تمخّضت عن خطاب الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون مؤخرا عن "الأزمة" التي يعيشها الإسلام ردود فعل كثيرة ومتباينة، بين من أيّد ومن عارض، ومن حاول إمساك عصا الاختلاف من المنتصف. ويحاول الدكتور المغربي المحجوب بنسعيد، خبير برامج الاتصال والحوار الثقافي، من خلال هذا المقال، تناول الأمر من جانبين، وهما: سياسة الدولة الفرنسية في تنظيم المهاجرين من جهة، وما يتعرض له الإسلام من حملات تشويه تتعارض وروح أخلاقيات السلطة الرابعة وقرارات الأممالمتحدة والقانون الدولي. وهذا نص المقال: مازال خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي ألقاه يوم 2 أكتوبر الجاري بضواحي باريس يثير نقاشا واسعا وردود فعل متباينة بين التأييد والرفض. ومن المؤيدين لهذا الخطاب رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية السيد محمد الموسوي، الذي أكد أنه "يتشارك تماما أهداف" الوثيقة، ومنها مكافحة "من يوظفون الديانة الإسلامية لغايات سياسية"، لكنه حذر كذلك من وقوع "أضرار جانبية" مستقبلية. ومن أبرز الرافضين لهذا الخطاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي قال إن ماكرون يحاول التغطية على الأزمة التي تعيشها فرنسا من خلال قوله إن الإسلام في أزمة، معتبرا حديثه عن إعادة تشكيل الإسلام قلة أدب ودليلا على عدم معرفته لحدوده، ومشيرا إلى أن الذين يتهربون من مواجهة العنصرية وكراهية الإسلام يرتكبون أكبر إساءة لمجتمعاتهم. أما الأزهر الشريف فاعتبر تصريحات ماكرون "عنصرية وتؤجج مشاعر ملياري مسلم". وسنركز في هذا المقال على موضوعين اثنين: الأول يتعلق بسياسة الإدارة الفرنسية في مجال تنظيم المواطنين والمهاجرين من أصول مسلمة، وسبل إدماجهم واحتوائهم، والثاني يوضح أن الإسلام لا يعيش أزمة، ولكن يتعرض لحملات تشويه وإساءة عبر وسائل الإعلام، في تناقض واضح مع أخلاقيات المهنة، وفي خرق سافر للقانون الدولي وقرارات الأممالمتحدة. لقد أعلن ماكرون في خطابه جملة من التدابير والإجراءات ستمكن فرنسا من "التصدي للنزعة الإسلامية الراديكالية" التي تسعى في نظره إلى "إقامة نظام مواز" و"إنكار الجمهورية"، وقال إن الإسلام "ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم"، بسبب تجاذب تيارات داخلها، وأعلن أنه سيتم تقديم مشروع قانون حول "النزعات الانفصالية" لمجلس الوزراء بداية ديسمبر المقبل، ومناقشته في البرلمان في النصف الأول من عام 2021، أي قبل الانتخابات الرئاسية عام 2022. إن قراءة هادئة ومتأنية لمضامين خطاب الرئيس الفرنسي تقتضي استحضار السياق العام المتعلق بالظروف التي تعرفها فرنسا والعالم الإسلامي والعلاقات الدولية، سواء في اللحظة الراهنة أو منذ بداية الألفية الثالثة. وفي هذا الإطار نشير إلى عدد من المعطيات التي تبدو لنا ذات تأثير مباشر أو غير مباشر على التوجهات والرؤى والمقترحات والقرارات المضمنة في تصريحات ماكرون. ومن هذه المعطيات الآنية نذكر ما يلي: - حادث اعتداء شاب باكستاني على صحافيين في الشارع العام في باريس، وما أثاره من نقاش وتنديد، خاصة أنه تزامن مع أطوار محاكمة مرتكبي الهجوم الانتحاري على مقر جريدة شارلي إيبدو عام 2015، إضافة إلى اتهام الرئيس الفرنسي ماكرون من طرف أحزاب اليمين واليمين المتطرف بالتراخي، واليسار الذي يندد بوصم المسلمين لأسباب انتخابية. - صدور تقرير لمجلس الشيوخ الفرنسي في شهر يوليوز الماضي يؤكد أن "التطرف الإسلامي حقيقة" في عدد متزايد من المناطق في