لا يختلف اثنان في الدور المحوري للسينما في التنمية الثقافية، والفكرية، والتربوية. ونتيجة للتطور السياسي والاقتصادي الذي توج بما يسمى "العولمة" بآلياتها التكنولوجية المتطورة، وأمام الخطاب الليبرالي الذي يرمي إلى خلق ما يسمى بالإنسان العالمي (L'homme universel)، تبقى السينما آلية ناجعة للتعبير عن الذات المجتمعية بكل معطياتها وإشكالاتها، وتطوير الثقافات المحلية وتقوية الخيال الجماعي. لقد اخترنا التطرق إلى هذه الإشكالية لأن الوثيرة التي تميز المتغيرات في القرن الواحد والعشرين لا تسمح بضياع المزيد من الوقت. نحن نعيش في "عصر الصورة"، والصورة ليست الآن "بألف كلمة" كما يقول المثل الصيني، بل بملايين الكلمات. لقد فرض زمن التحولات التي عرفتها الثقافة بشكل عام من ثقافة الحداثة إلى ثقافة ما بعد الحداثة، التصوير الرقمي كنوع من التكيف السريع مع المشروعات المتنوعة لحقبة ما بعد الحداثة. أكثر من ذلك، هناك إستراتيجية عالمية لجعل الصورة هي المهيمنة والواقع في خلفيتها (زمن الصور اللامتناهية، والصور المتخيلة والمحلقة والوهمية،...). إنها، بدون أدنى شك، إرادة ليبرالية لفرض عالم ما بعد الواقع، عالم الفضاء التكنولوجي والواقع الافتراضي والفضاء اللانهائي الذي يتحكم فيه الحاسوب، والشبكة العنكبوتية، والأقمار الاصطناعية، والهواتف النقالة،...الخ. إنها إرادة إيديولوجية لترسيخ ثقافة غربية للإنسان العالمي تتداخل فيها ثقافة البوب، وثقافة الراب، وثقافة الفيديو كليب والموضة، والترفيه المعلوماتي، والتصوير الرقمي، وحروب التلفزيون، وإدمان الصور، وسيطرة العنف عن المشاهدة، والخوف من المعرفة، وتكريس ثقافة المظهر والشكل والإبهار واللمعان والاستعراض والمهرجان على حساب ثقافة الجوهر والمضمون والقيمة والعمق. ومن خلال تتبعي لمختلف النقاشات والندوات في المجال السينمائي في العامين الأخيرين، تم الوقوف على ملاحظة أساسية وتتعلق بإشكالية تقابل متناقضين: القفزة النوعية التي عرفها المنتوج السينمائي وظاهرة العزوف عن القاعات السينمائية. كما تبين أن هذه الإشكالية جد معقدة لكونها مرتبطة بالتحولات المجتمعية الوطنية والقطرية والدولية. وعليه، تجدني غير ميال لتغليب كافة المقاربات السوسيولوجية وعلم النفس السوسيولوجي في تحليل هذه الظاهرة، بل أرى من الضروري استحضار المقاربة السوسيوسياسية كذلك. هذا لكون التغير النفسي المجتمعي والفردي وعلاقته بالعزوف عن الذهاب إلى القاعات السينمائية لا يمكن تحليلها بعمق إلا باعتماد مقاربة التحليل "السيستيمي" (Approche systémique) والتي يجب أن تستحضر إضافة إلى المقاربتين السوسيولوجية وعلم النفس السوسيولوجي، المقاربة السوسيوسياسية (تعامل المنطق السياسي مع المكون (السينما/المجتمع)). وبهذا المنظور الذي أعتبره شاملا، ستفتح آفاقا جديدة للتحليل، والتي بإمكانها أن تشخص الوضع بعمق وتقترح الحلول الملائمة والقابلة للتفعيل. وفي هذا السياق، أعتقد كذلك أن هذا المنظور سيساهم كثيرا في تطوير آليات ومجالات النقد السينمائي لتتجاوز المادة الفيلمية لتهم اللعبة السينمائية في شمولياتها من خلال مساءلة عقليات ومنطق الفاعلين بما في ذلك المؤسسات الرسمية والفاعلين السينمائيين بمختلف تخصصاتهم ومنظمات المجتمع المدني ذات الأهداف المرتبطة بالسينما كآلية