هل صحيح أنني عندما أكتب مقالا عن قريتي ''تاكلفت'' أو عن قبيلة ''آيت داود أوعلي'' أنظر من خلال منظار أسود فأرى كل ما في الوجود ظلاما دامسا؟؟ وهل صحيح كما يعيب علي البعض من أبناء قبيلتي أن مقالاتي بعيدة عن الواقع وأنها تتسم بنظرة الشؤم إلى الناس والأشياء وذلك بالرغم من إصراري عند الكتابة على طلائها بالمعاجين السكرية لكي يتسنى للقارئ أن يبتلعها كما يبتلع حبة الدواء دون أن يشعر بطعم المرارة أو يرى طيف التشاؤم أمام ناظريه؟؟ وبتعبير آخر، هل صحيح فعلا كما يظن البعض أنني لا أرى من قريتي وقبيلتي سوى الوجه الكالح المالح وأتغاضى عما تحتويه من حب وجمال وحسن وبهاء وطيبة وشهامة، فلا أتحدث إلا عن البشاعة والبغض والنفاق وتدهور الأخلاق وانحطاط المعاملات وغياب الثقة والصدق والشجاعة والرجولة والاعتراف بالجميل وذلك طبعا مقارنة مع عهد الأجداد. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يا ترى أتصرف بهذه الطريقة فأخلق مجانا لنفسي المتاعب ولشخصي طائفة من الأعداء الذين يضمرون لي الحقد والبغض والكراهية؟؟ !! أمام هذا الوضع، وبالرغم من اقتناعي التام أن ما أكتبه في مقالاتي صحيح إلى حد كبير وواقع معاش، قررت إيمانا مني بالديمقراطية وباحترام الرأي الآخر أن أنتقل من القنيطرة إلى قريتي لكي أعاين الأمور عن قرب وأبحث في الموضوع من جديد لتحيين المعلومات وتصحيح نظرتي إن كانت بالفعل خاطئة. في اليوم الموالي لوصولي وبينما أنا جالس في سطح منزلي أتأمل في الطبيعة وأفكر بالخصوص فيما عاتبني عليه البعض ولم أتمكن من تصديقه، إذا بشخص يطرق الباب ففتحته فإذا به عون من أعوان السلطة سلم لي بعد تحية باردة كغير المعتاد، استدعاء للمثول في الغد على الساعة التاسعة صباحا ولأول مرة في حياتي أمام المحكمة الابتدائية في الموضوع الذي عوتبت عليه وذلك طبقا لمواد مخالفات قضايا قضاء القرب. انصرف العون، فتمعنت في الاستدعاء فإذا بالمشتكي ''جماعة '' !! قلت في نفسي ماذا تعني هذه الكلمة هل جماعة من المواطنين أم الجماعة القروية؟؟ لكن لم أعر الأمر أهمية إذ اقتنعت أنه لن يكون إلا ممن يعملون جاهدين على تكميم الأفواه وتجفيف الأقلام الحرة وشنق كل من يسعى لإعلاء صوت الحق أو كل من سولت له نفسه التنديد بالمنكر أو الدفاع عن المظلومين...، بعد حين، التحق بي ابن أخي الذي أقلقه الخبر الذي انتشر كالبرق في القرية أكثر مما يقلقه وضع مستقبله المجهول إذ أنه مجاز في الإنجليزية منذ سنوات طوال ولازال كباقي إخوانه الشباب الحاملين للشواهد العليا الذين تبخرت أحلامهم، يئنون تحت وطأة البطالة ويموتون يوما بعد يوم ببطئ في زهرة عمرهم وفي صمت رهيب وسط أهاليهم في الجبال وهم ينتظرون اليوم الذي لن تشرق شمسه تلقائيا نظرا لانعدام الإرادة القوية والاستراتيجية الرشيدة الواضحة المعالم والتخطيط الهادف الذي يضمن العيش الكريم والشغل لكل خريجي الجامعات والمعاهد والمدارس العليا، وبالخصوص، نظرا لانعدام الإصلاح الجاد ولنهج سياسة أللامبالاة ولتطبيق الحكومات المتعاقبة بيمينها ويسارها وبعلمانييها وإسلامييها لإملاءات وتوصيات البنك الدولي التي تضرب في العمق