لعل العبارة هاته تأخذ القارئ عبر الزمن الماضي إلى الإسماعيلي الحسن بن علي الصباح، و ثورته ذات الشكل الفريد و الاستثنائي التي كادت تقوض أركان الدولة السلجوقية في القرن الخامس الهجري. الحسن الصباح، و اسمه فقط نذير شؤم، الذي خالط الوزير الأول للملكة و جالس الحكماء و ارتوى من منابع العلم و الفلسفة الباطنية في عصره، كان يعد نوعا خاصا من الأسلحة البشرية الفتاكة التي لم يعرف التاريخ لها سابق نظير: مريدون يجمعون بين الإيمان بالقضية الاسماعيلية و معاينة جزاء المستشهد في سبيلها معاينة مباشرة بواسطة الحشيش الذي كان يطعمهم إياه قبل أن ينزلهم جنة على الأرض في الجهة الأخرى من قلعته الشهيرة ” ألموت ” التي تعني عش النسر المنيع. كان المريد، و تحت تأثير المخدر يعيش ساعات ما قبل الفجر في جنة ألموت بين أواني الخمر و خصور النساء اللواتي اشترين و اعددن لهذا الغرض، معتقدا أنها الجنة الأخرى، الجنة التي وعد المؤمنون المستشهدون بدخولها دون سابق حساب. جرعة من الحشيش كانت كافية للانتقال إلى العالم الآخر و رؤية الجنة، الجرعة نفسها تكفي بعد إعداد المريد عقديا ليصبح سلاحا بشريا يسعى إلى الموت بنفسه طمعا في العودة إلى ” الجنة ” التي رآها بعينيه تحت تأثير الحشيش. سلاح بشري فتاك كان يؤمن بالقضية و يعرف المصير بعد الموت، يستهدف به الصباح في ثورته ضد السلاجقة كبار الرؤوس في الدولة. لهذا يرجع كثير من المؤرخين تسمية هذه الطائفة بالحشاشين نسبة إلى المادة المحركة للمريد الثائر، و هناك من يرجع التسمية إلى كلمة” أساسان” التي تعني القتلة والتي حورت فيما بعد إلى” حشاشين” و سميت الثورة ب ” ثورة الحشاشين”. كانت ثورة الحشاشين أنذاك ثورة من الداخل إلى الخارج موجهة بإحكام، تغيير نفسية و عقلية المريد (السلاح) لتوجيهه نحو التغيير الخارجي: الثورة على استبداد السلاجقة و السيطرة على الحكم من طرف الاسماعيليين لتحقيق الإمامة الشيعية التي كانت المبتغى. أما الحشاشون الجدد في زماننا فإنهم عكسوا اتجاه الثورة كليا، ثورة من الخارج ( الوضع المزري) نحو الداخل: نحو تدمير الذات و الانتقام منها مع تكريس الوضع و محاولة دفعها للتماهي مع الوضع و تقبله كما هو قسرا لا اختيارا. المادة نفسها (الحشيش) و المخدرات بصفة عامة عادت كأداة، لكن لبلوغ هدف معاكس تماما، الأوضاع نفسها ( الاستبداد) عادت لتكون الدافع، لكن لا إلى الثورة عليها لتجاوزها بل للثورة على الذات من أجل تقبلها. نوع من الغضب و السخط غير الموجهين في ظل الأوضاع المأزومة يدفعان الشاب إلى توجيههما نحو الذات، نحو الذات فقط دون إمكان وجود اختيار آخر. و في بعض الأحيان نحو الآخر، الذات الأخرى المشابهة و التي تعاني داخل الشروط نفسها المنتجة للأزمة و الخاضعة لها في نفس الوقت، دون تجاوزها إلى الثورة على الأوضاع و مصادرها المباشرة، و هو ما يمكن تفسيره بنوع من القصور و الضعف أحيانا و بنوع من التغاضي أحيانا رغم معرفة مصدر الشقاء، حالة سيكولوجية من انتاج القهر تتداخل فيها عوامل مباشرة و غير مباشرة و تستعصي عن الفهم و التفسير أحيانا. الحشيش هو الملاذ إذن للدخول في حالة من الثورة الداخلية على الذات عبر وهم النسيان أو عبر التفريغ المباشر و المتكرر مع الإدمان للكم الهائل من الضغط الذي تعيشه الذات