطلاحية والمفاهيمية المعتمدة للتمييز بين المشتبه فيه والمتهم والمدان والمحكوم عليه والنزيل والشخص الذي يغلب الظن على ارتكابه الجريمة، وصرح (أي النقيب) بأن توفيق بوعشريب يظل دائما مشتبه فيه! وما ذا عن صك المتابعة الطويل الموجه إليه؟ وبصرف النظر عن المزايدات الكلامية التي تحاول تحويل النقاش العمومي في هذه القضية الجنائية، لابد من التذكير بأن تصريحات المتهمين تبقى ملزمة فقط لمن صدرت عنه، وتبقى ملتمسات الدفاع موجهة لهيئة المحكمة، أما تحويلها إلى الساحة الإعلامية للتأثير على قناعة المحكمة وتشكيل رأي عام مناصر لأحد المتهمين، فهي مسألة غير مجدية لأن الأصل هو “أن تصريحات متهم على متهم لا يعتد بها…” فما بالك إذا كانت هذه التصريحات تروم التنصل من المسؤولية الجنائية بأية طريقة كانت.