لقاء عابر مع المقاهي المغربية بباريس تكفي للإحساس بأن بعض الضواحي والأحياء الباريسية لا تنتسب إلى الجغرافيا الفرنسية.. فالجمهور المتدفق عليها ينطق بتنوع لساني مغاربي مذهل، حيث كل اللهجات حاضرة (سوسية، ريفية، تطوانية وحتى قبايلية..)، تعكس جميعها قيمة هذه الفضاءات في تقوية المد التبادلي بين المغاربة او في امتصاص الشعوربالغربة. بعض هذه المقاهي فضاء منغلق للتبزنيس وبيع المخدرات، وبعضها مكان آمن لألعاب القمار، فيما تتميز أخرى بألعابها الورقية والترفيهية (الروندا، التوتي، البلوط...) دون إهمال المقاهي الثقافية والفنية المتواجدة على قلتها في أحياء مونبارناس والحي اللاتيني. وميزة هذه المقاهي أنها مغربية في لسانها وتراكيبها، أمازيغية في عمق انتمائها الجغرافي المغربي بحكم انتساب معظم روادها إلى مناطق الريف وجنوب المغرب. وكل من صعب عليه العثور على صديقه المغربي، فما عليه إلا التوجه لأحد هذه المقاهي للقبض عليه. أما عشاق النرجيلة وخاصة تلك المنسومة بالصناعة العطرية المغربية والتي يفضلها معظم المستهلكين المغاربة، فما عليهم إلا التوجه لمقهى"بلاسيو" لمالكها القهوجي التطواني النشأة، ابراهيم الودغيري الذي يشهد مقهاه رواجا استثنائيا في كل فصول السنة. ولأن التدخين ممنوع بالمقاهي الفرنسية، فقد عمد الودغيري إلى إقامة خيمة في الجهات الخلفية من المكان بترخيص من السلطات البلدية التي تفيد أرقامها بوجود 130 مقهى "شيشة" في فرنسا. وقبالة المركب التجاري بحي مونبارناس بباريس، اعتادت فئات من صغار المثقفين والفنانين المغاربة والمغاربيين على أن تضرب موعدا بمقهى "رويال " للاستمتاع بالأمسيات الأدبية والشعرية حيث المكان يعتبر فضاء للتحاور والتبادل بين كل هذه الفئات المتلاقية في انتماءاتها المغاربية وفي بعض تطلعاتها الثقافية والتي تعطي للمقهى بُعدا تأمليا وتبادليا لا صلة له بالمقاهي الأخرى.. المقهى لم يصمم للتفرج على المارة أو على المحلات التجارية المختلفة. فقد شُيد بشكل يوحي بأنه ملجأ تبادلي وتحواري بامتياز، يغمره دفء الرواد الذين يستمتعون داخله بنشوة التجادل في الأمور الثقافية والفنية وحتى السياسية، ويحاولون مع انتفاخ الحديث واحتدام النقاش، بلورة أفكار صغيرة لثقافة يتخذ فيه الزخم الفكري والتعددي أبعادا كثيرة.. والمكان هو أيضا منبع للتحصيل والمعرفة حيث تتدفق عليك سيول من المعلومات والأخبار عن آخر الإصدارات الأدبية الشعرية والنثرية، والملتقيات الفكرية، ويتحول المكان ببساطة متناهية إلى ملجأ لإثراءمخزونك الفكري بما قوي صدق المقولة العربية "العلم يُؤخذ من أفواه الرجال". ومن مميزات مقاهي باريس الثقافية التي تقام على شكل جمعيات تطوعية مفتوحة للعطاء الثقافي الشفوي، أنها شاعت بشيوع المدارس الفكرية والفلسفية لروادها. فتجد مقهى "أتيس" بالحي اللاتيني قبلة جاذبة للسورياليين، الكتاب منهم والرسامون. وغير بعيد عنه مقهى "لاريجانس" وهو مكان للوجوديين وكان يرتاد عليه الفيسلسوف جان بول سارتر، ومقهى "بليزانس" فضاء للواقعيين الجدد (نيورياليست)، وغير ذلك من الفضاءات المنسوبة للمذاهب الفكرية والفنية لروادها. ومن فضائل هذه الفضاءات أنها تشكل بالنسبة لأفراد الجالية المغربية أماكن لامتصاص الغربة والتغلب على حالات الإحباط التي تفرزها مشاعر الحنين إلى البلد والوحشة الفطرية إلى الأهل.. وقيمتها لا تنحصر فقط فيما توفره من جودة في المشروب وفي الخدمات (شاي،قهوة، مشروبات مختلفة..)، بل في ما تنتجه من تمازج ثقافي يسهم في إغناء المحصول المعرفي بما يقوي جسور التواصل بين مغاربة الغُربة، وبما يفرزه أيضا من طباع فردية وجماعية تختلف باختلاف هموم ومشاغل رواده. والمقاهي على اختلاف انتماءات روادها ساهمت منذ عقود في تشكيل جزء كبير من الوعي الفكري المجتمعي، يصغر ويكبر بحجم الروابط بين الفرد والمكان، ونسجت مع تلاحق السنين فئات مختلفة من الناس من مختلف الأجناس. لكل فئة منها حيزها الخاص، تمزح فيه.. تتحاور.. تتجادل.. وتجعل الفراغ مليئا بالتبادل الخصب أحينا وبالراحة والتسلية أحايين أخرى. فمن مقاهي الطلبة والمثقفين وأيضا هواة الخيول الخاسرة والسماسرة النصابين، والساسة المتسولين لأصوات قد لا تأتي، إلى مقاهي بيع المخدرات والتبزنيس، ومقاهي الدعارة الطلابية وشغالات الجنس بشكل عام، ومقاهي الشواذ، ومقاهي الرياضيين والجمعويين.. تكبر هذه الفضاءات وتصغر، تفرغ وتمتلئ، تصبح مؤسسات معرفية أو ترفيهية، وتبقى وظيفتها الرئيسة في آخر المطاف، رصد التطلعات الاجتماعية بنشازها وزخمها وتناقضاتها المختلفة. ولأنها أيضا فضاءات للتسلية والترفيه، فقد شكلت لدى أفراد الجالية المغربية ملجأ للمطربين والمطربات الذين يقيمون بها على مدار السنة سهرات عشائية فنية، حتى أصبح يصعب على روادها أن يجدوا مكانا خاليا في نهاية الأسبوع.