كانت النداءات المتكررة لعدد من أبناء المناطق المحاصرة بالثلوج، بالجماعات القروية الواقعة في نواحي أزيلال، للالتفات إلى معاناة أفراد عائلاتهم من العزلة وسط الجبال وكميات الثلوج، في ظل افتقارهم إلى بنية تحتية مثل القناطر والمسالك أبناء المنطقة تحاصرهم مياه الأودية التي عزلتهم وسط الجبال فضلا عن انقطاع الطرقات، سواء منها المعبدة أو غير المعبدة، (فكان) هذه الصرخة، وهذا النداء العميق كافيين لتحريكنا لزيارة بعض من هؤلاء المواطنين المحاصرين، لنفهم عن قرب معنى الحصار ولنتذوق رفقتهم طعم العزلة، ولنقاسمهم هذا الشعور. في زاوية أحنصال، التي تبعد عن إقليم أزيلال ب 125 كيلومترا، توجد القبائل والدواوير القروية الأكثر فقرا، والأكثر تعرضا للحصار بسبب الثلوج في كل موسم شتاء، مثل قبائل آيت عبدي، وقبائل آيت عطا، وزاوية أحنصال، لانعدام طرقات وقناطر تكفل لهم حق التنقل لقضاء أمورهم الضرورية، التي يتوقف عليها بقاؤهم على قيد الحياة، مثل السوق والتطبيب. وتزامنت زيارتنا إلى هذه المناطق، التي تنتمي الى المغرب العميق مع أحوال جوية سيئة عرفتها مجموع مناطق المملكة، الأسبوع الماضي، ما بين (14 و23 فبراير الجاري)، إذ بلغت التساقطات المطرية في عدد من المناطق ما يفوق 100 ميلمترا في الساعة، وشلت الثلوج الطرقات، تطلب منا مخطط الزيارة النزول بمدينة بني ملال، ومنها الانتقال عبر سيارة أجرة كبيرة نحو مدينة أزيلال، ومنها إلى زاوية أحنصال عبر سيارة رباعية الدفع، مرورا بجماعة "واويزرت" و"تولكيت"، حيث لا حديث عن طرق معبدة على طول 120 كيلومترا، عوض المرور بطريق أزيلال- آيت امحند- زاوية أحنصال. إليكم مسار الزيارة المحفوفة بالمخاطر، ضمن الربورتاج الأول، على أن تترقبوا تفاصيل أخرى، خلال الأسبوع الجاري، عن زيارة الأسر المعزولة والمحاصرة في الطريق المؤدية إلى آيت عطا، حيث يعيش الناس في منازل شبيهة بالكهوف، بمؤونة غذائية لاتسمن ولاتغني من جوع، وحيث الفقر يضرب مخالبه ويستشري بينهم، في غزلة عن العالم الخارجي، يعتمدون على ما تيسر من خبز وشاي في وجباتهم الأساسية، كأن القدر جثم على صدورهم، وتركهم يصارعون الطبيعة وحدهم في حرب غير متكافئة مع شيء اسمه الثلج، وشل جميع مناحي حياتهم. النشرة الإنذارية على مدار 3 أيام من التحضير القبلي للانتقال إلى المحاور المذكورة، نبهتنا جميع مصادرنا، بعين المكان، إلى خطورة الطريق في ظل محاصرتها من قبل الثلوج، وانقطاع الطرقات في وجه وسائل النقل، وانخفاض درجات الحرارة إلى مستويات دنيا، تصل إلى ناقص 10 ليلا، و2 درجة نهارا داخل البيوت، لدرجة أنهم وصفوا الزيارة بالمغامرة غير محمودة العواقب والمحفوفة بالمخاطر، موازاة مع النشرة الجوية الإنذارية، التي توصلت بها العديد من المصالح، التي ترقبت حصول عواصف رعدية مصحوبة برياح قوية وتساقطات مطرية غزيرة. وتزامن توقيت تنفيذ هذه الزيارة مع موعد عقد الجماعة القروية لزاوية أحنصال لاجتماع دورتها لتدارس الحساب المالي، ما اضطر أعضاء المجلس الجماعي إلى حضور أشغالها، محاولين كسر الحصار والعزلة عن طريق خوض المغامرة بالسير