يقترح علينا مارسيل غوشيه تسمية جديدة مخالفة لمفهوم العلمانية، تسمية أشد وضوحا من سابقتها. وهذا ليس مستغربا في ظل تنامي المد العلماني في فرنسا واتخاذها اختيارا رسميا من قبل الدولة والنظام والشعب الفرنسي. فغوشيه إذن لا يغرد خارج السرب، بل إنه يعزف بتماه وتكامل تام مع باقي أفراد الفريق الموسيقي الفرنسي. يقترح غوشيه مصطلح: " الخروج من الدين" كخصيصة لتيار الحداثة، وهو يراه بديلا أفضل من "العلمانية". ولقد ناقشنا كثيرا العلمانيين وقلنا لهم إن تطبيق العلمانية هو خروج عن الدين فلم يقتنعوا، فهلا اعتبرتم بكلام غوشيه؟ إن الخروج من الدين عند غوشيه ليس تخليا عن المعتقد الديني، إنه ليس أكثر من علامات إذا توافرت في الدولة سمي النظام علمانيا. فأنت كفرد يمكنك أن تحتفظ بمعتقدك، ولكن النظام لابد أن يكون علمانيا. وقد خلص غوشيه إلى هذا الاقتراح بعد أن رأى نتائج تطبيق العلمانية في الفضاء الأوربي، والذي كانت نتائجه مبهرة، وهي: " انهيار العبادات، والتراجع في الانتسابات (يقصد الانتماء للكنيسة ودفع مقابل مالي لها) ، تناقص الإرشادات الربانية، وقبل كل شيء ربما اضمحلال المؤسسات الدينية"(ص33). إن وضوح كلام غوشيه يغني عن أي كلام آخر، إنه بكل بساطة خروج عن الدين. هل هو خروج كلي من الدين؟ أم أنه خروج جزئي؟ سمه ما شئت، فمادام خروجا عنه فلا تهم التفاصيل. لكن هذا يجعلني أتساءل مرة أخرى: فإذا خرجنا فإلى أين المسير؟ لا تخافوا فإن غوشيه يقترح عليكم دينا جديدا يمكنكم أن تعيشوا من خلاله منعمين فرحين فرهين آمنين. يقول في الصفحة 38: " فالديانات العلمانية ليست مثل الديانات الأخرى، بل هي أديان لا تريد أن تكون مثل مثيلتها، ولا ينبغي لها ذلك". فمرحبا بكم عند القسيس غوشيه، الذي سيقوم بتعميدكم بماء الديانة الجديدة، بانيا مذبحا جديدا، ومبشرا بمخلص جديد...إنه الدين الجديد للعالم الجديد بإله جديد. إن الله عند غوشيه لا شأن له بما يدور في الأرض، ولا ينبغي له ذلك؛ إنه بهذا المعنى تجسيد لفلسفة موت الإله عند نيتشه. إن العلمانية قتلت الله كفكرة وإيمان وأنشأت لمريديها نظرية و إيمانا جديدين يتيحان للنفس البشرية العيش بحرية مطلقة، حرية لا تنغصها تعاليم الله الروحية والسياسية والاقتصادية. إن الإنسان عند نيتشه هو الله، فهو الذي يجب أن يضع لنفسه منظومة الأخلاق والقيم، فما يراه صالحا فهو صالح، وما يراه طالحا فهو طالح. وهو الذي يجب أن يضع لنفسه البنيات السياسية والتشريعات التي تُحكم بها المجتمعات. لقد أُعجِب غوشيه بكلام بورتاليس ( مفكر فرنسي عاش في القرن التاسع عشر) فاستدل به قائلا: " يقول بورتاليس: يجب ألا نخلط أبدا بين الدين والدولة: الدين هو اجتماع الإنسان مع الخالق، والدولة هي اجتماع البشر مع بعضهم بعضا. لكن البشر ليسوا بحاجة إلى وحي أو رؤى، ولا لدعم خارق كي يجتمعوا فيما بينهم. يكفيهم معاينة مصالحهم وأحاسيسهم وقوتهم، وعلاقاتهم المختلفة مع نظائرهم، إنهم ليسوا بحاجة إلا إلى أنفسهم".(ص84)