عندما كان العامل الجديد لأزيلال يستقبل الجمعيات والهيئات الحقوقية والنقابية والسياسية بمقر العمالة للتعارف وشرح استراتجيته في العمل، كان المواطن “أعلتى محمد” يبكي مأساة فقدان أبنائه الستة، يتفقد جروح زوجته التي تئن متأرجحة بين الحياة والموت صباح الأربعاء الماضي، فقد أعلتى محمد بناته الأربع وولديه، كان أصغرهم يبلغ من العمر سنة واحدة وأكبرهم يبلغ سبع سنوات، سقطوا شهداء بعد أن خرّ عليهم البيت الطيني الذي كان قد غطي بالكامل بالثلوج. كان أعلتى محمد في أعالي الجبال لا ينتظر من الجهات الرسمية التدخل نظرا إلى إيمانه بأن ذلك مستحيل لقساوة الظروف ولاستحالة وصول أي وسيلة نقل لحمل الموتى والجريح الذين بقوا لساعات تحت الأنقاض، مجهودات بسيطة بذلها السكان بإمكاناتهم المتواضعة جدا، أخلت ذمة الجهات المسؤولة بعد أن أخرجت الضحايا من تحت ركام الثلوج. حكاية التاريخ والجغرافيا يمتد تاريخ قبيلة آيت عبدي قديما في قمم جبال الأطلس، فقد ناصر أهاليها “احنصالن” الذي أدخل الإسلام إلى أعماق الأطلس قبل أن يناصروه في نشره بتخوم الصحراء، لكن ذلك يمثل جزءا بسيطا من شهرة هذه القبيلة التي يحتفظ لها تاريخ المقاومة بالمغرب بذكريات كثيرة. التاريخ الشفوي لأزيلال يحكي عن ثلاثينيات القرن الماضي وتفنن قاطنيها المقاومين في نصب الكمائن للمستعمر الفرنسي، وكيف جابه سكان “آيت عبدي” عندما اقتبسوا أسلوب الأخدود للإيقاع بها. نسق بعض أجدادهم مع محمد الخامس، واتفقوا على عدم تولية بن عرفة بمقهى ريال بالرباط سنة 1954. يتحدثون عن حجم نكران الجميل وعن التهميش الذي لاقوه في مغرب الاستقلال وكيف شارك آباؤهم في أول انتفاضة مسلحة قادها القائدان البشير التهامي وابن حمو في بداية الستينيات من القرن الماضي. قبيلة أيت عبدي، الواقعة في أقصى الجنوب الشرقي لإقليم أزيلال، تعرف في سجلات الداخلية بهذا الاسم وتتكون من ثلاث مشيخات: “أيت عفال” و”أيت ودير” و”أيت خويا حماد”، ومن أربع دوائر انتخابية: “تافراوت” و”إمضر تناتامينن” و”زركان” وهي تابعة لجماعة زاوية أحنصال. تقدر ساكنة أيت عبدي بحوالي4000 نسمة، تعيش كلها على الرعي وتربية الماشية بطريقة جد تقليدية. الجماعة القروية لزاوية أحنصال التي تنتمي إليها قبيلة آيت عبدي، تعد رابع أفقر جماعة في المغرب بعد جماعات آيت أومديس وآيت بلال وآيت بوولي، وكلها جماعات تنتمي إلى إقليم أزيلال . ممر الموت أو الحياة تعد قمة تيزي نملغاس، الممر الوحيد الذي يمكن أن تسلكه ساكنة آيت عبدي لجلب المؤونة من دقيق وشاي وسكر، وهي أهم المواد الغذائية التي يعتاش عليها أهالي المنطقة الفقراء الذين يسكن أغلبهم في كهوف وسط الجبال، تكون أكثر أمانا من بيوت طينية لا تقوى على تحمل كميات الثلوج الكثيفة التي تتساقط على المنطقة. فترة جلب المؤونة تكون قبل شهر أكتوبر من كل سنة قبل تراكم الثلوج، وتمتد فترة الحصار الطبيعي إلى سبعة أشهر حتى متم شهر أبريل من كل سنة. نفس الممر يستغل لنقل من تعسرت ولادتها من الحوامل فوق النعوش في وقت تقل فيه كمية الثلوج، أما في موسم الثلوج فلا أحد يمكنه السفر خارج حدود القبيلة. نعش الموتى المصنوع يدويا من عمودين خشبيين مربوطين في ما بينهما بحبال، تأخذ مجموعات مشكلة من أربعة رجال في كل مجموعة في حمله بالتناوب مشيا على الأقدام وسط الجبال والأودية والمنعرجات وصولا إلى وارزازات التي تعتبر أقرب نقطة حضرية بالقبيلة أو في اتجاه المستوصف الموجود بالمركز الجبلي، زاوية أحنصال. قضاء عرفي المواطنون “بهذه الرقعة من المغرب المنسي