فرنسا، وأن "مؤيدي الإسلام السياسي يسعون حاليا إلى السيطرة على الإسلام في فرنسا" من أجل "إنشاء الخلافة"، ويغذون في بعض المدن "نزعة انفصالية" خطيرة. - إعلان وزير الداخلية الفرنسي يوم 27 سبتمبر الماضي بمناسبة عيد الغفران اليهودي، حيث صرح بأن بلاده "في حرب ضد الإرهاب الإسلامي"، وكشف أنه تم إحباط "32 هجوما" في فرنسا على مدى السنوات الثلاث الماضي، موضحا أن ذلك "يساوي تقريبا هجوما كل شهر". -- احتدام الجدل في السنوات الأخيرة حول دور بعض الأئمة التابعين المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية في نشر الأفكار المتطرفة في فرنسا، ما دفع الدولة إلى مراجعة أساليب اعتماد الأئمة، الذين كان يتم جلبهم من دول أخرى بينها المغرب وتونس والجزار وتركيا. وقال الرئيس الفرنسي في تصريح إعلامي سابق: "لن أسمح لأي دولة مهما كانت بأن تغذي الشقاق... لا يمكن أن تجد القانون التركي مطبقا على تراب فرنسي. هذا لا يمكن أن يحدث". - شروع السلطات الفرنسية في إعادة ترتيب أوراقها في ما يتعلق بالهيئات الممثلة للمسلمين على ترابها، إذ قامت عام 2016 بتأسيس "مؤسسة إسلام فرنسا" من أجل تسيير موضوع تمويل دور العبادة وتسيير الإسلام في فرنسا بعد مشاورات مع مثقفين وسياسيين وفاعلين اجتماعيين فرنسيين، وهو ما يهدف إلى التصدي لكل محاولات نشر السلوكيات والأفكار المتشددة في البلاد. - تنظيم "المؤتمر الدولي للسلام والتضامن" عام 2018 بالتعاون بين مؤسسة إسلام فرنسا ورابطة العالم الإسلامي التي يوجد مقرها في مكةالمكرمة. وجاء تنظيم هذا المؤتمر في سياق التصدي لكل الأفكار المتشددة التي تبتعد عن الإسلام المعتدل وتدعو إلى التطرف في تطبيق تعاليم الدين. وتم بهذه المناسبة توقيع اتفاقية باريس للعائلة الإبراهيمية التي تدعو إلى توطيد العلاقات البينية، والرفع من مستوى التفاهم المتبادل بين اليهود والمسيحيين والمسلمين في فرنسا باستقلال تام عن أي توجهات أو أهداف تخرج عن إطار قيم الاتفاقية. كما تنص الاتفاقية على الالتزام التام بمبدأ الحريات والحقوق المشروعة والحرص على تعليم الشباب والإنصات لمشاكلهم والسعي إلى حلها، بالإضافة إلى مواجهة التحديات الأخلاقية التي يمر بها الإنسان في العصر الراهن وتعرقل محاولته للإسهام في خدمة مجتمعه وتنمية وطنه. وفي افتتاح هذا المؤتمر أعلن الشيخ محمد بن عبد الكريم العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، تأييد الرابطة لمضامين خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول ما يسمى الإسلام السياسي الذي يوظف الدين لمجرد تحقيق مطامع سياسية ساعياً للانفصال عن المجتمعات ومهدداً لاستقرارها. ومن أجل فهم عميق وشامل لما جاء في خطاب الرئيس الفرنسي، سواء من حيث دواعيه وأبعاده أو مراميه، من المهم استحضار المعطيات العامة التالية: تنظيم المواطنين والمهاجرين من أصول مسلمة من أجل إدماجهم واحتوائهم بناء على تقديرات شبه متفق عليها، يناهز عدد أفراد الأقليات والجاليات المسلمة في فرنسا ستة ملايين نسمة، وبالتالي فإن الإسلام يعد الديانة الثانية في فرنسا بعد المسيحية. لقد عمدت بعض الدوائر الفرنسية، كوزير الخارجية السابق شارك باسكوا، إلى اتخاذ عدد من الإجراءات لإحكام الحصار على المسلمين في فرنسا، مثل إصدار قانون ينص على أخذ بصمات الأجانب المقيمين في فرنسا بصورة غير شرعية، وتمديد فترة الاعتقال تمهيدا لطردهم خارج فرنسا. وقد أحدثت هذه القرارات ردة فعل قوية لدى الفيدرالية العامة لمسلمي