في طريق وعرة. ومن محاسن الصدف، أن تودة فرح، وحسن أولغول، ووالده الحسن أولغول، بعض أعضاء المجلس القروي لجماعة زاوية أحنصال، علموا بقدومنا إلى المنطقة، فتطوعوا لمرافقتنا إلى الزاوية، عبر سيارة رباعية الدفع، وأخرى ثنائية الدفع. فوضعنا أحزمة السلامة، ورفعنا أكفنا إلى الله لتسخير هذه الرحلة/ المغامرة، وتلينا أذكارا توسلا إلى الله للنجاة بالذات من خطورة الطريق. مسالك الموت لم يكن من الممكن الانتقال من منطقة بين الويدان إلى زاوية أحنصال عبر الطريق الوطنية، "طريق أزيلال آيت محند - زاوية أحنصال"، لأنها كانت مقطوعة بسبب التساقطات الثلجية الكثيفة، بتأكيد من بعض الأصدقاء، الذين حاولوا عبورها بساعات قبل وصولنا إلى عين المكان، فأطلعونا بعودتهم أدراجهم خائبين. حين ذاك لم يكن من خيار، سوى سلك الطريق الجهوية رقم 302، رغم ما تشتهر به من خطورة، لوعورة مسالكها الجبلية غير المعبدة، ولتعقد تضاريسها وافتقار الطريق المؤدية إليها إلى الإنارة العمومية، وإلى أي نوع من الإشارات المرورية. كانت الساعة تشير إلى الثالثة بعد الظهر، ودرجة الحرارة لا تزيد عن 16 درجة مائوية. ومن أمام "مدار الدرك الملكي" ببين الويدان، التي تلي جماعة "أفورار"، كانت الانطلاقة نحو جماعة "تولكيت"، على بعد 17 كيلومترا، فشرعت عجلات السيارة تلوي الطريق وراءها، في محاولة إلى الإسراع بعبور الطريق قبل أن يرخي الليل سدوله، الذي يجعل من تجاوزها ضربا من الخيال. بعد تجاوز كيلومترات قليلة، انخفضت درجة الحرارة إلى 12 درجة مائوية، وتزايد الشعور بالبرد القارس، ما حتم الزيادة في دورة عمل جهاز التكييف داخل السيارة. وبعد تجاوز آخر مقطع من الطريق الجبلية الرابطة بين جماعتي "واويزغت" و"تولكيت"، التي يبلغ طولها حوالي 42 كيلومترا، وبعد أن اجتزنا علامة "خطر" الموضوعة أمام قنطرة "واد العبيد"، التي يعود بناؤها إلى زمن الوجود الفرنسي في المنطقة، أصبحنا على مشارف الطريق رقم 302 غير المعبدة، التي يصل طولها إلى حوالي 90 كيلومترا. حينها بدت الطريق محفورة بين الجبال، وعبارة عن ملتويات ضيقة، تتخللها شعاب مياه وأودية ومنحدرات ومنعرجات في قمم جبلية معقدة التضاريس، يتطلب تجاوزها 5 ساعات عبر السيارة، أو 8 ساعات مشيا على الأقدام. وفي هذه الطريق المؤدية إلى "واويزغت"، واجهت المجموعة انقطاع الطريق عند واد "آيت حلوان" و"واد شيكر"، حيث ظهر مسار الأودية مملوءا بالأحجار ومشبعا بالأوحال، إلا أن تناسب جريان المياه فيهما، سمح بعبورهما بواسطة السيارة رباعية الدفع. وكان في متابعة المشهد بعض أبناء المنطقة، الذين كانوا يمشون وهم ينتعلون أحذية بلاستيكية ويرتدون ملابس غير صوفية، لا تناسب قساوة الطقس السائدة في المنطقة، وكأنهم يسترون بها عوراتهم، ولا يقون بها أجسامهم من البرودة. كان بينهم أطفال صغار، ظهرت وجناتهم شديدة الاحمرار بفعل البرد القارس، الذي تعرفه المنطقة، وبعضهم الآخر كان يركب حمرا، ظهرت وهي تتمايل بين الأحجار، التي كانت تعيق مسارها. كانت السيارة تسير يتيمة في هذه الطريق المخيفة، حيث لم يجرأ أي سائق للنقل المزدوج