أيهما أقسى على النفس، أن تفقد أباك و أنت صغير أو أن تفقده و أنت كبير؟ ( لا قدر الله طبعا) . اليتيم الصغير يلملم ما علق بذاكرته الصغيرة من أصوات و صور لوالده . قد تلاشى تلك الذكريات مع مر السنين، و قد لا تحضر في فكره إلا عندما يخز ذاكرته منظر أقرانه برفقة آبائهم، أو في لحظات الضيق عندما يحتاج إلى درع أبوي يحميه من نوائب الحياة. لكن من الصعب أن تنساه إذا ما يُتمتَ كبيرا، كل ما في البيت يوحي إلى والدك وكأن روحه تلبست بكل الأشياء : فنجانه ، سبحته ، سريره ، مقعده ، طاقيته ، نظارتاه... قد ينسيك النهار بطوله و مشاغله تذكر أبيك، لكن سرعان ما يطفو على سطح ذاكرتك عند أول ركوع أو سجود. كل سِنة من النوم تطير بك إلى عالم الأرواح فتراه واقفا، مبتسما، متكلما بكثير من الألغاز، ثم ما تلبث أن تستفيق فرحا ناسيا أنك يتيم، ثم تتذكر بعد برهة بمرارة أنك أباك ميت. عند زيارة قبره تتخيله جسدا ممددا يرويه دعاء الصالح من ولده، و بقية من صدقة جارية ، وذكرى طيبة تتناقلها الأفواه عن مناقب و مواقف و شيم... ثم يمر شريط الذكريات بين عينيك ، يوم كنت طفلا غضا يدللك بنقود و حلوى ، تتذكر ملمس بشرته و ضغط شاربه و شفته عل خدك و نبرة صوته و بريق عينيه ، تتذكر يوم مرض لمرضك و سهر لسهرك و تألم لألمك ، يوم نزع أول أسنانك ، يوم أخذك إلى المدرسة أول مرة ، و يوم فرح بنجاحك ... تتذكر حكمه و نصائحه ، تتذكر جده و هزله.... و تتذكر يوم اشتد عودك و انكمش عوده ، و يوم وهن عظمه و ازداد سقمه ، و يوم غيرت له ملابسه و حلقت ذقنه،و يوم أعنته على الوقوف و الجلوس ، و يوم توكأ عليك في طريقه إلى المسجد، و يوم وضع رأسه على صدرك مسلما روحه إلى بارئها ، و سبابته ممدودة توحد خالقها. و أنت تتحسس نبضه ، و تمسح وجهه ، و تقبل جبينه ، مكفكفا دموعك ، داعيا له بالرحمة و المغفرة، و أنت تحمل نعشه إلى المسجد ، و إلى مثواه الأخير... و تتحسر على كل لحظة قضيتها بعيدا عنه ، على عينك التي لم تشبعها نظرا إليه، على راحتك التي ما تحسست كفاية يديه ... ثم تجود قريحتك بأبيات عفوية ، صادقة ، تسكنها أفكار و خواطر لطالما صالت و جالت في القلب و الفكر و الخيال : يونس حماد [email protected]