للإسهام في تنمية المجتمع وتطويره وتحديثه. واعتبارا لما سبق، فضلت تقسيم هذا المقال إلى محورين يتعلق الأول بتشخيص واقع السينما وإشكالية العزوف على القاعات السينمائية، والثاني بتقديم بعض الاقتراحات على شكل حلول التي صرح بها بعض الفاعلين وإغنائها. تشخيص الواقع السينمائي وإشكالية العزوف عن القاعات ما أثار انتباهي في المجال السينمائي في السنين الأخيرة هو الوعي بالحاجة إلى تأهيل قطاع الإنتاج السمعي البصري والسينمائي الوطني والنهوض به من خلال تقوية العلاقة ما بين الإنتاج والبث والتوزيع، وقضايا الموارد البشرية المتدخلة في عملية الإبداع، وكذا القضايا المتعلقة بتمويل ودعم القطاع على المستويين الخاص والعام تحت إكراه تمكين القطاع من إيصال الرسائل الضرورية إلى المجتمع عبر الصورة ومن تم تعميم النقاش في هذه الرسائل مجتمعيا. وإذ نعتبر الاعتراف بالتراجعات والأزمة التي عرفتها وتعرفها السينما المغربية أمرا جد إيجابي، نعترف بالمقابل بالمجهودات المبذولة التي سخرت للنهوض بهذا القطاع في السنين الأخيرة. إنها حركية لافتة ليس فقط على مستوى تراكم المنتوج بل حتى على مستوى مجمل العناصر التقنية والفنية: ارتفاع نسبة إنتاج الأفلام إلى 15 فيلما سنة 2009، ارتفاع عدد المهرجانات والملتقيات السينمائية المنظمة سنويا، ارتفاع نسبة تنظيم الندوات والأيام الدراسية في هذا المجال،.... لكن بمقابل هذا المجهود تم الوقوف على ظاهرة إغلاق القاعات وتحويل العديد منها إلى مشاريع تجارية أو خدماتية في قطاعات أخرى. فأحد مقالات محمد بهجاجي أكدت أن المغرب لا يتوفر اليوم إلا على 50 قاعة، أي ثلث العدد الذي كان به سنة 1995. فالدارالبيضاء بأحلامها ومشاكلها لا تحتضن إلا 12 قاعة، مراكش سبعة قاعات، أكادير وتطوان وسلا وطنجة قاعتان، وقاعة واحدة كل من سطات والعرائش وتزنيت،...الخ. إضافة إلى تزايد حدة الإغلاق، تم تسجيل كملاحظة عامة ضعف توفر الشروط التقنية والصحية الدنيا. وأمام هذا التراجع الواضح، أعتقد أن مسبباته لا تتعلق فقط بالأسباب الظاهرية كالقرصنة، والأقراص المضغوطة، والقنوات الفضائية، والانترنيت، ورداءة القاعات،...، بل نميل إلى ترجيع الأسباب العميقة والتي تتعلق بضعف المنظور الإستراتيجي في السياسات الحكومية في مجال السمعي والبصري والسينمائي والثقافي بصفة عامة. كما نعتبر كون هذا الضعف هو السبب الرئيسي في غياب التنسيق بين القطاعات الحكومية وغير الحكومية، وبالتالي عدم توفر البلاد على مخطط استراتيجي مندمج في هذا المجال. إضافة إلى ذلك، نرى أن هناك مسببات أخرى، والتي يمكن أن تشكل محاورا لكل إرادة لبلورة مخطط استراتيجي للنهوض بالسينما كآلية لدعم المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي بالبلاد، وسنقتصر على ذكر البعض منها: * غياب الدرس السينمائي في المنظومة التعليمية. * غياب مشروع ثقافي فاعل يضع الثقافة السينمائية أولوية تضاهي التربية والتعليم. ونعني بذلك، ترسيخ الحاجة عند المواطن بشكل متوازن إلى الذهاب إلى السينما، وممارسة الرياضة، ومتابعة الدراسة، والقراءة، والتنزه، والاستفادة من الانترنيت،...