على عبورها في هذه الظروف الجوية الصعبة، خلالها عاينا آثار التساقطات المطرية الغزيرة في عزل عدد من الدواوير على طول الطريق، لافتقار جل النقط المرورية إلى قناطر عبور، سواء منها الخاصة بالبشر أوالسيارات أو الحيوانات، ما اضطرهم على التزام دورهم الطينية لتجنب مخاطر عبور الأودية، التي بدت وكأنها ثائرة على وفرة المياه القادمة إليها من عيون المنطقة. في الطريق نحو زاوية أحنصال، كانت السماء ممطرة وواجهتنا العديد من الصعوبات في اجتياز عدد من المنعرجات الضيقة المكسوة بالأوحال والأحجار، هددتنا في أكثر من مرة بالانزلاق، وكان من أصعب المنعرجات تلك التي عرفت تربتها انجرافات بفعل غزارة الأمطار، فتساقطت فيها أحجار كبيرة، ولم يكن هناك من خيار أو بديل عن المجازفة، تارة نزيح بعضها عن الطريق باليد، وتارة أخرى نتجاوزها. وبعد ذلك كان في انتظارنا طريق مقطوعة أخرى عند واد "إيمينوارغ"، حيث تعذر على السيارة عبورها بسهولة، بعد أن علقت الأحجار بهيكلها، ما تطلب تدخلا من بعض أبناء المنطقة لتخليصها والتضامن للدفع بها نحو الأمام، باستعمال حبال لجر السيارات إلى بر الأمان. وفي هذه الأثناء، اضطر باقي أعضاء الفريق إلى الهبوط وعبور الواد عبر قنطرة تقليدية، نصبها أبناء المنطقة، بدت مكونة من أخشاب الأشجار، متماسكة بخيوط حديدية صدئة، ومثبتة بواسطة أحجار الوادي، ما جعل من عبورها أمرا محفوفا بالخطر لتمايلها عند الصعود فوقها. وبعد نصف ساعة من السير، واجهتنا طريق مقطوعة أخرى عن واد "تيكليت" وبعدها "إيمرزكي". طرق من عهد الاستعمار سيارة تغرق وسط أحجار وأوحال الأودية فتضامن أبناء المنطقة لجرها بالحبال من أعلى قمم هذه الجبال، ظهرت فجاج ضيقة تؤدي إلى أعماق سفوحها، تبين أنها أماكن تنقيب لشركة مغربية ورثتها عن سابقتها الفرنسية منذ الوجود الفرنسي في المنطقة، ما كشف عن أن الطريق الوعرة، هي من تصميم الفرنسيين، فتحت على أيدي سجناء وأحرار مغاربة، لتيسيير الأعمال التنقيبية للفرنسيين لاستخراج الرصاص، والكحل، والزنك، من صخور هذه الجبال الشامخة، التي تحيط المنطقة من كل جانب. وكلما تقدمنا نحو الأمام، كلما فاجأتنا الأودية، وهي مملوءة بمياهها الملوثة بالأوحال، المحملة بشتى أنواع الأشجار التي اقتلعتها من جذورها واصطحبتها معها على طول المسار القادمة منه، ناهيك عن حملها كميات من الأحجار من مختلف المقاييس، تحدث صوتا مخيفا لدى جرفها من قبل المياه. وعلى مقربة من جبال "الكاتيدرال" الشهيرة في المنطقة، التي يستخدمها السياح الأجانب للقفز بالمنطاد، فوجئنا بآثار لصخرة من الحجم الضخم، تهاوت من عين المكان، تطلبت تدخل مسؤولي التجهيز لكسرها بواسطة استعمال المتفجرات، بينما ظهرت الأتربة الحمراء، رطبة من شدة بللها بمياه الأمطار. وعلى طول هذه الطريق، ظهرت العيون المغذية لواد أحنصال، في نقط متعددة من الطريق الوعرة، سيما على طول منطقة "تاكورت"، حيث التقينا زوجا وزوجته تردف رضيعها فوق ظهرها، كانا يمشيان قادمين من مدينة أزيلال، فأمعن الزوج في السيارة القادمة من الخلف، فلوح بيده بحشمة كبيرة، وكأنه يتوسل