مكاسب الطبقة الكادحة كحذف صندوق المقاصة ومجانية التعليم والصحة وما شابه ذلك ... وفي اليوم المعلوم وبعد تناول وجبة الفطور ، توجهت أنا وابن أخي مشيا على الأقدام إلى المحكمة وعند اقترابنا من الحي الإداري رأينا حشودا كبيرة من البشر أمام الوكالة البريدية والقيادة والجماعة القروية فبادر في أول وهلة إلى ذهننا أنه اعتصام من طرف الساكنة للتنديد بالتهميش الممنهج وبتردي الأوضاع في كثير من المجالات. لكن، عند وصولنا واستفسارنا في الموضوع، اتضح لنا مع الأسف عكس ذلك. بعد انتظار قليل أمام المحكمة التي لا تزال بنايتها على الحالة التي تركها عليها الفرنسيون في عهد الحماية، تمت المناداة علي من طرف رجل القوات المساعدة المكلف بالنظام والذي رافقني إلى قاعة الجلسات التي كانت مملوءة إلى آخرها بالحضور الغير المسبوق وهمس لي في أذني: كن حذرا، إن هؤلاء كلهم عازمون على أن يشهدوا ضدك لكي يغرقوك !! وعند مثولي أمام القاضي الذي ترأس الجلسة، تقدم ثلاثة من المحامين الذين وكلهم الطرف المشتكي لمؤازرته ووقفوا بجنبي ببذلتهم السوداء كالغربان لا يتكلمون الأمازيغية شأنهم شأن القضاة الذين تعينهم وزارة العدل والحريات في المناطق الجبلية دون أدنى مراعاة، في إطار دولة الحق والقانون، لعامل التواصل مما يعيق السير الجاد للجلسات ويجعل كثيرا من المواطنين عرضة للظلم الناتج عن الترجمة الخاطئة عن قصد أو غير قصد... بقي القاضي ينظر إلي باستمرار نظرة الحقد بوجه عبوس مما يوحي إلى أنه سيصدر حكما قاسيا ضدي. وفي الوقت الذي كنت أنتظر فيه بفارغ الصبر الإعلان عن الطرف المشتكي لأتعرف عليه، إذا بهتافات لمظاهرة تأتي من الخارج وهي تتعالى وتشق عنان السماء مما أثر سلبا على سير الجلسة فإذا بالناس بجوار المحكمة يصيحون ويرددون الشهادة كأنه الزلزال، وفجأة دخل رجل القوات المساعدة وقال لرئيس الجلسة، إن الأموات يا سيدي رجعوا من قبورهم منتفضين. حينئذ خرج الكل من القاعة وهم يتدافعون مذعورين. خرجت بدوري وراء الرئيس فإذا بالمنتفضين لابسين زيّا ذو بياض ناصع كالثلج بالقرب من الوكالة التجارية للمكتب الوطني للكهرباء التي كلف بناؤها ما يناهز 2.500.000,00 درهم وتعرضت للإهمال ولسرقة كل معداتها بالرغم من وجودها خلف السكن الوظيفي للقائد ولم تفتح قط أبوابها أمام الساكنة نظرا للسياسة الممنهجة مؤخرا لتفكيك المكتب وتفويت أنشطته المختلفة للخواص مما يعتبر حتما جريمة شنعاء في حق الوطن والمواطنين الذين سيكتوون أكثر مما مضى بنار الفواتير ... لقد كان هؤلاء الأموات ينطقون كلاما جميلا أثلج صدري وشجعني على الاقتراب أكثر فإذا بهم يقولون: لقد انتظرنا كثيرا لكي تقوموا إعوجاجكم وتنيروا زواياكم المظلمة بنور العلم والمعرفة لكن دون جدوى. ماذا فعلتم بدراستكم وبثقافتكم وبشواهدكم؟؟ لقد كنا نحن بالفعل أميين لكن واعين وغير جاهلين. كنا فقراء لكن قانعين رحماء بيننا ومحافظين على قيمنا وعاداتنا وشرفنا وكرامتنا ووحدة صفنا لا نباع ولا نشترى. أما في عهدكم، فقد فسدت الأخلاق إلى درجة لا تصدق وأصبحت الدنيا غابة تسرح فيها الذئاب وتمرح، يأكل قويها الضعيف والكبير فيها الصغير... واختلط حابلكم بنابلكم وقمحكم بشعيركم وجيدكم برديئكم. إن عصركم لم يعرف فيه لكلمة الشرف من احترام وللنزاهة تلك لمكانة المرموقة التي كانت لها في عهدنا. الخدمة العامة والإثرة والترفع صارت كلها كلمات جوفاء يتوسل بها الكثيرون منكم لكي يصلوا إلى ما يبغون من مجد وشهرة... فبقدر ما يكون المرء في عهدكم كاذبا مخادعا ومنافقا يوفق الحياة وينجح في الأعمال وتقبل عليه الدنيا بغير حساب ويعتبره الغير بالذكي وبالمتطور و''الحادك''... وبقدر ما يحسن أحدكم للآخرين بقدر ما يلاقي الجحود ونكران الجميل ورد الخير بالشر وعليه بالتالي أن يتقي شر من أحسن إليه !! لقد فسد عصركم إلى درجة صرت تخاف فيه أن تدير ظهرك حتى إلى أقرب المقربين إليك. فالنميمة صارت من الفضائل المستحبة والكذب والنفاق والكبرياء والخداع من شروط التمدن والحضارة !! إن جلود الكثيرين منكم تمسحت فلم يعد أصحابها يهتمون لما يقال منهم من كلام مهين ولما ترمي بهم من تهم صادقة... أجل، لقد عم الفساد وتطورت الأخلاق نحو الأسوء والأبشع وتقلصت كثيرا في وقتكم تلك الصفات الحميدة والمعاملات الإنسانية الحسنة التي تميزنا بها واشتهرت بها قبيلتنا وطالما باهينا بها الناس في عصرنا... لقد طغت العقلية المادية عند الكثير منكم وغلبت على الجانب الإنساني والأخوي وأصبح العديد منكم يحجرون حقولهم الغير المحروثة ويمنعون من الرعي فيها قطيع من لا يملك ولو قطعة أرض كما أن الكثير منكم يبيح لنفسه بيع الحشيش واللبن والتين وهو ما كان في عهدنا من العيب والعار. وإن العديد منكم يحرم أخواته من الإرث ضدا على مضامين ديننا الحنيف وربما أنه بهذه التصرفات أصبحت السماء لا تمطر كالسابق فتوالت عليكم سنوات الجفاف. لقد أعطيتم أنتم والسلطات المحلية بالظهر لمنتجي ''الماحيا'' وغظيتم الطرف على مروجي المخذرات الذين يفسدون الأخلاق ويسببون في انحراف الناشئة ويخربون بالتالي المجتمع. وبالمناسبة، إن أقام أحدكم حفلة عرس أو مأدبة ودعا إليها الأحباب والأصدقاء وتكلف من الجهد والمال الشيء الكثير فما أن يأمن مدعووه أن باب منزله قد أغلق وراءهم حتى يبدءون بالنقد والتجريح والتنكيت عليه والطعام لم تهضمه معدهم بعد. والغريب في الأمر أنه في الآونة الأخيرة، ما أن يبدأ الحيدوس أو الوقع على الأوتار والكمان والدفوف من طرف المجموعات التي يبدأ في بعض الأحيان التراشق بالكراسي وبالحجارة فينقلب الفرح إلى القرح... وفجأة ظهر الرؤساء الجماعيون الميتون ونزلوا على نظرائهم الأحياء بوابل من اللوم والتوبيخ وعاتبوهم على الإنتهازية والبلطجة السياسية التي حلت محل التنافس الشريف وعلى أنشطتهم الضعيفة التي لا ترقى إلى طموحات المواطنين وعلى التدبير العشوائي للشأن المحلي وخاصة على المحسوبية والزبونية المستشرية والواضحة وضوح الشمس وسط النهار ذكروا منها على وجه الخصوص، تبليط الأزقة وتثبيت مصابيح الإنارة العمومية وتفويت إنجاز الأشغال المختلفة لمقاولين دون غيرهم. كما عاتبوهم على المهرجانات التي تقام سنويا ويهدر فيها المال العام دون أن تستفيد منها المنطقة أي شيء وقالوا لهم حبذا لو كنتم تقيمونها جماعة في ''تينكارف'' بتنسيق