إلخ. * عدم نهج سياسة القرب "تقريب السينما من المواطنين" كما هو الشأن في إعلان "تقريب الإدارة من المواطنين". وهذا الأمر يتطلب نهج سياسة تشاركية مع المؤسسات التمثيلية والإدارية المحلية والإقليمية والجهوية والوطنية. فأغلب قاعات السينما في المدن الكبرى توجد في مراكزها وتتطلب مصاريف إضافية للوصول إليها (النقل، الأكل، الجهد النفسي،...) * غياب هاجس تدبير الوقت في التربية والتأطير وطغيان العلاقات المتوترة مع الزمن وتدبيره حيث يغلب على الشباب وحتى الكبار شعور بالحاجة إلى الانفجار بدون مجهود مسبق بما في ذلك نزعات وهواجس الإبحار في الانترنيت إلى حد تحولت إلى إدمان ومبالغة في ممارسة الألعاب الإلكترونية، ومشاهدة مباريات كرة القدم خصوصا البارصا والريال، والإفراط في الاستماع لأغاني الفيديو كليب،...إلخ. * ارتفاع نسبة الفقر والبطالة وغلاء ثمن التذكرة مقابل ثمن الأقراص المقرصنة. هم غالبية الشعب هو المقاومة من أجل العيش وتغيب عن ذهنه أية فكرة عما يسمى ميزانية الأنشطة الثقافية والترفيهية من أجل انخراط الأطفال والشباب في الأندية الرياضية، والمسارح، ودور نشر الكتب، والقاعات السينمائية. وفي هذا الباب يبقى الاهتمام بالمجال الثقافي في المجتمع رهينا بتحقيق التنمية الاجتماعية كآلية لدفع المواطنين بالشعور ب"الكرامة"، كرامة يحسون من خلالها بنوع من العدالة وتساوي الفرص. * عدم استثمار أرباب القاعات في الإشهار وعدم توفرهم على إستراتيجية للتواصل مع الجمهور. أقول هذا لأنني أتذكر مكانة السينما في حياة المواطنين، مكانة لعب فيها أرباب القاعات دورا إشهارا وتواصليا مستمرا وظف فيه الموروث الثقافي الشعبي للتواصل مع عامة الجمهور من أجل استقطابه. فالمتعاونون لم يكونوا أناسا عاديين بل كانوا يتقنون الحكي وإثارة الفضول والرغبة في المشاهدة (السيدان "بزيغيلة" وعلي في سينما ريكس بمدينة سيدي سليمان كنموذج مرتبط بالسينما محليا). في العديد من نقط المدينة التي تعرف حركة نشيطة للسكان، تجدهم يستعينون بالملصقات والعربات المجرورة لاستقطاب الجمهور وتحبيبه للسينما. الحلول المقترحة للإقبال على السينما عبر القاعات في هذا المحور عثرت على استجوابين صحفيين أثارا انتباهي، الأول قامت به جريدة الإتحاد الاشتراكي مع مدير المركز السينمائي المغربي بتاريخ 28 يناير 2010، والثاني قامت به مجلة تيل كيل مع سعد الشريبي في العدد 13-19 فبراير 2010. وفي هذا الصدد، اقترح الصايل ما يلي: * استرجاع كل القاعات الصغيرة بالمدن، وذلك من خلال إشراك المجالس البلدية والجماعات والمقاطعات الحضرية في عملية الإصلاح. * العمل على تحويل القاعات السينمائية الكبرى إلى مجموعة من القاعات (بحمولة 150 مقعدا)، على أن تتم هذه العملية بمساعدة الدولة، وذلك على شكل تسبيق شبيه بعملية تسبيق على الإنتاج. * خلق مركبات سينمائية على شكل ما هو متواجد بكل من الدارالبيضاءومراكش. * إنشاء صندوق وطني للاستثمار في هذا المجال. أما سعد الشرايبي، فقد تعرض لمجوعة من الحلول نذكر منها: * تجهيز المركبات الثقافية المتواجدة بالبلاد بآليات العرض السينمائي بغلاف مالي يساوي 35 مليون درهم لعرض الأفلام المغربية في إطار الشراكة بين وزارة الاتصال من جهة ووزارة الثقافة والمجالس المنتخبة من جهة أخرى. * اقتطاع مبلغ عشرة ملايين درهم سنويا من الغلاف المالي المخصص لدعم الإنتاج السينمائي وتخصيصه لتجديد خمس قاعات سنويا. * استئناف البرنامج المسطر سنة 2002 من طرف وزارة