و لا تقوى على مواجهته مباشرة، فتتخذ من تغييب العقل و الدخول فيما يشبه النشوة/ الغيبوبة المؤقتة قنطرة العبور إلى حالة اللاوعي حيث يعبر المكبوت عن نفسه بسهولة و بدون ” حرج ”. الهروب نحو اللاوعي وسيلة قديمة للتفريغ ( كما يقول فرويد ) و التنفيس عن الذات المأزومة، لكن مع حضور أفق التغيير لدى شباب اليوم تزداد المسألة خطورة و لا يقتصر الأمر على مجرد التفريغ/ التنفيس، بل يتجاوزه إلى نوع من الانتقام من الأوضاع عبر الذات لأن حالة ” التغييب ” بواسطة الحشيش لا تكون تامة و إنما يبقى جزء من الوعي يستطيع التعبير عن نفسه إلى جانب المكبوت الذي يعبر عن نفسه في اللاوعي النسبي في حالة النشوة. يكفي أن نلقي نظرة بسيطة على سلوك ” المحشش” ( المستهلك لمخدر الحشيش ) لنكتشف هذه المسألة، فهو يستهل عملية الدخول إلى النشوة بطقوس معبرة ( الانزواء عن العموم، اختيار زمرة معينة من الاصدقاء بالذات، الألفاظ المرافقة لعملية تهييء المخدر، طريقة التهييء البطيئة و المنظمة، طريقة الجلوس…) طقوس تضفي نوعا من القداسة على عملية ” التغييب/ التحشيش ” و تهييء الذات لهذا المنسك. و سلوكه أيضا أثناء المنسك و بعده ( الارتخاء و الاستسلام الكلي، نوع الألفاظ، نبرة الصوت، العدوانية تجاه أفراد معنيين، الكرم الكبير الذي يعتري المتعاطي، القوة و الجرأة على الفعل…) كلها سلوكيات تدل على امتزاج تعبيرات الوعي و اللاوعي جنبا إلى جنب، بين الحضور و الغياب، حضور الذات و الآخر، القوى الأفلاطونية/ الأرسطية الثلاث حاضرة و مستعدة للتعبير عن نفسها ( الشهوة، الغريزة، العقل ) و إن بنسب مختلفة. الاندفاع، الجرأة على الفعل، غياب حاجز الخوف، إدراك الزمان و المكان… كل شيء هنا سيجد تفريغا له فيما هو متاح هنا و موجود: ذات ” المحشش ” و أحيانا ذوات قريبة منه قد تكون متورطة معه في اللعبة أو ذوات يرى فيها عائقا بينن و بين حالة النشوة هاته ( الأهل غالبا ) و حالات الاعتداء الناتجة عن تعاطي المخدر تؤكد هذا الطرح: اعتداء على الذات أولا مع الفقدان الجزئي للإحساس بواسطة الأدوات الحادة أو النار… ثم الذوات القريبة ثانيا مثل الرفقة و الجيران و الأهل… حالة خطيرة من الثورة على الذات و الهروب من الواقع أصبحت تنتشر بسرعة البرق بين شباب اليوم نتيجة انسداد أفق التغيير في البلدان التي تحكمها البرجوازية العميلة ( الكومبرادورية ) و التابعة للرأسمالية الغربية، و هي واعية تمام الوعي بهذا الانتشار، بل و تيسر سبله عن طريق مافيات تابعة للأنظمة متخصصة في نشر المخدرات و ترويجها. و المسألة فيها ربح مزدوج لهذه الأنظمة: الاغتناء السريع للرؤوس المتخصصة في هذا المجال خصوصا مع إمكانيات تبييض الأموال و تهريبها دون مراقبة، ثم إلهاء مصدر الثورة و التغيير( الشباب ) و تغييبهم، بل أخطر من ذلك توجيه الثورة و الغضب نحو الذات قبل أن تنفجر نحو الخارج و التمرد على الأوضاع. إنها فعلا نوع من الثورة المقلوبة في عصرنا، تستطيع الأنظمة بواسطتها تمديد عمر الاستبداد و التحكم و ضمان بقائها لعقود أخرى، مستندة على عملية التغييب بواسطة هبة الطبيعة ( الحشيش ): إنها ثورة الحشاشين الجدد بعد مضي نحو تسعة قرون على ثورة الحشاشين القدامى، و التي كان لها ما بعدها. إنا منتظرون ما ستسفر عنه ثورة ” الحشاشين الجدد”