الطريق من مدينة أزيلال باتجاه زاوية أحنصال يمر فوق سد بين الويدان المقام وسط جبال الأطلس المتوسط. داخل هذا السد يوجد مصنع لإنتاج الكهرباء تحرسه ثكنة عسكرية على مدار الأربع والعشرين ساعة في منطقة جبلية تزينها رواب مخضرة تتخللها منحدرات خطيرة. وجهتنا كانت زاوية أحنصال الرابضة بين قمم الأطلس المتوسط المكسوة بالثلوج. من مداشر قيادة أحنصال، نزح قبل أسابيع سكان قبائل آيت عبدي وآيت عطا في مسيرة احتجاجية مشيا على الأقدام، وجهتهم كانت عمالة أزيلال للمطالبة بفك العزلة عن مناطق تحاصرها الثلوج وتحول دون تمكن سكانها من التنقل والتزود بالمواد الغذائية. السكان يعيشون بشكل عادي في المناطق القريبة من الطريق، لكن الأوضاع تختلف في موسم الثلوج بالنسبة للرعاة والمزارعين القابعين في مداشر متفرقة بين الجبال. توقفت السيارة في بلدة «تلكيت»، صادف تواجدنا في هذه الجماعة انعقاد السوق الأسبوعي الذي يقصده السكان للتزود بالمواد الغذائية والخضر قبل أن يتفرقوا في المساء عائدين إلى منازلهم. التقينا العربي في سوق تلكيت، كان يجلس متهالكا فوق كرسي بلاستيكي بمقهى شعبية فتحت داخل «كاراج» إسمنتي مشبع بالرطوبة. طريق الحياة ميمون صاحب المقهى يبيع لحم ماعز مطبوخ وبراريد شاي، في الداخل نصبت خمس طاولات، الخارج بائع خردوات يعرض ملابس و أحذية قديمة، نسوة غالبيتهن يضعن وشاحات يلفنها حول وجوههن وأعناقهن. بعضهن حملن أطفالهن المرضى وقطعن مسافات طويلة لكي تكشف عن فلذات أكبادهن ممرضة تأتي كل أسبوع من قيادة زاوية أحنصال لتمنح المرضى أقراصا طبية وأدوية. العيادة الطبية المتنقلة المخصصة للكشف عن المرضى من سكان الدواوير المحيطة بالبلدة عبارة عن سيارة بيضاء اللون من طراز «روندروفر» تصطف جنبها نسوة قرويات يتأبطن أطفالا رضعا جيء بهن من مداشر تغطيها الثلوج. في مقهى «ميمون» يمكن للمارين من هذه البلدة الصغيرة أن يحتسوا كؤوس شاي وهم يطلون على قارعة الطريق مليئة بالأحجار. داخل المقهى نثر ميمون طاولات وعلى الجدران علق ملصق لشركة مشروبات غازية، داخل ممر نصبت طناجر لإعداد مرق مكون من لحم ماعز وخضر شبه مسلوقة. في الخارج شاهدنا صبيا يراقب قطع لحم معدة للشواء، يهش عليها بقطعة كرتون فيما تغطي وجهه سحب دخان تتطاير في الهواء. ضحك العربي كاشفا عن فم تساقطت معظم أسنانه، قال بأسى ردا على سؤال ل«المساء» حول احتياجات سكان إقليم أزيلال: «نحتاج الكثير، الكهرباء لا يصل دواوير الجماعات القروية الأشد فقرا في الإقليم والتلاميذ مجبرون على الانتقال إلى مناطق أخرى ويكترون غرفا للتمكن من إتمام دراستهم». زاد قائلا بأمازيغية قحة: «إيخاصا ياغ أبريد .. أبريد»، بمعنى أن السكان هم في أمس الحاجة إلى.. الطريق. وهي الكلمة التي كررها العربي ثلاث مرات وهو يرتشف من كأس شاي معربا عن اعتقاده بأن ما تعيشه منطقة «أنركي» وآيت عبدي من انقطاعات متكررة للمسالك الطرقية في موسم الثلوج يتجدد بشكل سنوي والناس قد اعتادوا على ذلك ويسلمون أمرهم