الشبيبة والرياضة، المتوقف سنة 2005، القاضي بتجهيز دور الشباب بآليات العرض غير المكلفة لتعميم المشاهدة عن طريق الأقراص المدمجة. * توقيع اتفاقية شراكة بين وزارة الاتصال ووزارة السكنى تدرج ضرورة بناء قاعة متعددة الاختصاصات ضمن دفتر التحملات المتعلق بكل ترخيص لبناء المركبات السكنية التي يتعدى سكانها ألف نسمة. * إقرار ضريبة 5 دراهم على كل قرص مدمج مستورد (30 مليون قرص سنويا) حيث سيوفر هذا الإجراء في حالة تفعيله ما يناهز 150 مليون درهم سنويا. * تشجيع الخواص على الاستثمار في هذا المجال. * دراسة إمكانية انخراط المؤسسات الاقتصادية الكبرى في بناء قاعات خاصة مثلما تتوفر على ذلك بعض المؤسسات الكبرى كالمركز الشريف للفوسفاط وبعض المراكز الثقافية الأجنبية. * تشجيع ودعم الأندية السينمائية في دور الشباب والمؤسسات التعليمية. وفي الختام، نقول ان النهوض بالقطاع السينمائي بالمغرب يبقى إلى حد بعيد مرهون بالإرادة المؤسساتية لتحقيق التقائية بين القطاعات الحكومية ومختلف المؤسسات الإدارية والتمثيلية، والفاعلين، والمهنيين السينمائيين، التقائية ينبثق منها مشروع استراتيجي مندمج تشارك في بلورته كل من وزارة الاتصال، والمركز السينمائي المغربي، ووزارة الثقافة، ووزارة الأسرة والتربية، ووزارة التعليم، ووزارة الشباب والرياضة، ووزارة السكنى والتعمير والتمنية المجالية، ووزارة التنمية الاجتماعية، ووكالة التنمية الاجتماعية، ووزارة الداخلية (المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، العمالات والأقاليم، الجهات، المقاطعات، الجماعات المحلية،...). وعندما نتكلم عن الالتقائية، نعني بذلك إسهام كل المكونات المجتمعية المعنية بالمعركة في مواجهة منطق اللوبيات المصلحية بما في ذلك المهنيين السينمائيين، ورجال الإعلام، والإعلاميين، والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، ومنظمات المجتمع المدني،...إلخ. وبخصوص تحديد محاور هذا المشروع، فإني أعتقد من الضروري أن يستحضر أولا الإرث الثقيل (التراجع والعجز ووجود قطيعة بين السينما وفئة عريضة من الشعب المغربي) من خلال الاستثمار في التحسيس بالسينما، وفي التربية على الصورة انطلاقا من الأسرة ومروا بالمدرسة، والإعدادية، والثانوية، والجامعة، ودور الشباب، ودور الثقافة، ومراكز التكوين والتأهيل،....)، ثانيا استغلال هذا التحسيس والتربية في تحقيق رواج للفيلم كمنتوج صناعي وتوسيع آفاق الاستثمار فيه وترويجه وتحقيق الربح من خلاله، ثم أخيرا إحياء البحث في التراث وفي الهوية بكل إشكالاتهما وتأثيراتهما على التغير الاجتماعي باستحضار رهانات الحاضر والمستقبل. إن الطابع الإستعجالي لجعل قطاع السمعي البصري والسينما في خدمة المجتمع من خلال تسريع وثيرة تحديث ثراته وهويته، كان دافعا أساسيا لاختيارنا لهذا الموضوع. فما قمنا به من وصف وتفسير وتحليل لدور الصورة بصفة عامة والسينما بصفة خاصة في التربية والتعليم والإعلام والتسويق والألعاب الرياضية والاتصال والفنون ما هو إلا وعيا منا بضرورة الاستعجال في تطوير آليات التواصل مع الجمهور ليكون طرفا واعيا في معركة الاندماج والتنمية على المستويين الوطني والدولي، ومن تم الحيلولة دون الوقوع في مستنقع الصورة الجارف المضاد للإبداع والمكرس للتفاهة والتقليد الأعمى.