زيارة قصيرة للمقاهي الرمضانية بباريس بعد الساعة التاسعة ليلا، تكفي للإحساس بأن بعض الضواحي والأحياء الباريسية لا تنتسب إلى الجغرافيا الفرنسية.. فالجمهور المحيط بالطاولات ينطق بتنوع أنتروبولوجي مغاربي مذهل، حيث كل اللهجات حاضرة (ريفية، قبايلية، سوسية، صعيدية..)، وما على الباحث السوسيولوجي إلا قضاء سهرات مع أبناء الهجرة ليتبين قيمة هذه الأمكنة في المد التبادلي بين الأفراد، وفي التفريغ عن النفس وامتصاص الشعور بالاغتراب في هذا الشهر المبارك. بعض هذه المقاهي مرتع للتبزنيس وبيع المخدرات، وبعضها مكان آمن لألعاب القمار، فيما تتميز أخرى بما توفره في شهر الصيام من ألعاب ورقية ترفيهية (الروندا، التوتي، البلوط...) إلى جانب لعبة الدومينو وهي الأكثر شيوعا في رمضان..والخصوصية الثقافية لهذه المقاهي المتناثرة في أحياء باربيص وسان دوني ولاكورناف وغرينيي وغيرها من الأحياء المغاربية المهمشة، أنها أمازيغية في لسانها وتراكيبها وفي عمق مجالها الحيوي بحكم انتماء معظم روادها إلى منطقة القبايل الجزائرية وبعض مناطق الريف وجنوب المغرب. وكل من أراد أن ''يقبض'' على صديقه أو عدوه المغربي أو القبايلي، فما عليه إلا التوجه لأحد هذه المقاهي. أما عشاق النرجيلة وخاصة تلك المنسومة بالعبير التونسي والتي يفضلها معظم المستهلكين على النرجيلة المصرية، فما عليهم إلا التوجه لمقاهي"الشيشة" البالغ عددها أزيد من 60 في باريس وضواحيها، حسب القهوجي التطواني النشأة، محمد الجندري، الذي يشهد مقهاه "بلاسيو" إقبالا كبيرا في شهر رمضان من كل سنة.. ولأن التدخين بمختلف أشكاله ممنوع بالمقاهي الفرنسية، فقد عمد أصحاب هذه المقاهي إلى إقامة خيم في الجهات الخلفية من المكان بترخيص من السلطات البلدية التي تفيد أرقامها بوجود 130 مقهى "شيشة" في فرنسا. وبالحي اللاتيني بباريس، اعتادت شرائح من صغار المثقفين والفنانين المغاربيين على أن تضرب موعدا بمقهى "رويال بيس" للاستمتاع بالأمسيات الرمضانية الدافئة حيث المكان يعتبر متنفسا تأمليا وحواريا بين كل هذه الشرائح المتلاقية في انتماءاتها وفي بعض تطلعاتها المعرفية والتي تعطي للفضاء بعدا تبادليا مختلفا عن المقاهي الأخرى.. المكان وأنت بداخله لا يتيح لك الترويح عن النفس من خلال التفرج على المارة أو على المحلات الأخرى. فقد صمم بشكل يوحي بأنه ملجأ حواري وتبادلي بالدرجة الأولى، يمتلئ بدفء الرواد الذين ينشئون فيه طقوسا للتجادل في القضايا الثقافية والفنية وحتى السياسية أحيانا، ويحاولون مع انتفاخ الحديث وانتشاره بلورة رؤى صغيرة لثقافة يكبر فيها الزخم الفكري التعددي للأشياء..والمكان هو أيضا قبلة للمعرفة والتحصيل حيث تتدفق على مسامعك سيول من الأخبار عن آخر الإصدارات الثقافية والملتقيات الفكرية، ويتحول المقهى ببساطة إلى فضاء لإغناء مخزونك الفكري بما يعزز المقولة العربية "العلم يؤخذ من أفواه الرجال". ومن خصائص مقهى "رويال بيس" ، ومالكُه رسام سريالي تونسي، أنها تستبدل طقوسها وأوقات عملها في شهر رمضان، إذ تتحول من مكان يشتغل طوال النهار حتى الساعة الثامنة ليلا إلى ملتقى حميمي مفتوح من التاسعة ليلا إلى الثالثة صباحا في وجه فئة من المثقفين والفنانين المغتربين الذين يتجادلون فيها آخر النتاجات الأدبية والفكرية. ومن حسنات هذه المقهى وغيرها من المقاهي "الرمضانية" المنتشرة في مختلف أرجاء باريس، أنها تشكل فضاء لاغتيال الغربة وتكسير حالات الإحباط والاكتئاب التي تفرزها مشاعر الحنين إلى الوطن والوحشة الغريزية إلى الأهل.. وقيمتها لا تتجلى فقط فيما تقدمه من شاي وقهوة وخدمات مختلفة أخرى، بل في ما تنتجه من ثراء معرفي غزير يساعد على مد وتقوية جسور التواصل بين أفراد الجالية العربية والمسلمة، وأيضا في ما تفرزه من سلوكيات فردية وجماعية تختلف باختلاف المكان واختلاف هموم وتطلعات رواده. والمقاهي بشكل عام، شكلت منذ عقود جزءا من الوعي الثقافي المجتمعي، يكبر ويصغر بحجم العلاقة بين الفرد والمكان، ونسجت مع تعاقب السنين شرائح مختلفة من الرواد لكل واحدة منها حيزها الخاص، تتجادل فيه..تمزح..وتجعل الفراغ وقتا مليئا بالدفء والراحة. فمن مقاهي المثقفين والطلبة، وأيضا السماسرة وهواة الخيول الخاسرة، ورجال الأعمال المتحايلين، والساسة المتسولين لأصوات قد لا تأتي، إلى مقاهي البطالة والتبزنيس، ومقاهي شغالات الجنس، ومقاهي الشواذ، والمقاهي الرياضية والجمعوية.. تكبر هذه الأماكن وتصغر، تمتلئ وتفرغ، تصير مراكز ثقافية أو مجمعات ترفيهية، وتبقى وظيفتها الأساسية في نهاية المطاف، تقديم الحياة الاجتماعية بزخمها ونشازها وتناقضاتها المختلفة. ولأنها أيضا أمكنة للراحة والترفيه، فقد شكلت في العديد من الأحياء والضواحي الباريسية ملجأ للمطربين والمطربات الذين يقيمون بها في شهر رمضان وغيره من الشهور، أمسيات فنية إلى وقت متأخر من الليل، حتى أصبح لكل واحدة من هذه المقاهي مطربها أو مطربتها المفضلة وفرقتها الموسيقية وجمهورها الخاص لدرجة يصعب معها على رواد السهر أن يجدوا مكانا خاليا في نهاية الأسبوع.