الصحف الصينية تصف زيارة الرئيس الصيني للمغرب بالمحطة التاريخية    وهبي يشارك في انعقاد المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب    كأس إفريقيا للسيدات... المنتخب المغربي في المجموعة الأولى رفقة الكونغو والسنغال وزامبيا    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    نشرة إنذارية.. طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المملكة    التعادل يحسم ديربي الدار البيضاء بين الرجاء والوداد    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة        بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال    يوم دراسي حول تدبير مياه السقي وأفاق تطوير الإنتاج الحيواني    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        MP INDUSTRY تدشن مصنعا بطنجة    بينهم من ينشطون بتطوان والفنيدق.. تفكيك خلية إرهابية بالساحل في عملية أمنية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    جمهورية بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع 'الجمهورية الصحراوية' الوهمية    حكيمي في باريس سان جيرمان حتى 2029    أمريكا تجدد الدعم للحكم الذاتي بالصحراء    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    فاطمة الزهراء العروسي تكشف ل"القناة" تفاصيل عودتها للتمثيل    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    الرابور مراد يصدر أغنية جديدة إختار تصويرها في أهم شوارع العرائش    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    تفكيك شبكة تزوير وثائق السيارات بتطوان    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    زَمَالَة مرتقبة مع رونالدو..النصر السعودي يستهدف نجماً مغربياً    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    التنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب تدعو الزملاء الصحافيين المهنيين والمنتسبين للتوجه إلى ملعب "العربي الزاولي" لأداء واجبهم المهني    لأول مرة في تاريخه.. "البتكوين" يسجل رقماً قياسياً جديداً    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سلسلة مقالات حول الضحك والفكاهة - شخصية جحا بين الواقعية والرمزية ؟

جحا شخصية فكاهية حقيقية، لكنها سرعان ما انفصلت عن واقعها التاريخي، وأصبحت رمزا فنيا، ونموذجا نمطيا للفكاهة في التراث العربي. ومن هنا قيل على لسانه آلاف النوادر أو الحكايات المرحة، على مر العصور. لقد نسي الناس جذوره التاريخية، ولكنهم لم ولن ينسوا أبدا أسلوبه الضاحك وفلسفته الساخرة.
هو أبو الغصن دُجين الفزاري الذي عاش نصف حياته في القرن الأول الهجري ونصفها الآخر في القرن الثاني الهجري، فعاصر الدولة الأموية وبقي حيا حتى حكم الخليفة المهدي، وقضى أكثر سنوات حياته التي تزيد على التسعين عاما في الكوفة. اختلف فيه الرواة والمؤرخون، فتصوره البعض مجنونا وقال البعض الآخر إنه رجل بكامل عقله ووعيه وإنه يتحامق ويدعي الغفلة ليستطيع عرض آرائه النقدية والسخرية من الحكام بحرية تامة.
وما إن شاعت حكاياته وقصصه الطريفة حتى تهافتت عليه الشعوب، فكل شعب وكل أمة على صلة بالدولة الإسلامية صممت لها (جحا) خاصا بها بتحوير الأصل العربي بما يتلاءم مع طبيعة تلك الأمة وظروف الحياة الاجتماعية فيها. ومع أن الأسماء تختلف وشكل الحكايات ربما يختلف أيضا، ولكن شخصية (جحا) المغفل الأحمق هي هي لم تتغير.
