في خطوة انفرادية هزت معظم الأوساط السياسية والإعلامية الفرنسية والأجنبية، قرر الرئيس إيمانويل ماكرون وضع حد للمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، وهو أعلى هيئة تمثيلية للإسلام بفرنسا يترأسها المغربي محمد الموساوي، وتعويضها بما أسماه منتدى الإسلام في فرنسا (FORIF). وقد أعقب القرار على الفور جمعا عاما استثنائيا للمجلس أوضح فيه في بلاغ على شاكلة رد رافض ل"قرار الحل"، أن المجلس منكب على إجراء إصلاح هياكله الإدارية، وأن جميع المساجد بإمكانها المشاركة فيه على قدم المساواة. القرار يطرح أكثر من علامة استفهام حول النوايا الحقيقية من وراء اغتيال هذه الهيئة التي تحضن كل التيارات المكوّنة للجالية المسلمة، وتسعى إلى توحيدها ضمن مرجعية إسلامية مشتركة تتوخى التعدد والتعايش مع مختلف الألوان والأجناس والأديان. القرار الذي يصادف الذكرى العشرينية لتأسيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية ينذر بتصادم وشيك بين مكونات الجالية الإسلامية والسلطات الفرنسية. ولأنه مُشكّل من مجموع المجالس الجهوية للديانة الإسلامية المتواجدة بمختلف المناطق الفرنسية والمهتمة بإدارة شؤون أماكن العبادة، ومن المساجد الممثلة من خلال الجمعيات التي تديرها، فإن المجلس لا يمكنه أن يكون مغربيا لا في لونه ولا في تركيبته كما يحلو للدوائر المقربة من الرئيس ماكرون تصنيفه بغاية زرع الشقاق بين مسلمي فرنسا وتقزيم دور المكون المغربي كفاعل أساسي في إشعاع الإسلام المنفتح والمعتدل، وفي تقديم صورة موضوعية عن الإسلام لدائرة واسعة من الجمهور الفرنسي والغربي بشكل عام، وتعريفه بالإرث الحضاري للمسلمين وابتكاراتهم الفنية والعلمية، فضلا عن إبراز غنى تجربتهم التاريخية، وما تميزت به من روح الانفتاح والتسامح. القرار يأتي في ظل قراءة اختزالية وسطحية على نحو ما هو شائع في الدوائر السياسية والإعلامية الفرنسية وحتى الجزائرية، من أن المغرب من خلال منظمته "تجمع مسلمي فرنسا" يستحوذ في كل الاستحقاقات منذ إحداث المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، على ما يقارب ثلثي المجالس الجهوية التي لها وحدها صلاحية انتخاب المجلس، وبالتالي لا يمكن لأي من التنظيمات الإسلامية سواء الجزائرية أو التركية وغيرها منافسته على الرئاسة. مثل هذه القراءة المغلوطة فندتها الممارسة العملية التناوبية التي تمنح الرئاسة بالتناوب للمغرب وبعده الجزائر ثم تركيا وهلم جرّا.. وبما أنه لا يوجد اتحاد ديني بمقدوره انتزاع الرئاسة انتخابيا من المغرب، فإن العملية التناوبية ناجمة عن مبادرة مغربية صرفة إذا لم نقل تنازل مغربي بمحض إرادته يجعل الرئاسة تتوزع على دول أخرى وعلى دورات من سنتين لكل واحدة. القرار قد يكون أيضا ناجم عن مخلفات قضية الإمام المغربي حسن إيكويسن التي شهدت منذ اندلاعها في صيف 2022 موجة تسييس كبيرة وتضخيما إعلاميا جعل التأويل المزاجي وسوء الفهم يطغى على الكثير من جوانبها. القرار يأتي من جهة أخرى في ظل مناخ اجتماعي مشحون تميزه البطالة المتأصلة وكذلك تحسن بورصة اليمين المتطرف في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة مقابل تراجع شعبية اليمين الليبرالي والأحزاب الاشتراكية. والسؤال الذي يجب طرحه مرات ومرات هو : ما الذي أصاب بعض الدوائر النافذة في القرار الفرنسي لتكريس مظاهر التحقير للمسلمين وإنكار حقهم في إثبات ذواتهم من خلال مجلس إسلامي يبني وجودهم على أساس التميز الإسلامي..؟ ولماذا الخوف من هذا التميز ما دام هو منفتح ومتفهم للعلمانية التي تسكن الضمير السياسي الفرنسي منذ قرن ويزيد..؟ إن ما يخشاه المسلمون اليوم هو أن يتحول العداء للإسلام من منهج شعبوي انتخابي متطرف إلى منظومة فكرية قد تتلاقى حولها نخب فكرية وسياسية تجمع في صفوفها اليمينيين والليبراليين والعلمانيين وحتى الاشتراكيين. وما يصدم العرب في الواقع الديني الاغترابي ربطهم بالعنف والتعصب والإرهاب. أمثلة كثيرة تكرس هذا الواقع سواء في الشارع حيث نظرات الاحتراس والشكوك تطارد المحجبات العربيات، أو في المؤسسات حيث إقصاء هذا الاسم في الكثير من الحالات من قاموس التوظيفات، أو حتى في زيارتك لبعض المواقع الإلكترونية بحثا عن موضوعات مرتبطة بكلمة "عرب"، فلا تجد سوى الإرهاب والتخلف والتطرف. هكذا يتلخص وضع الإسلام اليوم في زمن فرنسا الماكرونية، ويأتي الإعلام الفرنسي العمومي بمختلف مواقعه وصحفه وقنواته ليجعل من العرب والمسلمين مادة خصبة ورصيدا يتغذى منه ليكرس هذا الواقع الناقم على الإسلام والمسلمين، في غياب شبه تام لإعلام إسلامي قوي في فرنسا يدافع عن تميز الإسلام واعتداله. إن اقتلاع مظاهر العنصرية وكراهية الإسلام، لن يتم بالتأكيد من خلال انتقاد الرئيس ماكرون المستمر لذبائح عيد الأضحى واللحم الحلال وارتداء الحجاب وغير ذلك من العادات والتقاليد الإسلامية الصرفة، بل من خلال تفهم هذه التقاليد واستيعاب دلالاتها لدى المسلمين دون تخوف من أي مد إسلامي أو أي ضرر قد يلحق بالعلمانية. وما يعاب على الجالية الإسلامية بفرنسا هي الأخرى أنه أمام الأوضاع الدينية الصعبة التي تعيشها، لم تتمكن للأسف من تشكيل مجموعة مؤثرة في صناعة القرار، وفي الدفاع عن حقوقها ضد الهجمات المختلفة التي تستهدفها. وهي مع تعدد مشاربها الفكرية وانتماءاتها السياسية وغنى تكوينها الاجتماعي، ما زالت منقسمة بين من يتبنى مرجعية دينية وآخر وطنية إلى ثالث يحاول حصر انتمائه بالحدود الجغرافية لبلده الأصل فقط.