الأكيد أن الاندفاع والحماس في الانسياق مع حملة المقاطعة الشعبية لمنتجات بعض الشركات الوطنية بعينها، ودون الوقوف على منطلقاتها والإلمام بأبعادها، يعتبر منحى خطيرا ونزوعا نحو الشعبوية التي تغتال العقل، وترفض المنطق. التزام الموضوعية يقتضي النظر إلى الحملة من مختلف الزوايا لرصد تداعياتها على المعيش اليومي للمواطنين وتحليل مخاطرها على الاقتصاد الوطني، الأمر الذي يقود إلى طرح السؤال التالي: ماذا سيربح أصحاب المقاطعة من هذه الحملة وماذا سيخسره المغرب والمغاربة بالمقابل؟ فإذا كان البعض ينظر إلى حملة المقاطعة باعتبارها عملا نضاليا مدروسا، والبعض الآخر يراها معركة سياسية لتصفية الحسابات، ونحن وإن كنا نصفق لسلميتها ونتفهم ردة فعل المواطنين ضد ارتفاع تكاليف المعيشة، فإننا نؤكد بأن استمرارها بهذا الشكل ستكون له تبعات على المدى المتوسط والبعيد. فتنامي حملة المقاطعة للمنتوجات الوطنية، سيؤدي حتما إلى اختلال منطق العرض والطلب في السوق الداخلي، وهو ما سيدفع الدولة نحو اللجوء إلى استيراد المنتوجات الأجنبية لتعويض الخصاص وتلبية حاجيات الاستهلاك. هذه العملية ستكلف الدولة تحملات مالية إضافية مرتبطة بالاستيراد، تهم تكاليف النقل والتأمين، وسيترتب عن ذلك ارتفاع أسعار المواد المستوردة، وبالتالي ارتفاع العجز في الميزان التجاري. وإذا أخذنا بعين الاعتبار نسبة العجز المسجلة حاليا في الميزان التجاري التي تقدر ب11 مليار دولار بما يمثل 10 في المائة من الناتج الداخلي الخام، فإن المغرب سيكون مضطرا أمام استمرار الحملة وتداعياتها الخطيرة إلى الاقتراض من الأبناك الدولية وتسول المساعدات من الدول الصديقة ليضمن الحد الأدنى لعيش المواطنين. وحتى لا نختلف مع دعاة وأنصار المقاطعة في كون هذه المبادرة تمثل شكلا سلميا حضاريا، وتنم عن وعي الشعب المغربي وتماسكه وتضامنه؛ فإننا بالمقابل نجزم بأن هذه الحملة ستضر من ناحية أخرى بالطبقة الشغيلة بتشريد أسر العديد من العمال والمستخدمين بسبب الخسارة التي ستتكبدها الشركات التي تمت مقاطعة منتجاتها. أما ما هو أخطر فيتعلق بنفاذ المخزون الوطني من العملة الصعبة بفعل ارتفاع وتيرة الاستيراد. هذه التداعيات ستؤثر بالفعل على قيمة الدرهم خصوصا بعد اعتماد نظام التعويم في نهاية سنة 2017، الذي كان الهدف منه الحد من الاستيراد وتشجيع استهلاك المنتوج الوطني لتحصين السيادة الوطنية والقرار الاقتصادي من تحكم وتدخلات القوى العالمية. قد يعتبر البعض أن استهلاك المنتوج الأجنبي أفضل من المنتوج الوطني بسبب الجودة، لكن مخاطر ذلك تمس بالسيادة على القرار الاقتصادي الوطني الذي سيكون تحت وصاية صندوق النقد الدولي إذا ارتفعت نسبة الاستيراد وأفرغت الخزينة من الاحتياطي الوطني للعملة الصعبة. وفي هذه الحالة لا قدر الله، فإننا كمغاربة سندفع الثمن غاليا اقتصاديا واجتماعيا، وسنقوض بأيدينا استقرار البلاد، خصوصا وأن الأزمة الاقتصادية سيكون لها انعكاس سلبي على الاستقرار والتماسك الاجتماعي نتيجة اندلاع الفتن والاضطرابات. والأكيد أن تداعيات الأزمة الاقتصادية