لم يدر بخلدي يوما أن أؤلف في مسألة العلمانية والديمقراطية والإسلام، لأن الموضوع أنهك بحثا، ولأن هناك كتابات كثيرة تشفي الغليل، لكن الذي حمسني على أن أقدم على هذا الأمر ندوة. نعم، كانت ندوة حاضر فيها الأستاذ أحمد عصيد بدمنات، وكانت بعد عصر السبت من واحد وثلاثين خلين من شهر ماي، سنة ألفين وأربعة عشر. وكان موضوعها: "العلمانية وحقوق الإنسان: بين الكوني والوطني". و لقد هالني ما سمعت من نسق حجاجي أقل ما يوصف به: أنه ضعيف الحجة قليل البرهان منعدم الحيلة. ولم يكتف الأستاذ بهذا، بل تعداه إلى اللمز والغمز ووصف الخصوم بالجهال، و اتهمهم بالتلفيق والتضليل واستغلال الدين لتحقيق أهداف شخصية. لقد كان أكثرَ كلام الأستاذ نتائجُ خاطئة لمقدمات صحيحة، ولقد أوغل في إفساد المنطق، حتى ظننت أنني ما كنت أسمع أحمد عصيد، الذي شغل الناس وملأ القنوات والصحف. ألهذه الدرجة قلَّ متاعك ونضب زادك وغار ماؤك فالتجأتَ إلى التضليل؟ وكي لا أفتري على الأستاذ كذبا ولا أتهمه بهتانا دون بينة، ها أنتم اقرؤوا منطق الأستاذ وتتبعوا حججه الضاحدة. و لا يغرنكم قولي هذا ومقدمتي هذه في تصديق قولي، بل حكموا عقولكم، فإنْ كذب مقالي فارموا به عرض الحائط، وإن صدق فلا يجرمنكم شقاقي أن تقبلوا الحق، فهو أحق أن يُتبع والله المستعان. يدعي الأستاذ في سؤال له أنه لا توجد دولة تحكم بالشريعة نستطيع أن نقدمها كمثال للتقدم، وتحدى الحاضرين في غطرسة عجيبة بأن يجيبوه. و لقد خلص الأستاذ الكريم من حجته الفاسدة هذه إلى ضرورة ترك الحكم بالدين، و أخذ الأحكام التنظيمية للناس من منتخبات عقولهم، فالأرضي يحكمه الأرضي، والغيبي يحكمه الغيبي، وهذه عين العلمانية. لذلك سألته أثناء مداخلتي: أي عصر تقصد؟ أتريد أمثلة من هذا العصر فقط لأن هذا سيخدم برهانك الفاسد؟ أم تريد أمثلة من تاريخ الإسلام كله؟ وهو ما لن يخدم البتة حجتك. و لأن الأستاذ لم ينتبه لفخي فقد أجاب بأنه يريد أمثلة من الحاضر، فوقع في الشَّرَك فاتضح الحق. وإن الناظر المدقق ليكتشف في سؤاله فسادا، وكي نجيبه نطرح أيضا السؤال التالي: هل هناك أصلا دولة إسلامية تحكم بالشريعة الإسلامية؟ فإن أجاب كما أجاب: السودان، قلت: أ في الشريعة الإسلامية قانون جنائي فقط، أم أنها قوانين شاملة للمجالات جميعها؟: فأرني دولة إسلامية واحدة في عصرنا تحكم بالشريعة الإسلامية كاملة؟ أرني دولة إسلامية واحدة تجمع الزكاة وتعطيها للفقراء، وتعطي الفقير ما يحتاجه، ويشعر فيها المرء بأنه يعيش في عدل يُمَكنه من مقاضاة من يشاء ولو كان رأس الدولة، أرني دولة إسلامية واحدة تحرم الربا ولا تتعامل به في مصارفها الوطنية أو في معاملاتها مع المصارف الدولية، أرني دولة إسلامية واحدة تطبق الشريعة الإسلامية في قانون البيوع والرهن والإيجار؛ وكلنا نعرف سلف الله والإحسان الذي نتحايل به على الشرع. ثم أرني دولة إسلامية واحدة تحكم الشريعة الإسلامية في العلاقات الدولية، بل أرني دولة إسلامية واحدة تطبق القانون الجنائي بحذافيره؛ هذا القانون الذي ما فتئتم - معشر العلمانيين - تُشَهرون به وتركبونه حصان طروادة تشويها للشريعة. أ ئذا اتضح كذبك وعدم قدرتك الإتيان بدولة واحدة تطبق الشريعة الإسلامية في كل ما سبق، فكيف تريد أن تقنعني بأن من الضروري ترك الشريعة لأن تطبيقها جرنا إلى الويلات التي نعيشها؟ أليس المنطق يقول: إن عدم تطبيقها هو الذي جرنا إلى هذا الظلم المحلي حيث التفقير والتهميش، والدولي حيث الاحتقار والاستضعاف من قوى العالم المتغطرسة؟ أليس هذا مدعاة إلى ضرورة العودة إلى تطبيقها لا تركِها؟ لا توجد دولة إسلامية واحدة تحكم بالشريعة الإسلامية الكاملة: لذلك لا حق لك في الاستدلال بهذا البناء الحجاجي، لأن ما تدعيه سببا في فساد وخراب الدول الإسلامية هو أصلا غير موجود. بل إن حججك تفضي كلها إلى عكس ما تريده، وتدعو كلها إلى نتيجة نقيضة لما توصل إليه عقلك المبدع، ألا وهي: ضرورة العودة للحكم بالشريعة الإسلامية. و اقرأ ابن خلدون في مقدمته، بلِ اقرأ فهرس مقدمته فقط، ثم أخبرني بعنوان واحد فيه: أن خراب الدول بتحكيم الشريعة. و في انتظار ذلك سأقرأ لك أيها الأستاذ الفاضل بعض العناوين من المقدمة، وانظر إن كانت تخدم ادعاءك أم تبطله: ( فهرس مقدمة ابن خلدون، ص 785)