بل إنك تجد الطرائف الواردة في كتاب (نوادر جحا) المذكور في [[فهرست ابن النديم (377ه) هي نفسها لم يختلف فيها غير أسماء المدن والملوك وتاريخ وقوع الحكاية، فجحا العربي عاش في القرن الأول الهجري واشتهرت حكاياته في القرنين الثاني والثالث، وفي القرون التي تلت ذلك أصبح (جحا) وحكاياته الظريفة على كل لسان، وقد ألفت مئات الحكايات المضحكة ونُسبت إليه بعد ذلك، ويبدو أن الأمم الأخرى استهوتها فكرة وجود شخصية ظريفة مضحكة في أدبها الشعبي لنقد الحكام والسخرية من الطغاة والظالمين، فنقلت فكرة (جحا العربي) إلى آدابها مباشرة، وهكذا تجد شخصية (نصر الدين خوجه) في تركيا، و(ملة نصر الدين) في إيران، و(غابروفو) جحا بلغاريا المحبوب، و(ارتين) جحا أرمينيا صاحب اللسان السليط، و(آرو) جحا يوغسلافيا المغفل. وبعودة بسيطة إلى التاريخ تكتشف أن كل هذه الشخصيات في تلك الأمم قد ولدت واشتهرت في القرون المتأخرة، وهناك شك في وجودها أصلا، فأغلب المؤرخين يعتقدون أنها شخصيات أسطورية لا وجود لها في الواقع، وقد اشتهرت حكاياتها في القرون الستة الأخيرة، وربما أشهرها وأقدمها هو (الخوجة نصرالدين) التركي الذي عاصر تيمورلنك في القرن الرابع عشر الهجري، كما يتضح ذلك من حكاياته الطريفة مع هذا الطاغية المغولي.
وعلى الرغم من كثرة أعلام الفكاهة في التراث العربي، فإن جحا يبقى أشهر شخصية نمطية فكاهية، لا تزال حية فاعلة حتى اليوم في الذاكرة الجمعية العربية، الأدبية والفولكلورية والثقافية. وشهرته الفنية لا تلغي الدور التاريخي الذي يؤكد أن جحا شخصية حقيقية. فهو أبو الغصن دُجيْن بن ثابت الفزاري، ولقبه جحا، وقد عرف بين معاصريه بالطيبة والتسامح الشديدين، وأنه كان بالغ الذكاء، وتنطوي شخصيته على قدر كبير من السخرية والفكاهة. ووسيلته إلى ذلك ادعاء الحمق والجنون، أو بالأحر ىالتحامق والتباله في مواجهته لصغائر الأمور اليومية، استعلاء منه على حياة فانية، وشعورا بعبثية الصراع الدنيوي، وإحساسا بالجانب المأساوي للوجود الإنساني (الموت) في وقت معا. ولذلك لا غرو أن يعمر جحا، وأن يعيش مائة سنة، كما يقول الجاحظ. وقد شهدت الفترة التاريخية التي عاصرها جحا أحداثا جساما كان لها أبعد الأثر في أسلوبه وفلسفته في الحياة والتعبير، منها مأساة السقوط الدموي للدولة الأموية، وهيمنة الدولة العباسية بقوة السيف على مقدرات الأمور العربية الإسلامية، وسط مناخ ثقافي حافل آنذاك بالصراع السياسي والعسكري والمذهبي والعرقي.
في مثل هذه الظروف التاريخية الاجتماعية حدث أن استدعى أبو مسلم الخراساني عندما نزل الكوفة جحا لشهرته، عسى أن يظفر منه بطرفة أو فكاهة في خضم حروبه الدموية، فخشي جحا على نفسه، وادعى الحمق والجنون في حضرته. وبالرغم من ذلك فقد أعجب به أبو مسلم، وحدث عنه الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور، الذي بادر فاستدعاه إلى دار الخلافة في بغداد لعله يصلح نديما أو مضحكا (مهرجا) في بلاطه. وقد أدرك جحا عاقبة مثل هذا الدور وهامشيته ومخاطره وقيوده، فما هو بمهرج وما ينبغي له أن يكون كذلك. فتمادى في ادعائه الحمق والجنون حتى أفرج عنه المنصور بعد أن أجزل له العطاء. وكان لمثل هذا اللقاء أثره البالغ أيضا في ازدياد شهرته، وطلب الناس له في مجالسهم، والإغداق عليه. وهم سعداء به وبنوادره، وبرؤيته الساخرة للحياة والأحياء جميعا، وهنا قال جحا قولته الساخرة المشهورة: "حُمْق يعولني خير من عقل أعوله".
ومن الطريف الدال على أن جحا استمرأ هذا الأمر التغابي أو التحامق ما دام يعفيه من تبعات الناس، ويتيح له قدرا كبيرا من الشجاعة في قول الحق، وحكمة الرأي وأن يكون صريحا في التعبير عن نفسه، أنه دائما يستسلم لرغباته في لحظاته، وإنْ اتهمه الناس بالحمق والجنون فليس ثمة عندئذ من حرج مما يجعله بريئا من الخوف أو الكبت وقادرا على قول "المسكوت عنه" دائما، اجتماعيا وأخلاقيا وسياسيا وإنسانيا.