ويرجو اصطحابه في السيارة. بعد ذلك علمنا أنه كان يصاحب زوجته لإنجاز بطاقتها الوطنية، وفي ظل عدم عثورهما على أي وسيلة نقل، بسبب انقطاع الطرقات، كانا يخططين للمبيت في أحد المقاهي الشعبية، مقابل درهمين عن كل واحد منهما. ولم يمر على ذلك وقت طويل، حتى صادفنا مجددا طريقا مقطوعة عند واد "إيمرزكة"، فعلقت السيارة وسط الأحجار المحملة من الوادي، فتضامن الرجال على جر السيارة مجددا، والجميع يرجو التوفيق من الله، سيما أن الظلمة عمت المكان في ظل غياب الكهرباء العمومية، والجميع يتخوف من المبيت في فضاء موحش ومظلم، علمنا أن المنطقة، غنية بالزواحف من شتى أنواعها، وبها ثعابين،فضلا عن قردة وخنازير برية وذئاب. وعند الاقتراب من زاوية أحنصال، كانت الساعة تشير إلى 8 ليلا، وانخفضت الحرارة إلى ناقص 10 درجات مائوية، فعمت أرجاء المكان ظلمة حالكة، اجتزنا خلالها قنطرة وادي أحنصال، فظهرت مبانيها بلون التراب منتصبة في صدر وسفح جبال "أزوركي"، التي يزيد طول قممها على 2000 متر، وأخرى عند السفح على جنبات الوادي، محاطة بالجبال المؤدية إلى قبائل آيت عطا وآيت عبدي، التي ظهرت منتصبة مثل أشباح مكسوة برداء أبيض، والذي لم يكن سوى الثلوج البيضاء، التي كانت تنيرها قمرة الليل. وفي هذا المكان أخبرنا بوصولنا إلى مركز الجماعة، التي تبلغ مساحتها 888 كيلومترا مربعا، أي أنها تضاهي مساحة مدينة الدارالبيضاء الكبرى، إلا أن معالم الفقر ظهرت واضحة فيها، تفتقر إلى كهرباء عمومية وإلى مسالك وطرقات، علما أنها من أقدم الجماعات القروية في المغرب، تأسست كقيادة سنة 1932، وتحولت إلى جماعة قروية سنة 1959، لكنها تتصدر قائمة الجماعات الأكثر فقرا على الصعيد الوطني. التدفئة قبل الخبز من داخل بيت أسرة متواضعة وكريمة من أبناء المنطقة، وقفنا على حجم المعاناة، التي تتكبدها نساء وفتيات المنطقة في توفير حطب التدفئة من الأشجار التي تحيط بجبال المنطقة، إذ يكتسي الحطب أولوية وأهمية قصوى، تتقدم على جلب الدقيق وتهيئ الخبز للأطفال. فأصحاب هذا البيت، يؤكدون على أن بقائهم أحياء داخل هذه البيوت القديمة، ووسط هذه الجبال الشامخة، متوقف على الحطب، لقدرته على مقاومة قوة برودة المكان بشراسة. داخل هذا البيت، كان الجميع يتحولق حول فرن حطب التدفئة، الشبيه بوعاء حديدي، صدئ وذي لون بني قاتم، كانت ألسنة النيران فيه ملتهبة وحمراء، تتصاعد منها أدخنة نحو أعلى البيت. وبين مرة وأخرى، كانت تتقدم ربة البيت لتضع بقراجات قديمة الصنع، لتوفر للضيوف وأصحاب البيت ماء ساخنا، لاستعماله لدى الوضوء ونظافة الأطراف. ومن مصاعب الحياة في مثل هذه البيوت، أن فرن التدفئة لا يوجد إلا داخل بيت استقبال الضيوف، بينما تفتقر إليه الغرفة الثانية والوحيدة داخل البيت، وهو ما تطلب من الفريق ارتداء "حزمة" من الملابس والجوارب والتسلح بالأغطية لارتياد المرحاض، لمقاومة البرد القارس. عزيزة غلام (موفدة 'المغربية' إلى زاوية أحنصال) | المغربية 'لمغربية' عاشت مع السكان ثلاثة أيام من العزلة وسط الثلوج واوية أحنصال: عودة خطر الوحش الأبيض 09:48 | 08.03.2010