تنازلوا عن التقاضي في المحاكم لعدم قدرتهم على دفع تكاليف السفر إلى أزيلال، بماذا ستفيدنا الأحكام القضائية مادام المخزن لا يصل إلى أيت عبدي بتاتا، فالأولى لنا أن نحتكم إلى محاكمنا الخاصة”، يقول مواطن منحدر من آيت عبدي. “محكمة الضامن”، المحكمة الخاصة بالقبيلة، مساطرها القانونية وفصولها تتمثل في أعراف الأجداد، تعقد في الهواء الطلق، تتشكل من شخصين من أبناء القبيلة، يختارهما طرفا النزاع، بينما يقوم شيخ القبيلة بتعيين رئيس الجلسة الذي يكون ثالث عناصر هيئة المحكمة، وهو الذي ينطق بالأحكام الصادرة عن “ محكمة الضامن” ويكون تنفيذ الأحكام دون تماطل ودون تدخل ودون إرشاء للسلطة التنفيذية المكونة من أفراد القبيلة. نفس المحكمة تشهد على عقود الزواج والمعاملات بين سكان القبيلة، ويحرص شيخ القبيلة على تبليغ” حاكم المخزن” بزاوية أحنصال بعد أن يتسلق قمم الجبال - جبل “تيكرضين” أو جبل “أرودان”- ليتمكن من الاتصال هاتفيا بالقائد بزاوية أحنصال لإخباره أو إعلامه بكل جديد خطير، كما وقع صباح الأربعاء الماضي.، أما المشاكل اليومية التي تعرفها القبيلة فلا تحتاج منه أن يتكلف عناء صعود الجبال للبحث عن “الريزو” والاتصال بالقائد. حكايات الموت البرد والثلوج تقتل كل سنة في أيت عبدي، فقبل الأطفال الستة الذين قتلوا الأربعاء الماضي كان قد قتل “مزيان سعيد بن محا نايت أمزيان” الذي حاصرته الثلوج في طريقه إلى بيت أهله في “زركان” بعد وصوله إلى قمة” تيزي نملغاس”، “الضحية” تم العثور على جثته على الثلج قرب أحد المجاري المائية في منحدر قرب “تفراوت”، كان يمني النفس بزيارة أسرته التي طال غيابه عنها. كان مزيان قد استقر بأحد الدواوير بمنطقة قلعة السراغنة هروبا من الثلوج والبرد القارس قبل سنوات، لكن، كما يقال، لن يغلب الحذر القدر، فقد هاجر سنوات قبل أن يموت في العراء متجمدا. بعده مات شخص آخر في وسط يناير الماضي لكن موته مر مرور الكرام وأصبح اسمه رقما يضاف إلى أسماء أشخاص قضوا قبله وقبل الأطفال الستة، أشهرهم من ارتبطت وفاته بمعاناة ومآس وسط الثلوج كما وقع سنة 1982 عندما توفي “سعيد أوحساين”، أوفي سنة 1986 عندما قضى “حدو الكبير” الذي حاصرته الثلوج وخلف أرملة تعول أربعة أيتام. وفي بداية التسعينيات كما حصل ل “خربوش موحى أوحدو”، وكما وقع ل “السليدي علي أوحدو” في 2006... وتبقى حكايات سكان آيت عبدي مع الثلوج حكايات مأساوية، بعضهم فقد راحة يده وبعضهم أصيب بشلل تام وبعضهم فقد رجليه، وغيرهم تاه وسط الجبال البيضاء بعدما غطى الثلج الأعلام الحمراء التي نصبها السكان دليلا للتائه والمسافر من وإلى آيت عبدي. من قمة المدنية إلى العصور البدائية مصطفى ابن مدينة فاس، أستاذ يدرس ب “أيت عبدي” منذ 6 سنوات، بعيدا عن “باب الجلود” و”مقاهي وسط المدينة”، وجد نفسه يبحث عما يكفيه من حطب للتدفئة في بيئة: “تصل درجات البرودة الدنيا إلى مستوى لم أكن أتصوره ولم يخطر لي على بال”، مصطفى أصبح يخجل من سرد حكايات جبال آيت عبدي لأصدقاء طفولته أو معارفه بفاس، لأنهم وكما يقول “يعتقدون أنني أصبحت كذابا، يحترف نسج الحكايات الغريبة عن المعاناة وعن الثلوج وعن حياة لاعلاقة لها بإنسان الألفية الثالثة”، عندما أكون في وسط المدينة القديمة وأرافق عائلتي أو أصدقائي ب”الطالعة الصغيرة” أو”الطالعة الكبيرة” بفاس العتيقة، أتذكر قمة الموت “تيزي نملغاس”، وأتعجب من قدرتي على الاستمرار حيا، وكيف يعيش أناس بأعالي الجبال وسط طبيعة قاسية وتهميش أقسى منها. تلاميذ في “المنفى” يتسولون