وشرع اسمه يتردد في أدبيات القرنين الثاني والثالث للهجرة، مقرونا ببعض النوادر، كما ذكر الجاحظ، ولكن ما نكاد نصل إلى القرن الرابع الهجري حتى تكون نوادره المتواترة شفهيا قد عرفت طريقها إلى التدوين في أسواق الوراقين باسم كتاب نوادر جحا الذي كان من الكتب المرغوب فيها على حد تعبير ابن النديم في الفهرست. ومن أقدم التراجم التاريخية التي وصلت إلينا عن جحا، تلك الترجمة الضافية التي ذكرها الآبي (المتوفي سنة 421ه، 1030م) في موسوعته نثر الدرر. ثم توالت التراجم له في كثير من المصادر الأدبية والتاريخية اللاحقة.
وعلى الرغم من أنها أجمعت على الوجود التاريخي لهذه الشخصية، فإنها أنكرت عليه كل ما روي عنه من نوادر بلغت من الكثرة حدا يستحيل زمانا ومكانا أن تكون جميعا متصلة به، بل ذكر الآبي صراحة: "أن له جيرانا كانوا يضعون عليه هذه النوادر" أي يؤلفونها وينسبونها إليه، بل أضافوا إليه أيضا كما يقول نوادر غيره من نوادر الحمقى والمغفلين والأذكياء وعقلاء المجانين وأمثالها من النوادر الذائعة في التراث العربي. وهذا يعني أن الوجدان الشعبي العربي قد انتخب جحا رمزا لكل ضروب الفكاهة،خاصة بعد أن تزيد الناس عليه، فنسبوا إليه، على مر العصور، آلاف النوادر حتى ليقول عباس محمود العقاد في كتابه جحا الضاحك المضحك عبارة طريفة ذات دلالة،هي أن جحا لو تفرغ في حياته لصناعة النوادر التي نسبت إليه، لمات قبل أن تنفد روايتها أو ينتهي هو من إبداعها. ومعني هذا أن جحا انفصل عن واقعه التاريخي وتحول إلى رمز فني استقطب معظم ما قيل من نوادر التراث العربي، الذائعة، وما أكثرها! بل شرع الشعب العربي، على تعدد أقطاره، يؤلف ما يؤلف من نوادر وينسبها إلى جحا على مر العصور.
وهذا يعني أن المأثور الجحوي الذي لايزال يتنامى حتى اليوم، لم يكن بداهة من تأليف جحا أو إبداعه، بل كان تعبيرا جمْعيا من إبداع الشعب العربي بعامة،ترسيبا للتجربة ونزوعا إلى السمر في وقت ما. فأعلن المجتمع الشعبي على لسان جحا تأملاته في الحياة والأحياء، وجسد تصوراته السياسية والاجتماعية والدينية، بما في ذلك "المسكوت عنه" وصاغ رؤيته للعالم، ونظرته للقيم والمثل العليا، كما ينبغي أن تكون، وذلك في صياغة أدبية جمالية، ذات قالب سردي أو شكل فني متميز هو فن الحكاية المرحة أو ما عرف في تراثنا الأدبي باسم النوادر.
غير أن النقلة النوعية الكبرى في حياة النموذج الجحوي تحققت في القرن العاشرالهجري (السادس عشر الميلادي)، عندما دخل العرب تحت السيادة العثمانية، حيث استهوى الأتراك آنذاك هذا النموذج الجحوي العربي، فقاموا بنقل نوادره وترجمتها إلى التركية، ونسبتها إلى شخصية تركية شبيهة بالنموذج العربي، اشتهرت أيضا بميلها للدعابة، وجنوحها إلي السخرية، وحبها للفكاهة، هي شخصية الخوجة نصر الدين،الذي كان معلما وفقيها وقاضيا. وقد قُدر له أن يلتقي تاريخيا بتيمورلنك الطاغية المعروف؛ وأن تكون بينهما من المواقف والطرائف ما يعكس حمق هذا الطاغية وظلمه وجبروته ضد المستضعفين أفرادا وجماعات.
