قضيت اليوم الأول بينهم دون أتجول في عوالمهم العجيبة، وأتأمل في وجوههم المشرقة التي تعكس اطمئنانا نفسيا وروحيا لا تخطئه النظر. أمشي وأنا مأخوذ بكل ما تلتقطه العين في ذهول. لم يخطر لي بالبال قط أن أدخل عالما بهذا الجمال والروعة، إنه يقترب إلى ما يشبه الكمال. وأنا أتجول بين في هذا الفضاء الذي اختار سكان الجبل أن يستوطنوه ويعمروه بعيدا عن غبار وتراب وعتمات الحفر لاحظت أن الهدوء والسكينة هما سيدا المكان والزمان، إنه هدوء بارد ومنعش كنسيم يفاجئك في صحراء ممتدة على حدود البصر وأنت الذي كنت ماشيا وحدك بلا حادي يقودك، تغالب الرمل وتداري الحصى وأشعة الشمس الحارقة بمنديل مثقوب، هدوء يرغمني على المشي بحذر وتؤدة رغم أن ليس هناك ما يدعوا لذلك، صوت حدائي المهتري والمرقع والذي أضفت إليه صفيحة صغيرة من حديد في كعبه حتى أحميه من التآكل يقلقني ويزعجني، ولا أشك أنه سيزعج سكان الجبل بصوته الذي يشبه وقع مطرقة على السندنان، لم يكن يحدث مثل هذا الصوت عندما كنت في الحفرة، كان صامتا منذ أن انتعلته، وها هو اليوم يفضحني، رفعت كعب الحداء ومشيت على مشطه حتى لا يحتك بالإسفلت، لطكن سرعان ما تعبت أصابع قدماي، وشعرت بالألم وقررت التخلص من الحذاء، نزعته ووضعت تحت إبطي ومضيت..لا أخفيكم سعادتي الغامرة عندما وطأن قدماي الحافيتين الأرض، فقد أحسست براحة افتقدتها منذ فترة طويلة، كنت سعيدا في حدائي البائس، ولكن لم أعلم حجم الأذى الذي كان يسببه لي... مضيت متوغلا في الأزقة والشوارع، أقرأ تفاصيل وجزئيات المكان، وأجهد فكري لفهم كل العلامات والرموز والإشارات التي تنبعث من كل زاوية من زوايا الأمكنة الذي أتسكع فيه..ما يزال بالي مشغولا بهذا الصمت الذي يهيمن ها هنا، وقلبي غير مطمئن، حاولت ان أتبين مصدر هذا القلق لكن دون جدوى، تساءلت عما يجري هنا، والأسرار التي يخبئه المكان، وخيل لي أني أدخل مدينة الأموات، لا حركة ولا ضجيج ولا صياح...الذي تعودت على في حفرتي...لا شيء من كل هذا، فقط أضواء خافتة تطل عليك من النوافذ المغلقة ونصف مفتوحة لإقامات ودور في غاية الأناقة والأبهة وعبير الأزهار والورود التي تفوح من حدائقها... استأنفت السير على أمل أن أجد شيئا ما تعودت على رؤيته في عالم حفرتي: * لا وجود لليل طويل وموحش حيث لا نور ولا إنارة ليحول الظلام إلى مكان آمن للحشاشين والمخمورين والمدمنين على المخدرات واللصوص ليتحول الظلام إلى مصيدة تنصب للعابرين والعابرات الذين تضطرهم ظروفهم للبقاء خارج البيت حتى وقت متأخر فيتعرضون للسرقة والاغتصاب والقتل، بل هنا نهار دائم ولا مكان للاختباء... * لا حداد محمحم متسخ يدق بمطرقته على الحديد وقد تراكم الفحم والرماد في كل مكان من الزقاق، وصوت المطرقة يصم أذني ويمنعني الراحة والنوم لأنه لا يكاد يفارق أذني واضطررت إلى العيش معه كأنه ولد معي. * لا وجود لأطفال متروكون لأنفسهم وبدون مراقبة يلعبون ويمرحون بعيدين عن اعين المراقبة فيتعلمون لغة وسلوكات منحطة، أو تراهم مشردين في الشوارع يمارسون الأعمال الشاقة لا يتحملها جسدهم الصغير، ولا أرواحهم الهشة، أو يتسولون في الشوارع والساحات العامة وحين ينزل الليل ينامون في المحطات أو على كراسي الحدائق العامة... * لا نساء متجمعات في الأزقة أو الشوارع أو أمام بيوتهن بلا شغل يتحدثن بصوت عال، أو يتخاصمن بصوت مرتفع ويتبادلن كلاما بديئا. أو في أحسن الأحوال يضعن أطفالهن بين أرجلهن ويبحثن في رؤوسهم عن قملة يستمتعن بصوتها وهي تقتل بين أظفارهن، أو يمضغن الحُمّص في أفواههن وبعد أن يصبح عجينا يُلقمنها أفواه أطفالهن * لا كهول أو شيوخ في أرذل العمر يمدون أياديهم طلبا للصدقة أو العون عن زمن أكلهم ولم يمنحهم غير الألم أو يقضون ما تبقى لهم من العمر أما الدكاكين يشغلون أنفسهم بلعب الورق أو ما شابه ويعيدون ويكررون فتوحاتهم عندما كانوا شبابا. أو يقضون سحابة يومهم من الفجر حتى العشاء أمام المساجد لا يغادرون إلا عندما يلسعهم الجوع، ثم إني بحث عن مسجد في هذا الفضاء الهادئ فلم أعثر له عن أثر وكأن سكان الجبل لا وقت لديهم ليداوموا عليه من الفجر إلى العشاء. *لا وجود لباعة متجولين يجرون عرباتهم المحملة بخضر وفواكه وأطعمة وقد علاها الغبار، وتراقص فوقها الذباب، وعبثت بها أشعة الشمس وأيادي الزبائن لتتلفها وتغير لونها وطعمها ورائحتها، أو يعرضون بضائعهم على الأرصفة ويحتلون الأزقة والشوارع، ويصبح العبور جحيم. * لا شباب مسمر على الحائط في انتظار الذي يأتي أو لا يأتي يقضون أوقاتهم باحثين عن عمل لن يحصلوه أو لذة مجانية ورخيسة... وتساءلت متعجبا: ترى أن يدرسون أبناؤهم؟ أين يتعالجون؟ أين يستحمون؟ أين يجتمعون؟ أين يتسوقون؟ وأين يقضون وقتهم الثالث؟ وأين وأين.. هنا، كل شيء موضوع بعناية فائقة، وكل شيء مرتب ومنظم وموضوع في مكانه، أما الوحيد الذي الحالة الشاذة في هذا الجبل، واندهشت لأني عيون المراقبة لم ترصدني..على أي فقد شعرت أن بقائي هنا قد يسبب لي متاعب أنا في غنى عنها، هممت بالمغادرة فإذا بيد أتت من لا مكان تمسكني من كتفي... يتبع.....