فرنسا، ودفعتها إلى المطالبة بإلغاء هذه القرارات، وإقرار الحقوق المشروعة للأقليات والجاليات المسلمة في فرنسا، حيث تمكنت من إقرار اتفاقية 28 يناير 2000 التي اعترفت الحكومة الفرنسية بموجبها بالإسلام دينا رسميا ضمن الأديان المعترف بها في فرنسا مثل المسيحية واليهودية. وتنص بنود هذه الاتفاقية على حق المسلمين في حرية التدين وممارسة شعائرهم بحرية وبأمان تام، وحرية ارتداء الزي الإسلامي، وأكل اللحم الحلال، وبناء المساجد والمقابر لموتى المسلمين، والحق في بناء مدارس إسلامية على الأراضي الفرنسية؛ كما نصت على حق المسلمين في الاحتفال بالأعياد والمناسبات الخاصة بهم، كعيدي الفطر والأضحى، والاحتفال بذكرى ميلاد الرسول، في مقابل التزام هذه الأقليات والجاليات المسلمة باحترام الدستور الفرنسي. لقد شرعت السلطات الفرنسية في عمليات تنظيم الوجود الإسلامي عام 1989 بمبادرة من بيير جوكس، وزير الداخلية في الحكومة الاشتراكية آنذاك، الذي سعى إلى تأسيس "مجلس التفكير حول الإسلام في فرنسا". وفي عام 1993 سعى وزير الداخلية اليميني شارل باسكوا إلى تأسيس المجلس التمثيلي لمسلمي فرنسا، برئاسة دليل أبو بكر الجزائري، عميد مسجد باريس آنذاك. بعد ذلك حاول وزير الداخلية جان بيار شوفمان في حكومة ليونيل جوسبان خلال الفترة ما بين 1997 و2000 نهج أسلوب جديد في إنشاء مجلس يمثل مسلمي فرنسا وينظم شؤونهم. وأخذا بعين الاعتبار الهفوات التي أفشلت مساعي سابقيه من وزارة الداخلية، عمد إلى إجراء مشاورات تقضي إلى إطلاق مبادرة جديدة من قادة الجالية المسلمة في فرنسا وحدهم بمساعدة من السلطات الفرنسية. وتبعا لذلك تم الاتفاق على إنشاء "المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية" الذي انتهت تفاصيل تشكيله نهاية عام 2002، وأجريت الانتخابات التأسيسية للمجلس في أبريل 2003 بإشراف وزير الداخلية آنذاك نيكولا ساركوزي. ويندرج تأسيس هذا المجلس في أطار اهتمام الحكومات الفرنسية المتعاقبة بتنظيم الأقليات والجاليات المسلمة في فرنسا وإخضاعهم لجهة واحدة في إطار إستراتيجية بعيدة المدى تتوخى فك الارتباط تدريجيا بين الجاليات والأقليات المسلمة ومواطنهم الأصلية. وعقب أحداث 11 من سبتمبر 2001 وما حملته من تأثيرات ومخاوف، أولت الحكومة الفرنسية عناية فائقة لموضوع تأطير المسلمين في فرنسا في مجلس تمثيلي واحد وإقناع زعماء المنظمات الإسلامية بالانضمام إلى المجلس الجديد. إن الخوف من وقوع الأجيال الشابة من المهاجرين تحت تأثير الأصوليين المتطرفين، وانتشار شعورهم بالعزلة، جعلا السياسيين الفرنسيين يسعون إلى تنظيم وجود إسلامي "رسمي". لقد طرحت قضية الجالية الإسلامية في فرنسا إشكالية بالغة التعقيد على الطبقة السياسية في البلاد، تطلبت ضرورة التعامل معها بحذر، خاصة أن لها أبعادا سياسية واجتماعية متشابكة في جمهورية تؤمن بالعلمانية. والواقع أن اهتمام وزارة الداخلية الفرنسية بتنظيم "الإسلام" في فرنسا يعود إلى أن المسلمين الفرنسيين أصبحوا رقما حقيقيا ووازنا في المعادلة السياسية الفرنسية، إذ أشارت توقعات ودراسات إلى أنهم سيتضاعفون ثلاث مرات خلال العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين. ولذلك ومع دنو موعد الاستحقاقات الانتخابية في فرنسا والانتخابات الرئاسية على وجه التحديد، يلجأ المرشحون في هذه الانتخابات إلى خطب ود هؤلاء المسلمين، بل ويبعثون موفدين رسميين إلى دول المغرب العربي مثلا لتوجيه رعاياها في فرنسا لدعم هذا الحزب أو ذاك. غير أن المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية لم يستطع منذ تأسيسه سنة 2003 التغلب على الصعوبات التي واجهته، سواء على المستوى الداخلي التنظيمي، بسبب التنافس على النفوذ بين أعضائه، والمعالجة الفعالة لتداعيات الأحداث الإرهابية، والإجراءات الحكومية الانتقائية ذات الصلة بالمهاجرين المسلمين، والحقوق الدينية والثقافية للمسلمين المقيمين بصفة شرعية، وتنامي الممارسات العنصرية وتداعيات ظاهرة الإسلاموفوبيا في فرنسا، وانخراط الإعلام الفرنسي في الإساءة إلى الرموز الدينية الإسلامية من خلال إعادة نشر رسوم الكاريكاتير للرسول محمد عليه السلام. وإجمالا فإن تنظيم الأقليات والجاليات المسلمة في فرنسا حظي بنقاش واسع وجدال متشعب تضاربت بشأنه الآراء حول دواعي وأهداف هذا التنظيم، وصلاحية الحديث عن إسلام فرنسي. وفي هذا السياق، رأى البعض أن الهاجس الأمني هو الذي دفع بالسلطات الفرنسية إلى الاهتمام بتنظيم "الإسلام" والإشراف على المحاولات والمبادرات التي اتخذت في هذا الشأن منذ عام 1989 من طرف الحكومات الفرنسية، سواء اليمينية أو الاشتراكية، أو غيرهما مع الولاية الحالية للرئيس أيمانويل ماكرون . من "الإسلام الفرنسي " إلى "إسلام الأنوار" هناك أسئلة عديدة طرحت بخصوص عملية تنظيم الوجود الإسلامي في فرنسا كان من أهمها: هل المقصود من هذه العملية قطع الطريق على الإسلام السياسي؟ هل للموضوع علاقة بمخاض ولادة ما يسمى "الإسلام الفرنسي" أو "الإسلام الفرانكفوني"؟ وهل الأمر يتعلق بإعادة تشكيل لعلاقة الدولة الفرنسية بالإسلام نحو دمج حقيقي للمسلمين باعتبارهم مكونا ثقافيا جديدا في فرنسا إلى جانب ثقافتها العلمانية وتراثها المسيحي اليهودي؟ هل تزامن تنظيم "الإسلام" في فرنسا مع فترة انتقالية تعترف بالإسلام الفرنسي وتنزع عنه لباس الدين الأجنبي الذي حل منذ الخمسينيات من القرن العشرين مع موجات الهجرة الأولى للعمال من دول المغرب العربي وشمال إفريقيا؟ أم إن الأمر يتعلق بعملية تغريب للإسلام من خلال إنشاء "كنسية إسلامية" يقصد بها نزع الخصوصيات الاجتماعية والثقافية والسياسية عن الإسلام بالشكل الذي ينسجم مع الرؤية الفرنسية للديانة باعتبارها شأنا فرديا في إطار الرؤية الوضعية للكون. إن أول من أطلق مصطلح "الإسلام الفرنسي" هو نيكولا ساركوزي، وزير الداخلية الفرنسي السابق، خلال حضوره افتتاح المؤتمر العشرين لاتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا المنعقد بتاريخ 19 أبريل 2003. وقد كان هذا الحضور تاريخيا باعتباره جسد حضور أول وزير داخلية في فرنسا لتجمع كبير لمسلمي فرنسا، حيث وردت في خطابه بهذه المناسبة قولته الشهيرة "لا نريد الإسلام في فرنسا ولكن نريده إسلاما فرنسيا"، كما أنه أثار ردود فعل الطبقة السياسية الفرنسية، كان من بين أعنفها موقف زعيم الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة جون ماري لوبان، الذي اعتبر ذلك الحضور "زيارة إلى عش الدبابير". منذ ذلك الحين بدأت مظاهر الإسلام الفرنسي" تبرز بأكثر حدة عن طريق بروز وسائل إعلام خاصة بمسلمي فرنسا. وبعد مرور سنة على خطاب وزير الداخلية نيكولا ساكوزي سوف تتضح معاني مقولة "الإسلام الفرنسي" بدقة ووضوح أكثر، حيث تحركت الحكومة الفرنسية على ثلاثة مستويات: المستوى الأول: ويتمثل في إقرار قانون منع الحجاب في المدارس والمعاهد الحكومية عن طريق التصويت يوم 10 فبراير 2003 على ما يعرف بقانون "حماية العلمانية"، الذي كان أهم نتيجة لتقرير لجنة (برنار