وفي ضوء اتصال الثقافتين الإيرانية والتركية إبان العصور الوسطى، ادعى الإيرانيون أيضا لأنفسهم هذه الشخصية، وأطلقوا عليها اسم المُلا نصر الدين وزعموا أنها إيرانية لا تركية، ونسبوا إليها النوادر الجحوية، التركية والعربية معا، فازدادت هذه الشخصية الفكاهية ثراء وشهرة وذيوعا في تركيا وإيران،إلى جانب شهرته العربية بطبيعة الحال لكونه النموذج الأصل. وغدت هذه النماذج الجحوية الثلاثة جزءا من التراث الشعبي الإسلامي، وعبر هذا التراث عربيا وتركيا وفارسيا استطاع جحا العربي أن يعرف طريقه، باسمه وبنوادره معا أوبنوادره دون اسمه، إلى الآداب العالمية، خاصة في إفريقيا وأوروبا وروسيا وبلاد البلقان والصين وغيرها. وذلك في الوقت الذي تجاهلت فيه ثقافتنا الرسمية السائدة حديثا هذا النموذج الفني الإنساني، وغابت عنا أصوله العربية خاصة عندما شرع الناشرون العرب في طباعة كتب التراث العربي، فذكروا في فهارسها كلما ذكر جحا العربي أنه المعروف باسم الخوجة نصر الدين. ولما جمعوا هذه النوادر في كتب مستقلة أذاعوها بين الناس تحت عنوان نوادر جحا الكبرى الشهير بنصرالدين خوجة إما جهلا بأصوله العربية ونوادره الذائعة في كتب التراث العربي المدونة قبل ظهورالدولة العثمانية ذاتها، وهو الأرجح، وإما مجاملة لثقافة الطبقة التركية السائدة خلال القرون الأربعة الأخيرة التي كان العالم العربي فيها تابعا للخلافة العثمانية.
ولما كان المجتمع الشعبي العربي لا يحفل بتراثه الشعبي إلا بقدر ما يحقق له هذا التراث من وظائف حيوية، فكرية وجمالية، فإنه ظل يردد في موروثه الشعبي الشفهي نوادر النموذج الجحوي العربي، بل صار كل قطر عربي يدعيه لنفسه، حتى بات هناك جحا المصري، وجحا الليبي، وجحا السوري، وجحا العراقي، وهكذا. واختلط الأمر على المثقفين العرب، ودبجوا الكتب والمقالات في جحا الإقليمي، دون أن ينتبهوا أو يتبينوا أصوله العربية القومية الأساس. لكن الدراسات الفولكلورية المعاصرة أثبتت أنه ما من قطرعربي إلا وعرف النموذج الجحوي (العربي / القومي) بسمْته وملامحه، وأسلوبه وفلسفته في الحياة والتعبير، فعرف فيه "صمام أمان وعصا توازن" في خضم تحدياته ومعوقاته وتمثْل نوادره زادا فنيا ونفسيا بعيد الأثر قد يدفعه إلى الابتسام والسخرية،وقد يدفعه إلى الضحك والدعابة، لما فيها من انحراف عن المألوف أو تلاعب باللفظ أوخطأ في القياس. ولكننا لو تجاوزنا قشرتها الخارجية، وتأملناها من الداخل لوجدناها وسيلة حيوية من وسائل الدفاع عن الذات العامة، مؤكدة بالتناقض الظاهر أو الخفي القيم الإنسانية العليا، والغايات القومية، التي تعمل الجماعة أو الأمة العربية علىتحقيقها. وهذا الدور الوظيفي للنوادر في الثقافة الشفهية أقرب ما يكون إلى الدورالذي يلعبه الكاريكاتير المعاصر، في الثقافة والصحافة المعاصرة.