لمواصلة دراستهم “بعد الموسم الدراسي 2005 سيقل عدد الوافدين على المدرسة بشكل كبير، لن يصل إلى الأقسام إلا تلاميذ يعدون على رؤوس الأصابع، بقاؤهم في وسط بيوت مشيدة بالأحجار والحشائش أسلم من ألا يعودوا أبدا وسط الثلوج التي قد يصل ارتفاعها أحيانا إلى ثلاثة أمتار”، يؤكد أحد الذين تمكنوا من زيارة آيت عبدي قبل أشهر من تساقط الثلوج. دار الطالب بالجماعة المجاورة آيت محمد، التي تبلغ طاقتها الاستيعابية 96 تلميذا، تكتظ بأبناء جماعة زاوية أحنصال. يوجد من بين هؤلاء تلاميذ قلائل ينحدرون من آيت عبدي ممن أسعفتهم حظوظهم، وفدوا على دار الطالب لمتابعة دراستهم الإعدادية، يضطرون إلى التسول بالنهار وسط جماعة أهلها فقراء، ويلوذ بعضهم بالمقاهي التقليدية للمبيت ممن لم يجد مكانا بدار الطالب التي اكتظت بأكثر من 120 نزيلا، لم يتخل سكان جماعة آيت محمد عمن نزلوا بالجماعة فأسكنوا 47 تلميذا آخر بمقر الجماعة. من مسيرة الثلوج إلى الوعود سكان آيت عبدي قاموا بمسيرة مدة خمسة أيام مشيا على الأقدام وسط الثلوج في نونبر من سنة 2007، قبل أن تتدخل السلطات وتعدهم بحلول في أقرب الآجال، انتقل الوالي برفقة عامل الإقليم إلى زاوية أحنصال وتكبد ممثلون عن آيت عبدي عناء المسير وسط الثلوج لملاقاة الوفد الرسمي. كان اللقاء فرصة للسكان لعرض مطالبهم التي كان أهمها الطريق ولا شيء غير الطريق، “إيخاصا ياغ أبريد .. أبريد” ردد كل السكان بلهجة أمازيغية على أسماع الوالي والعامل، تحدثوا عن معاناتهم للوصول إلى زاوية أحنصال، من آيت عبدي لمدة تصل إلى 14 ساعة للظفر بقالب سكر أو علبة شاي أو كيس من الدقيق المدعم الذي يتلاعب به السماسرة، وتحدثوا عن موتاهم وقتلى الثلوج وعن نقل المرضى والحوامل على نعوش الموتى، لم يكن من مطالب ساكنة آيت عبدي ما عهده المسؤولون الرسميون من تطبيب وكهرباء وصرف صحي وجودة خدمات بل فقط” إيخاصا ياغ أبريد .. أبريد”. العامل السابق لأزيلال محمد الراشدي العلوي قال، أثناء اللقاء التواصلي الذي عقده برفقة والي الجهة محمد دردوري بالسكان، إن حجم المشاريع الاستثمارية المنجزة والمبرمجة من لدن مختلف مصالح الدولة بتراب جماعة زاوية أحنصال هو 71 مليونا و340 ألفا 239 درهما، فيما قدر تكلفة فك العزلة عن هذه الجماعة ب 26 مليار سنتيم. المدير الإقليمي للتجهيز أوضح أن “فك العزلة عن المنطقة يمر أولا بإيصال الطريق إلى جماعة زاوية أحنصال المركز، وبعد ذلك وضع دراسة للطريق، “آيت عبدي” في اتجاه “تاغية” (10 كلم)، وتتطلب دراستها 40 مليون درهم، وتكلفة الانجاز ملياري سنتيم، بالإضافة إلى إنجاز 3 قناطر، بما مجموعه 6 مليارات سنتيم، و14 مليار سنتيم لتعبيد الطريق، ومحورين من الزاوية في اتجاه أزيلال، ومن الزاوية في اتجاه “واويزغت” بتكلفة 6 مليارات و600 مليون درهم، ومقطع “تيزي نملغاس” بملياري سنتيم. في حين وعدهم والي الجهة باللغة الأمازيغية بأن الدراسة لشق المسالك إلى الدواوير المعنية ستبدأ منذ الغد “الخميس الأول من يناير 2008”، كما وعدهم بزيارة قريبة إلى آيت عبدي، وأكد أن هذه الزيارة لا بد أن تتم، وأنها ستكون ولو على ظهر الدواب أو على متن طائرة هيليكوبتر. لحسن أكرام، من أبناء مدينة أزيلال، سبقت له زيارة آيت عبدي في الصيف الماضي، قطع أكثر من 14 ساعة مشيا على الأقدام لصعود قمة تيزي نملغاس والوصول إلى دواوير قبيلة آيت عبدي، تساءل بمرارة في تصريح ل”المساء” قائلا: لماذا هذا التهميش في حق ساكنة آيت عبدي؟ أليسوا بشرا مثلنا؟ ألا يستحقون الرعاية والتفاتة ولو بسيطة؟”.