ستازي) المعينة آنذاك من طرف الرئيس الفرنسي جاك شيراك للبحث في مدى تطبيق العلمانية. المستوى الثاني: ويتمثل في فتح ملف "أئمة المساجد" وضرورة إيجاد مؤسسة فرنسية مهمتها تكوين الأئمة بدعوى عدم صلاحية أئمة المساجد الذين لا يحسنون الحديث بالفرنسية ولا يحترمون مبادئ الجمهورية الفرنسية. المستوى الثالث: ويتعلق بالمساعي الحثيثة التي بذلتها الحكومة الفرنسية من أجل دعم التيار الليبرالي في الطائفة الإسلامية بفرنسا وجعله الناطق الرسمي باسم الإسلام الفرنسي، إذ تعهد رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية حينئذ السيد دليل أبو بكر بتأدية هذا الدور. ويجمع كثير من المراقبين والمهتمين بالشأن الإسلامي في فرنسا على أن معالجة الحكومة الفرنسية لقضية الوجود الإسلامي في البلاد ترتبط بمعطيات واقعية ومحكومة أساسا بإرادة تأطير الدين الإسلامي في الديار الفرنسية، باعتباره أضحى يحتل المرتبة الثانية من حيث الأتباع بعد الكاثوليكية، متجاوزا بذلك البروتستانية واليهودية. لذلك كان لا بد للسلطات الفرنسية أن تنظر في كيفية دمج الإسلام في الجمهورية انطلاقا من توجهين أساسيين هما: التأكيد على أن أي "إسلام فرنسي" يجب ألا يتعارض مع قيم الجمهورية، بما يعنيه ذلك من احترام قيم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة وقضية حرية الاختيار؛ ونفض كل تعبير عن "الإسلام العربي" عن "الإسلام الفرنسي"، فلا مكان في الإسلام الفرنسي للحديث عن تطبيق الشريعة بما يعنيه ذلك من بحث في مدى إمكانية تطبيق الحدود. وحسب عدد كبير من المثقفين الفرنسيين والمختصين في "الإسلام الفرنسي فإن مقولة "الإسلام الفرنسي" ليست إلا محاولة "فرنسة" الإسلام وعلمنته بالشكل الذي ينزع عنه بعده الجماعي وإدراجه ضمن الفهم الغربي للديانة باعتبارها شأنا فرديا. والواقع أن جزءا من تخوفات السلطات الفرنسية إزاء تأثيرات "الإسلام السياسي" على الجاليات والأقليات المسلمة في فرنسا نابع أساسا من تأثير الحركات الإسلامية في أفراد هذه الجاليات، وفي مقدمتهم تنظيم الإخوان المسلمين. وإذا كان نموذج "الإسلام الفرنسي" الذي تريد الحكومة الفرنسية إدماجه هو ذلك الإسلام الذي ينأى عن تأثيرات الإسلام خارج دولة فرنسا، فإن الوقائع تؤكد أن الحكومة الفرنسية تريد "إسلاما فرنسيا" مستقلا ومخالفا للإسلام السياسي، وبالتالي فهو "إسلام لا يحمل مشروعا سياسيا ولا اجتماعيا"، لأنه من المفترض أن الجمهورية ومبادئها هي المشروع الذي يحتوي كل المشاريع الأخرى وكل الثقافات والديانات. السؤال المطروح اليوم: هل "إسلام الأنوار" الذي يسعى الرئيس ماكرون إلى تحقيقه في فرنسا هو البديل الملائم لمفهوم "الإسلام الفرنسي"، أم هو امتداد وتطوير له في ضوء المستجدات الطارئة المتمثلة في الاستفحال المخيف لظاهرة الانعزالية وتغلغل الفكر المتطرف والأصولية المتشددة في المجتمع الفرنسي خلال السنوات الأخيرة؟. الإساءة للإسلام والمسلمين في وسائل الإعلام الفرنسية مع مطلع الألفية الثالثة، أصبحت الإساءة إلى الإسلام والمسلمين تتم في صور جديدة تخرق قواعد القانون الدولي المنظمة لحقوق الإنسان وللإعلام، فتطورت بفعل ذلك أساليب الخرق وآلياته، بحيث انتقلت الإساءة من بطون الكتب، والموسوعات، ودوائر المعارف، والدراسات الاستشراقية، إلى الأفلام والبرامج الإذاعية والتلفزية والشبكة العنكبوتية. وبواسطة هذه الوسائل تزايدت الخروقات القانونية في الإعلام الفرنسي، وعملت على تشويه صورة الإسلام والمسلمين في أوساط