وتتمثل عبقرية "الفلسفة الجحوية" أو بالأحرى عبقرية الشعب العربي الذي أبدع هذه الشخصية الجحوية، في أمرين: أحدهما في أسلوب هذه الشخصية في المواجهة، حين اكتشفت بعبقريتها أن الماسأة يمكن أن تتحول إلى ملهاة، في ضوء الحالة النفسية التي نواجه منها وقائع وأعباء الحياة، فاندماج الإنسان كما نعلم في بؤرة الحدث أو الموقف يضنيه، وخروجه منه وفرجته به يسري عنه، وقد يضحكه، وهكذا استطاع جحا أن يكابد الحياة، ويضطرب فيها، وأن يخلق من نفسه شخصا آخر بعيدا عن الأول، يتفرج به ويسخرمنه. وهكذا تحولت المآسي عنده إلى طرائف وملح ذات طابع إنساني تخفف عنه وتسري عن أفراد الشعب العربي تأسيا به، الأمر الذي دفع الوجدان الشعبي إلى أن يسلك جحا الواقع والرمز مسلك الحكماء، في تعبيره الفني والأدبي. والآخر، في "تنميط" هذه الشخصية. فلم يكن الحمق أو الغباء السمة الغالبة عليه، ولكنه التحامق أو الذكاء الباحث عن جوهر الحقيقة. ولهذا لم يكن جحا مخبولا أو ناقص العقل كما يتوهم ولكنه كان الإنسان الذي يتناول الأمور مهما بدت معقدة أو تظاهرنا نحن بتعقيدها من أقرب الزوايا إلى الحق والواقع، فيبدو مناقضا لصنيع الآخرين الذين لا يتصورون الحق قريبا ويمدون أبصارهم إلى بعيد.
وقد ذهب القدماء إلى تصنيف نوادر جحا المدونة إلى قسمين كبيرين، أحدهما نوادرالحمق والجنون حيث الحمق أو الجنون هنا تعبير دلالي يستدعي نقيضه (فضيلة الذكاء والتعقل)، أو لغة إرشادية دالة تبوح بالمسكوت عنه (من حماقات الناس). والآخر نوادرالذكاء. ولكن المحدثين ذهبوا إلى تصنيف المأثور الجحوي الشفاهي والكتابي، طبقا لمحتواه الدلالي: فهناك النوادر السياسية التي تتناول علاقة المجتمع الشعبي بالسلطة الحاكمة (السلطان - القضاء - الأمن الداخلي) وخاصة في عصور القهر العسكري والكبت السياسي، وفي عصور التحول التاريخي والاجتماعي وما تمور به من متناقضات اجتماعية ونفسية، وانحرافات سياسية واقتصادية. والمتأمل لما أثر عن جحا من نوادر سياسية،قالها الشعب العربي على لسان جحا، يراها تشكل في مجملها أسلوبا ووظيفة بابا واسعا من أبواب النقد السياسي في الأدب العربي عامة والأدب الشعبي خاصة، فلا غرو أن يستمر احتفاء الوجدان القومي بهذه النوادر الجحوية على مر العصور، وأن يظل معتصما بها، كلما حزبه أمر أو حفزه موقف، في تلك المعركة الأزلية بين القوى السياسية والشعب الأعزل، وما ينشأ بينهما من علاقات سلبية، نتيجة حتمية لغياب القانون، وانحراف القضاء، واختلال ميزان العدالة في فترات تاريخية مختلفة. ليس فقط من قبيل نقد الوضع القائم، وفضح المسكوت عنه عندما يعزُ القول بل أيضا للقيام بدور "تعويضي" حيث النادرة السياسية هنا بمثابة "تنفيس" عن قهر سلطوي ضاغط،وتهدف إلى التخفيف من المخاوف، حيث يغدو الظالمون موضوعا للضحك والسخرية، وعندئذ يخف العداء للتسلط، نصغره فنكبر، ونحقره فنرد لذواتنا الاعتبار. فالضحك رفض للظلم،وهذه هي الوظيفة السياسية للنادرة الجحوية. ومن الجدير بالذكر أن كثيرا من النوادرالسياسية الذائعة في المأثور الجحوي الشفهي الحديث لم تعرف طريقها إلى التدوين،بسبب حذر الناشرين من طباعتها ونشرها.