إلى الله. الناس تتحدث في البلدة عن قصة برلماني اختار أن يظل ملتصقا بهموم منتخبيه وحرصه على التواجد برفقتهم في الأيام العصيبة. والبعض يقول إن أبناء القبيلة قرروا التصويت لفائدة نائب برلماني تأملوا فيه خيرا واشتروا له سيارة رباعية الدفع ليتمكن من السفر بانتظام إلى الرباط وحضور دورات مجلس النواب وإيصال مطالب السكان إلى المسؤولين، وأهمها الطريق التي ستكون أنجع وسيلة يمكن أن تلجأ إليها الدولة لخدمة التنمية المحلية بضواحي أزيلال. عطش بين الوديان هكذا، فحاجيات سكان جماعات «وواويزغت» و«آيت مازيغ» و«تاكلفت» و«أنركي» تتلخص في شيء واحد.. الطريق. قرية «أنركي»، القريبة من منطقة إميلشيل، حسب العربي، في أمس الحاجة إلى شق الطرق في مناطق معروفة بصعوبة مسالكها الجبلية وإقامة الدولة أحواض لتزويد السكان بالماء الصالح للشرب في فصل الصيف، وأضاف: «بالرغم من أن المنطقة تضم منابع كثيرة للمياه وتعد المزود الرئيسي لسد بين الويدان بالماء فإن السكان يعانون العطش صيفا، في الشتاء تحاصرنا الثلوج وفي الصيف نقطع مسافات طويلة للظفر بمياه نحملها فوق الدواب». خارج المقهى الشعبية شاهدنا متسوقين يتبضعون أغراضا بسيطة، غالبيتهم مزارعون ورعاة وتجار مواد غذائية بالتقسيط. كان الناس يعرضون سلعا ويقتنون أخرى، يقايضون الفواكه والخضر الطازجة التي يزرعونها في جوانب الأودية بمواد تموينية ضمنها علب صابون، يتزودون بالدقيق والغاز، يبيعون غلات أشجار مثمرة يزرعونها في حواشي بقع أرضية صغيرة في سفوح صغيرة ويشترون مؤونة تكفي أسرهم لأسبوع . في المساء يعودون أدراجهم على متن سيارت «الترانزيت»، صاحبة رخص «النقل المزدوج» المرخص لها بنقل المسافرين من السكان. بعد الظهيرة يبدأ المتسوقون في الانسحاب باتجاه الدواوير المجاورة ممتطين بغالا تتسلق جبالا تكسوها الثلوج. من داخل المقهى الإسمنتي الوحيد تمكن مراقبة حركة الناس في سوق أسبوعي يلتئم كل يوم سبت، ثمة خيمة يبيع صاحبها رغيف الإسفنج مقليا مع أسماك، هناك مزارعون يعرضون خضرا طازجة، آخرون يبيعون تفاحا بسعر خمسة دراهم للكيلوغرام الواحد. أسعار الخضر في السوق موحدة في سعر5 دراهم للكيلوغرام الواحد، هنا يتساوى البصل مع التفاح والطماطم. شاهدنا موظف شركة «سلف» يستخلص ديونا من فلاحين كثر في الهواء الطلق، نصب طاولة وضع عليها دفتر حسابات وطفق يعد نقودا كثيرة يتسلمها من قرويين بعد أن يوقعوا له على كمبيالات. محدثنا العربي شيخ طاعن في السن، أمازيغي أبا عن جد درس في مدرسة تعرف سيادة نظام عسكري صارم. وقال: «في الصباح، قبل أن ندخل الفصل كانوا يوقفوننا في صف طويل أمام الباب، بعد ذلك، كان الفرنسيون يسوقوننا إلى ساقية لكي نغسل وجوهنا ، يأمروننا بالانتظام على طول الساقية، كان ذلك في زمن وضعت فيه الحرب العالمية الثانية للتو أوزارها». أضاف العربي متحدثا عن زمن كانت فيه المنطقة تحت حكم نظام عسكري فرنسي: «في المدرسة كنا نرتدي بذلة رسمية، عبارة عن زي عسكري عبارة عن قميص عسكري