النخب الفرنسية، بل وعلى الصعيد العالمي، بما في ذلك الأوساط الأكاديمية والثقافية. وقد شكل هذا النشر وهذه الإساءة خرقاً متعمداً لقواعد القانون الدولي، وضرباً في الصميم لمضامين وثائق الشرعية الدولية لحقوق الإنسان المؤكدة على حرية الإعلام، وحرية التعبير، والمقيدة لها حينما يتعلق الأمر بالإساءة إلى الأديان، تحت بند منع وتحريم الدعوة إلى الكراهية والعنصرية والتمييز الديني، والدعوة إلى التسامح. ولقد عملت بعض وسائل الإعلام الفرنسية على إذكاء ظاهرة الإسلاموفوبيا في علاقتها بالإساءة للدين الإسلامي ورموزه ومقدساته بما نشرته ومازالت تنشره من صور نمطية حول المسلمين والعرب، وحول الإسلام الذي تنعته بدين الإرهاب. لذلك بدأت الدعوات تتصاعد من داخل الأممالمتحدة، في الجمعية العامة وفي مجلس حقوق الإنسان، من أجل وضع قانون دولي ملزم لردع ولمنع انتشار هذه الظاهرة، ينسجم مع مقتضيات احترام الأديان. وقد تحقق ذلك حين صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 11 أبريل 2011 على القرار رقم 65/224 الداعي إلى "مناهضة تشويه الأديان"، إذ أعربت الجمعية العامة للأمم المتحدة عن استيائها من استخدام وسائل الإعلام المطبوعة والسمعية البصرية والإلكترونية في التحريض على أعمال العنف وكراهية الأجانب، وما يتصل بذلك من تعصب، وتمييز ضد أي دين، ومن استهداف الكتب المقدسة، وأماكن العبادات، والرموز الدينية لجميع الأديان وانتهاك حرماتها. تبعا لذلك شرعت بعض الدول الأعضاء في الأممالمتحدة في اتخاذ بعض الخطوات لحماية الحرية الدينية، واحترام الأديان، بلجوئها إلى سن قوانين لمنع الإساءة إلى الأديان، ومنع عرض الصور النمطية السلبية عن أتباع الأديان. لكن رغم ذلك فإن الصور النمطية المسيئة للإسلام ورموزه مازالت تنتشر بقوة في بعض الدول الغربية، وفي مقدمتها فرنسا، تحت مبرر حرية الرأي والتعبير، وحرية الإعلام، كما مازالت هذه الدول تتردد في إصدار تشريعات وطنية، انسجاما مع ما التزمت به من قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان، من أجل معاقبة من ينتهك حرمة الأديان حتى ولو تذرع بحرية الرأي والتعبير التي تتناقض جملة وتفصيلا مع الكراهية والتمييز الدينيين. نستخلص مما سبق عرضه أن الإسلام لا يعيش أزمة بل يعاني من إساءة ثلاثية الأبعاد هي: إساءة من الجماعات الإرهابية التي تدعي الانتماء إليه والدفاع عنه من خلال تأويله تأويلا خاطئا لخدمة أجندات ثقافية وسياسية. إساءة من الأحزاب اليمينية المتطرفة في الدول الغربية التي ظلت تخيف الرأي العام الدولي من الإسلام والمسلمين وتنشر خطاب الكراهية والتمييز العنصري لخدمة أهداف انتخابية واقتصادية وسياسية. إساءة ممن سعوا إلى ترويج مضامين إعلامية مسيئة للإسلام ورموزه المقدسة من الإعلاميين بدعوى حرية التعبير والرأي، دون مراعاة لأخلاقيات المهنة واحترام مبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي للإعلام. لذلك نعتبر أن القول إن الإسلام يعيش أزمة في كل بلدان العالم يتضمن كثيرا من المغالطة والتعميم والمبالغة وسوء الفهم. ليست هناك أزمة في الإسلام بالمعنى الإيماني، والدليل على ذلك الارتفاع المتواصل لعدد المسلمين القدامى والجدد. قد تكون هناك أزمة في تأويل مصادر التشريع الإسلامي أفضت إلى ظهور الطائفية والتطرف والغلو الديني، والتغلب عليها ممكن من خلال تعزيز الإسلام الوسطي المعتدل، ومحاربة التطرف الفكري والتعصب العقدي، وتربية النشء على قيم الحوار والتسامح والعيش المشترك.