بين المجالس الجماعية الأربعة كما كان الشأن في عهدنا حيث عرفنا آنذاك بالمنطقة سياحيا وثقافيا... وأضافوا قائلين، لقد شتتم الصفوف بصراعاتكم السياسوية الهدامة وانزويتم في الفخ المخزني وبقيتم تتنافرون وتتقاتلون وتضيعون كجل المواطنين الوقت الثمين في المقاهي للمناقشة اليومية على طول السنة للمشاكل الانتخابية عوض المناقشة الجادة لإيجاد الحلول الملائمة للمشاكل التي تتخبط فيها الساكنة من جراء ما طالها من التهميش ومن الحرمان من أبسط الحقوق المشروعة في ربوع المغرب العميق المنسي. لقد بقيتم في وضعية المتفرج من بعيد ولم تحركوا ساكنا للتنديد بالمساطر الجائرة المتعلقة بالبناء والتي عممت دون التمييز بين المدن الكبيرة والقرى الفقيرة. إنها شلت الآن حركة البناء في ''تاكلفت'' وبالتالي الحركة الاقتصادية للمواطنين. إن الواجب يفرض على المجالس الجماعية الأربعة أن تقدم استقالة جماعية لاستنكار الظلم الذي طال الساكنة من جراء هذه المساطر وذلك لوضع السلطات أمام أمر الواقع للتراجع عن قراراتها... ولم يفتهم التطرق إلى الانتخابات البرلمانية وقالوا بأنها أزالت القناع وأظهرت وجه الخيانة لبعض الرؤساء والمستشارين الذين يتاجرون في أصوات البشر ويعتبرونهم كالبقر ليسوقوهم إلى مراعي المرشحين الغرباء عن المنطقة لإشفاء غليل الانتقام المجاني من مرشحي القبيلة شأنهم شأن ذلك الإطار التي لم يرشحها الحزب كما تدعيه لتغليط المواطنين والتي سخرها صاحب الشكارة المرشح الغريب عن القبيلة لتلعب دور الأرنب في السباق. وهكذا خانوا الثقة وطعنوا القبيلة دون مراعاة للخزي ولوصمة العار وللعواقب السلبية لتصرفاتهم أللامسؤولة التي ستنعكس على مستقبل القبيلة !! لكن، ألم يقل المثل السائد عند آيت سخمان في هذا المضمار: '' إن الجمرة رغم احمرارها وحرارتها لا تلد إلا الرماد الذي يتطاير بأتفه الرياح ويعمي عيون المقربين''. بعد حين، سمع صفير مزعج ومدوي صم الآذان رافقه برق أزرق كضوء اللحام غمض على إثره الأحياء عيونهم وعند فتحها، إذا بالأموات ابتلعتهم الأرض من جديد ولم يظهر لهم أثر. بقي الأحياء مذعورين يتحدثون عما وقع تحت الظلال الوارفة لأشجار الزيتون. ومخافة أن تنتقل عدوى الانتفاضة من الأموات إلى الأحياء، تدخل القائد وخليفته ورجال الدرك ففرقوا الجمع آمرين المواطنين بالرجوع إلى منازلهم والموظفين إلى مكاتبهم. على إثر هذه الأوامر، رجعت إلى قاعة الجلسات التي استأنفت نشاطها وأنا مرتاح البال لما سمعته من كلام جميل صادر من ضمائر حية في أجساد ميتة !! وقف رئيس الجلسة وقال لقد استمعت إلى شهادة الأموات والآن سأستمع إلى شهادة الأحياء ثم سلم لائحة لأحد معاونيه لكي ينادي على الشهود واحدا تلو الآخر. وبينما وقف الشاهد الأول بجنبي ورفع يده اليمنى وأدى اليمين المغلظة على أن لا يقول إلا الحق، إذا بصوت عذب ينادي من الخلف ويقول: دَادَّا، دَادَّا، فالتفتت كما التفت الجميع فإذا هي حفيدتي العزيزة ''إفسان'' التي أيقظتني من نوم عميق ومنعتني بذلك من الاستماع إلى شهادة الأحياء... ترى ماذا كانوا سيقولون؟؟؟ بقلم : علي وحما ن دوار آيت حما د تاكلفت عمالة أزيلال.