بربطة عنق وسروال قصير بالإضافة إلى «الكندورة »، كنا نقوم بمسيرة كل صباح قبل الدخول إلى الفصل، نقطع خلالها نصف كليومتر تقريبا في شكل طابور عسكري يمشي بخطوات مضبوطة امتثالا لأوامر عسكرية باللغة الفرنسية». بحسب العربي فإن سلطات الحماية كانت توزع قطع الصابون على التلاميذ كل يوم سبت وتزودهم بالسكر والشاي، في يوم الأحد كانوا يساقون في صباحات مبكرة مرددين النشيد الفرنسي إلى النهر المحاذي لبلدة «تلكيت»، هناك يغسل التلاميذ ملابسهم ويسبحون، وبعد أن يتناولوا وجبة الغداء ويشربوا الشاي، يقفلون عائدين في طابور مضبوط مرددين النشيد الفرنسي إلى أن يصلوا إلى باب المدرسة. قال العربي إنه اشتغل بناء في سد بين الويدان مع الفرنسيين سنة 1952 وكان يتقاضى مبلغا هزيلا، كما سبق له أن عمل مع فرنسي متقاعد من الجيش في شق إحدى الطرقات بالمنطقة. فك العزلة «قبل أيام أوشك الناس على الموت في قرية تغدوين تالمست بجماعة أحنصال، وبسبب انقطاع الطريق عانى سكان قبائل أيت عبدي كثيرا وقد اضطروا للمشي في مسيرة لفك العزلة عنهم كانت وجهتها عمالة أزيلال، آخرون وضعوا الحوامل فوق نعوش تستخدم لغسل الموتى وساروا بنسائهم مسافات طويلة وسط الثلوج بحثا عن مراكز صحية بعيدة»، يؤكد العربي قبل أن يغير نبرة كلامه بمجرد أن شاهد شخصا في الأربعينيات من عمره يتقدم نحونا وخاطبه بالقول: «كلشي بخير نعام أس». بطريقة أو بأخرى حاول أن يعرف الوافد هويتنا ليخبر رؤساءه، كان له ما أراد ونظر إلى بطاقة الزيارة وقال: «ها المساء، يعجبني جدا رشيد وأنا ابن منطقته، كاين شي منقضيو، شربو شي حاجة». «مرة أخرى»، أجبناه، نحن على عجلة من أمرنا ويجب أن نصل إلى أحنصال. هرش رأسه واتجه إلى طاولة أخرى كان يجلس عليها شخص يلبس بزة حراس المياه والغابات ورجلان طفقا يتظلمان إلى القائد. بمجرد أن غادر القائد لكزني العربي وقال باستعطاف: «ما دار بيننا يبق هنا، لا أريد عداوة مع السلطة». مشيرا إلى أن العشرات من التلاميذ تعرضوا لحالة تسمم جماعي وأوشكوا على الموت لولا تدخل أطباء حملتهم هيلوكوبتر. مصادر أخرى أكدت خبر تدخل فرقة طب وقائي منقولة جوا يوم 5 يناير الماضي، في عمالة إقليم أزيلال، مشيرة إلى أن المروحية حطت في دوار تغدوين تالمست، بالجماعة القروية لزاوية أحنصال، بعد حالة تسمم جماعي لتلاميذ إحدى الداخليات. أتممنا الطريق إلى مشارف زاوية أحنصال، فوق منعرج مليء بجليد لزج لا يسمح بمرور سيارة الدفع الرباعي. نجونا من انزلاق خطر وكادت السيارة أن تنزلق إلى الهاوية. باب المجازفة يقود إلى الموت صباح ذلك السبت. فقررنا العدول عن مخاطرة المرور فوق أرض جليدية كثيرة الانزلاق، أرجأنا إتمام الرحلة إلى الغد بعد التزود بسيارة رباعية الدفع الضرورية للمرور فوق جليد يكون السير فوقه كالمشي فوق زجاج مبلل. الناس في الأطلس المتوسط يسمون ظاهرة تجلد ندف الثلج ب«الفركلة»، ويقولون: «عندما تكون «الفركلة» فإن الطرقات تكون خطيرة وسريعة الانزلاق ولا يمكن المرور فوقها إلا