وهناك النوادر الاجتماعية، وهي من الكثرة بمكان، ولاتزال تتنامى إبداعا وتذوقا حتى الآن، وتتعاظم وظائفها الحيوية في نقد الواقع الاجتماعي، وما يمور به من سلبيات في القول والفعل والسلوك، مما هو سائد في حياتنا اليومية. ولهذا لم تشأ الأمة العربية أن تجعل هذه الشخصية التي أبدعتها بعبقريتها سلبية أو منعزلة، وإنما جعلتها شخصية رجل عادي من الناس، له مشاعرهم ومواقفهم وتجاربهم، وآمالهم وآلامهم، عليه أنيسعى في سبيل العيش كما يسعى غيره، ويختلف إلى الأسواق، ويرحل إلى الأمصار،ويلتقي بالحكام ويتحدث إلى العامة. وهو رب أسرة، له زوج، بينه وبينها ما يكون بين الرجل وصاحبته من الأحداث والمواقف، وله معها نوادر تجسم فلسفته الخاصة في الحياة،بل تجسم ما يريده الشعب العربي من ترسيب التجربة ونقد الحياة الاجتماعية، واتصلت حياة جحا، فكان له ابن ينشئه بحكمته ويحاوره بفكاهته وسخريته، وكأنما أراد أن تمتد حياته وفلسفته أجيالا متعاقبة. بل سوف نرى أن هذه الشخصية الساخرة تؤكد بدورها وحدة الحياة عند الأمة العربية، فلم تقتصر مواقف جحا على علاقاته بالناس، وخير ما يصور ارتباط جحا بالأحياء تعاطفه مع حماره الذي ارتقى به حتى جعل منه صديقا أو شبه صديق، يتحدث إليه ويصب في أذنيه سخرياته اللاذعة من الحياة والأحياء. وبهذا يتكامل الثالوث الجحوي الشهير (امرأة جحا، ابنه، حماره).
ومن الجدير بالذكر أن الشعب العربي في نقده لجوانب الحياة الاجتماعية على لسان جحا، الذي سلك في ذلك مسلك الفكاهة، إنما كان يرى في ذلك التهكم الساخر ضربا من الثأر السلمي أو القصاص العادل أو الجزاء الاجتماعي الذي تنتقم به الجماعة أو الأمة لنفسها من الخارجين على معاييرها ومثلها وقيمها، بغية الدفاع عن الذات العامة،وحفاظا على تماسكها، وتعضيدا لهويتها القومية. ذلك أن النوادر الجحوية بتركيزها على الجانب السلبي في الحياة والمجتمع، لا تنتقم أو تهجو فحسب، بل تعالج وتخفف من التوتر الداخلي، وتحد من مخاوف الجماعة أو الأمة، وتعيد اعتبار الذات للذات.
ومن اللافت للنظر، أن المأثور الجحوي بعامة، لم يكن وقفا على النقد السياسي أو الاجتماعي فحسب، بل أدى وظائف أخرى، نفسية وجمالية، بالضرورة. فالنوادر الجحوية ليست إلا تعبيرا عن واقع نفسي وخارجي معا، في بنية واحدة متعاضدة، إنها هنا تسخر،تنتقد، تنتقم، تفرج، تسري، فهي تنفيس وتفريغ لشحنات انفعالية سالبة. وتأتي النوادر الجحوية في وظائفها الجمالية والإمتاعية تحقيقا للجانب الباسم في مسرح الحياة، باعتبارها رواية هزلية كبرى كما يقال، وغايتها عندئذ التسلية والإمتاع، إماتحقيقا لهذا الجانب الباسم من الحياة (ابتسم تبتسم لك الحياة)، وإما تسرية وترفيها وتفريجا عن بعض كرب الحياة وضنك العيش (شر البلية ما يضحك). وبذلك تمنحنا هذه النوادر قدرا من "التطهير" النفسي الذي يزود المرء أو الجماعة بقوة التحمل والصبر والتفاؤل في خضم الإحباط الفردي أو الجمعي (القومي) وكأنها جرعة إنقاذية وتنشيطية غايتها " تطعيم" الناس ضد واقع محبط، وراهن جارح، وبذلك تضفي هذه النوادرالجحوية على الحياة والواقع قدرا من التجميل الخيالي والتطهير النفسي الذي يحتاجه الناس كثيرا.
http://rekrute-maroc.blogspot.com/20...5-2009_30.html
http://www.mtpnet.gov.ma/MET_New/Ar/...ISTP+Arabe.htm
http://www.ista.ma/
يمكنك التسجيل مباشرة على الموقع وغدا سازور المدرسة لاستعلم عن الموضوع
وساتصل بكم ان شاء الله
مع تحياتي الخالصة
http://www.tawjihnet.net/


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.