التي ستنجم عن ارتفاع العجز التجاري، ونفاذ مخزون الاحتياطي الوطني من العملة الصعبة، سيجعل الدولة أمام خيارين أحلاهما مُرّ كي تتمكن من أداء أجور الموظفين، وتوفير ميزانية تسيير مرافق ومؤسسات الدولة. الخيار الأول: اللجوء إلى الاقتراض من الصناديق والأبناك الدولية. الخيار الثاني: اللجوء إلى طبع وطرح أوراق مالية جديدة من طرف بنك المغرب لتلبية الحاجة للسيولة المالية، وهذا الخيار سيرفع نسبة التضخم المالي. هذين الخيارين هما بمثابة انتحار اقتصادي لأن قيمة الدرهم ستهوي إلى الحضيض وستتضاعف أسعار المواد الغذائية والسلع. المنطق إذن، يقتضي وقفة تقييم لما نريده كمغاربة يهمنا أن نحافظ على سقف الوطن وقيم التعايش المشترك. فالحماس والاندفاع لا يجب أن يستمر بمنطق التحدي إلى ما لا نهاية، لأن ذلك يبدو سهلا ومرغوبا فيه في بداية هكذا معارك نضالية. أما الأصعب في مثل هذه المواقف فهو التحلي بالعقلانية والتروي لتجنب الوقوع في الأسوإ. لنتذكر جميعا انتفاضة 21 يونيو من سنة 1981 وما خلفته من ضحايا ومآسي نتيجة الارتفاع المهول في أسعار المواد الغذائية، التي نجمت عن توصيات صندوق النقد الدولي الذي فرض على المغرب اعتماد سياسة التقويم الهيكلي والمالي، لأن قراره السيادي اقتصاديا لم يكن بيده بسبب لجوئه إلى الاقتراض الخارجي بحيث وصلت نسبة العجز في تلك المرحلة إلى 12.5 في المئة. ونحن، وإذ نتمنى مِمَّنْ يلعب بالنار ويصفي حساباته السياسية التحلي بقليل من الحكمة، حتى لا يفقد المغرب سيادته مرة أخرى على قراره الاقتصادي إذا ما انزلقت حملة المقاطعة إلى أشكال أخرى ستقود البلاد إلى ما اعتبرناه كارثة اقتصادية واجتماعية؛ فإننا وفي الختام نعيد طرح السؤال ماذا سنربح وماذا سنخسر باستهداف شركات ومنتجات بعينها، علما أن ثمن لتر الحليب هو نفسه سواء كان مصدره شركة “سنطرال” أو شركات أو تعاونيات أخرى، والشيء نفسه ينطبق على المحروقات والمياه المعدنية. نعم كنا نتمنى أن لا ننظر لحملة المقاطعة باعتبارها حربا سياسية بين حزبي “العدالة والتنمية” و”التجمع الوطني للأحرار” حول من سيكسب رهان رئاسة الحكومة المقبلة في صراع تكسير العظام، ولا صراعا بين المستهلك والمنتج، ولكننا ننظر إليها من منظور الربح والخسارة. فقد اندلعت ثورة 25 يناير بمصر، وثورة الياسمين بتونس، وليبيا … والنتيجة أن هذه البلدان التي انتفضت واشتعلت فيها ثورات “الربيع العربي” تهاوت اقتصادياتها وتراجعت سنوات إلى الوراء، وتضررت ظروف المعيش اليومي لشعوبها بشكل كبير. ونحن إذ نحرص على مصلحة البلاد والعباد، فإننا ندعو إلى التحلي بالمنطق الذي يقتضي أن يوظف وعي المغاربة في بناء وتقوية الأحزاب السياسية والمركزيات النقابية ومنظمات المجتمع المدني، بما يضمن إعادة المصداقية لعمل المؤسسات: حكومة وبرلمانا وجماعات ترابية وغرفا مهنية، وأن يكون الحوار والبحث عن الصيغ الممكنة للتوافق، الاختيار الأمثل لمعالجة الاختلالات، لنبني مغرب الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، أما غير ذلك فهو الانتحار الجماعي لشعب بأكمله.