باستعمال سلاسل تحاط بالعجلات والسياقة ببطء شديد تفاديا للوقوع في الهاوية». عودة إلى أزيلال كان نسيم رائق يتسلل إلى داخل السيارة. زاية أحنصال صباح الغد، سلكنا نفس الطريق على متن سيارة أخرى، من جديد مررنا من فوق سد بين الويدان وتلكيت، سلكنا جسر وادي العبيد الحديدي المعلق في السماء، تركه الفرنسيون وكان يتسع لمرور حمولة تصل 15 طنا، الآن لا يسمح رجلا القوات المساعدة اللذان يحرسانه بمرور حمولة تفوق الخمسة أطنان. يعد جسر «وادي العبيد» المعبر الوحيد لسكان زاوية أحنصال من منطقة تلكيت، منسوب المياه في قعر الوادي ضئيل، تحت الجسر عمال يشحنون رمالا في شاحنات ويرحلون. عندما وصلنا إلى زاوية أحنصال استقبلنا أهلها بنظرات ترقب. أحدثت الجماعة القروية لزاوية أحنصال سنة 1959 وتبلغ مساحتها الإجمالية 850 كلم مربعا، بساكنة تقدر حسب الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2004 بما مجموعه 10.435 نسمة، ويبلغ عدد الدوائر الانتخابية 13 دائرة، ومجموع ناخبي الجماعة 5473 ناخبا. أما المداخيل الذاتية خلال سنة 2007 فناهزت 92 ألف درهم، ويتوقع أن يصل منتوج الضريبة على القيمة المضافة لسنة 2008 إلى مليونين و85 ألف درهم. مصادر من سكان زاوية أحنصال أكدت أن محمد الدردوري والي جهة تادلة أزيلال زار المنطقة واجتمع بممثلي قبائل آيت عبدي وآيت عطا ممن حاصرتهم الثلوج وأنصت لمطلبهم الوحيد المتمثل في الطريق وقد وعدهم خيرا. يصل عدد سكان منطقة آيت عبدي، التي سار سكانها في مسيرة على الأقدام مطالبين بفك العزلة عنهم، حسب الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2004 ما مجموعه 24000 نسمة (23 % من مجموع سكان الجماعة القروية لزاوية أحنصال)، ويبلغ عدد الدوائر الانتخابية أربعا هي: تفراوت واميضر و«زركان» و«تيناتمين». بالنسبة إلى المحاور الطرقية التي تربط زاوية أحنصال بمختلف مناطق الإقليم هناك طريق تربط بين أزيلال وزاوية أحنصال عبر آيت امحمد على مسافة 85 كلم منها 30 كلم معبدة ألفيناها مقطوعة بسبب الثلوج. كما توجد طريق تربط بين أزيلال وزاوية أحنصال عبر تبانت على مسافة تقدر ب121 كلم، منها 55 كلم غير معبدة، وهناك طريق أخرى من أزيلال وزاوية أحنصال عبر واويزغت وتيلوكيت تمتد على مسافة 135 كلم، منها 53 غير معبدة. لا يتعدى عدد المؤسسات التعليمية الموجودة في قيادة أحنصال إل3 مجموعات مدرسية، هناك مركز صحي وحيد والسلطات تقول إن نسبة التغطية بالخدمات الصحية تصل إلى 81,25 في المائة. رغم أن مياه وادي أحنصال تعتبر المزود الرئيس لسد بين الويدان، حيث يتم إنتاج الطاقة الكهربائية، فإن نسبة التغطية بالكهرباء تصل إلى صفر في المائة، هناك فقط محول كهربائي تركه الفرنسيون وهو معطل. تصل نسبة التغطية بالماء الصالح للشرب إلى 30 %، وتضم الجماعة القروية لزاوية أحنصال ثلاث قبائل هي آيت عطا، وأحنصال، وآيت عبدي، وتعد جماعة أحنصال رابع أفقر جماعة في المغرب بعد جماعات آيت أومديس آيت بلال وأيت بوولي.