ليست السينما نوعا من الوجاهة الاجتماعية، تخص فقط نخبا بعينها دون غيرها كما يعتقد الكثيرون، فهي فن جماهيري عريق، وذات رسالة تثقيفية تجعل المجتمعات أكثر انفتاحا على قضاياها الاجتماعية والسياسية، تستهدف سائر أفراد المجتمع من مختلف الأعمار والجنس والمستوى التعليمي. تسهم بفعالية في التكوين التربوي والثقافي والتأسيس المعرفي، وتشكل فضاء للترفيه ونشر الوعي... متى ما توفرت لها قاعات عروض مجهزة جيدا ومريحة. وتعرف السينما بالفن السابع لدى المهتمين بالشأن الثقافي والفني، لاعتمادها على الصورة والصوت في إيصال رسائلها المباشرة والمتنوعة. تأخذ المشاهد إلى ما خلف الشاشة من عوالم سحرية بديعة، مانحة إياه القدرة على تذوق لذة الحياة وإدراك حقائق ما يجري حوله من أحداث على أرض الواقع. والسينما في الحياة العامة، لا تقل شأنا عن المسرح والفيديو والتلفزيون والوسائط المتعددة، فهي كذلك أداة للانفتاح على الثقافات الأخرى ووسيلة حضارية للتنوير التربوي والفكري والتوجيه والترفيه والدعاية... ولها أهداف اجتماعية ودينية وسياسية، تساهم في تشكيل الوعي وبناء قيم المجتمع وتقاليده، وتساعد المتفرج على تجويد نمط حياته والتمييز بين الأشياء. وتجسد الأفلام جسورا للاتصال والتواصل بين الشعوب، متجاوزة حواجز اللغة عبر الترجمة، واستخدام تقنيات الصورة المتحركة كطريقة حديثة للتعبير والتأثير، لما لها من وقع يجعلها تتفوق على الكلمة المسموعة أو المقروءة، ويقول مثل صيني: "صورة واحدة تعادل 10 آلاف كلمة". وبإمكان السينما إذا ما هيئت لها الإمكانات والشروط الضرورية أن تحدث تغييرا إيجابيا في المجتمع، عبر أفلام هادفة تعتمد على الإبداع الفني النقي، في تحسين صورة المرأة والنهوض بمستوى الأفراد والمجتمع نحو الأفضل. والسينما سلاح ذو حدين، فكما أنها تقدم أفلاما ذات جودة عالية، هناك أيضا أخرى سيئة وفاسدة، قد تسهم في هبوط الذوق وتسطيح العقل وإفساد الأخلاق وزرع بذور الكراهية والعنف بمختلف ألوانه... وبالمناسبة، لا يمكن إغفال الدور الريادي، الذي لعبته الأندية السينمائية في التربية والثقافة والفن والسياسة، بالمدارس والجامعات والمراكز الثقافية ودور الشباب والقاعات السينمائية، إن على مستوى انتقاء الأفلام وعرضها على الجمهور للنقاش، ساعدت الكثيرين على تطوير مستوياتهم وتعميق أفكارهم، وأكسبتهم القدرة على التحليل ودقة الملاحظة وحسن التعبير، أو على مستوى التعريف بالمنتوج السينمائي الوطني. وبفضل ما بذلته من جهود وتضحيات، كانت تستقطب الجمهور وتنعش "صالات" العرض السينمائي، من خلال تكريس فن الفرجة الراقية، وتعزيز الثقافة السينمائية والحس النقدي، لتتحول القاعات إلى فضاءات للتفاعل التربوي والثقافي والتواصل الاجتماعي... بيد أنه لدواعي خاصة، وحدهم القائمون على الشأن العام يدركون أبعادها، أعلنت حرب خفية على كل مصادر نشر الوعي في الفضاءات التعليمية والساحات الثقافية، أدت إلى خلق جيل جديد من الشباب الهجين، وتحويل مناهل العلم والمعرفة إلى مستنقعات للانحراف وتعاطي المخدرات، والإجهاز على القيم النبيلة في المجتمع، ما قادنا اليوم إلى هذا الكم الهائل من الجرائم والاعتداءات وانتشار الشغب في الملاعب الرياضية... وبالموازاة مع ذلك، اتجهت فئات عريضة من المجتمع إلى قنوات فضائية "دينية"، وازدهرت تجارة كتيبات وأشرطة تتضمن "فتاوى" غريبة، تسعى إلى تعطيل العقل وتكميم الأفواه... وهكذا، تراجع الإقبال الجماهيري على القاعات السينمائية، ورافقه تقلص مهول في أعدادها، إلى حد أمسى بعضها لا يفتح أبوابه إلا خلال المهرجانات السينمائية على قلتها، بل هناك من اضطر أصحابها تحت الإغراءات المالية وفي ظل المضاربات العقارية، إلى تحويلها لمحلات تجارية أو عمارات سكنية. ويعزو الكثيرون من متتبعي الشأن الثقافي بشكل عام والسينمائي بوجه خاص، مصدر هذا "الاغتيال" المباغت إلى عوامل شتى منها: الإهمال المفرط وانعدام الصيانة والمراقبة، حيث تحول جزء منها إلى أوكار للرذيلة، ارتفاع كلفة التذاكر أمام ضعف القدرة الشرائية للمواطن، فضلا عن ظهور قنوات خارجية تبث أفلاما متنوعة، وما عرفته وسائل الاتصال من تطور تكنولوجي وتفشي ظاهرة القرصنة. ودخول التلفيزيون المغربي عبر قناتيه الأولى والثانية تجربة إنتاج أفلام وطنية، تعد أجود بكثير من أفلام الخردة الأجنبية، التي تعرضها العديد من القاعات السينمائية... ما أصاب المشاهدين بنوع من التخمة، وجعلهم يبحثون عن فرجة مجانية دون تنقل وبأقل تكلفة، مما أضعف مداخيل قاعات العرض، وساهم في فقدان إشعاعها الفني والثقافي، وأضر كثيرا بالاقتصاد الوطني. ومن أغرب المفارقات، أنه في الوقت الذي تتطور فيه الصناعة السينمائية ببلادنا، جراء ما تقوم به الدولة من دعم للقطاع، لم نجدها تتجه بنفس الخطوات نحو تشجيع الاستثمار، كما لم يعمل المستثمرون أنفسهم على تطوير القاعات السينمائية، بما يلزم من مرافق تكميلية: مطاعم، قاعات ألعاب... إن انصراف الجمهور عن السينما، وما تولد عنه من إحباط كبير في أوساط الفاعلين السينمائيين، يستلزم من وزارتي الاتصال والسكنى والمقاولات السينمائية بشراكة مع الجماعات المحلية، تكثيف الجهود لوضع استراتيجية متكاملة ومندمجة، كفيلة بخلق تنمية ثقافية سينمائية تلامس أهم القضايا الوطنية، وتحترم التعدد الثقافي واللغوي في أفق تكريس الوعي بسينما قوية وفاعلة في التنمية الاجتماعية، بالسهر على محاربة ظاهرة القرصنة، إحداث سينما القرب بالأحياء السكنية والمراكز الثقافية ودور الشباب، الإسهام في إحياء الأندية السينمائية ودعمها ماديا، عصرنة قاعات العرض السينمائي ومساندة أصحابها... اسماعيل الحلوتي