عبد الرحمان شوجار: حياة على حد البندقية والقضبان معركة من اجل الشمس اكثر من ذلك فمنذ اعتقالنا بدار المقري لم نغتسل أبدا بالصابون فأصبحت أيدينا بفعل الأوساخ العالقة كما لو طليت بزيت متسخ . والكثير منا أصيب بسبب قلة النظافة بأمراض الجلد كالحكة و والقمل ولم نعد نتحل أجسادنا بسبب الروائح الكريهة المنبعثة منها بقوة . كان الشخص المكلف بتوزيع الطعام علينا يترك أبواب الزنازين مفتوحة حتى ينتهي من هذه المهمة فيعمد إلى إغلاقها . كنا نستغل هذه الفرصة للتواصل بيننا . في حين كان بعض الحراس ممن يبدون تعاطفا واضحا معنا يحاولون تجاهل ذلك . وفي أحيان أخرى نفتح الكوة الصغيرة التي توجد في باب الزنزانة ثم نبدأ في التواصل مع يعضنا بالإشارات . لم يكن كل حراس السجن من طينة واحدة . فرغم الظروف المشددة والسياق الحساس لوضعيتنا كمعتقلين سياسيين يبادر بعض الحراس إلى الاعتذار لنا ويأسفون كثيرا لوضعيتنا ولمآلنا ويتبرأون من الممارسات التي تطالنا داخل السجن . فنسمع بعضهم يصرحون بشكل واضح مباشر : راه بحالنا بحالكم .. راه انتوما اللي جبتونا ما شي احنا اللي جبناكم .. كنا مع وليداتنا حتى كالوا لينا انجيو لهنا نقابلوكم .. راه كلنا معتقلين هنا احنا وانتوما . او ماعلينا غير نصرفو هاذ المكتاب حتى يفرج الله ... طلبنا رؤية مدير السجن لفتح حوار مباشر معه . فتحوا أبواب الزنازين وأمرونا أن نفق عندها . فجاء الكومندار بوعزة واخذ يسألنا واحدا واحدا . عندما وصل إلي قال لي : ماذا تريد ؟ عرفت جيدا أن مخاطبي شخص عسكري ليس له منطق سياسي وما يهمه هو الانضباط الصارم ولذلك فالحديث معه يجب أن يراعي هذه الخاصية ومن المفروض أن يكون ممنطقا اكثر حتى نتمكن من إقناعه بمطالبنا . قلت له : مون كومندان ، مرت ثمانية اشهر لم نر خلالها الشمس . عندما اختطفتمونا واحتجزتمونا بدار المقري اعتبرنا ذلك مركزا غير قانوني . أما الآن فنحن على ذمة قاضي التحقيق العسكري وفي مؤسسة قانونية . أي أننا في عهدة العدالة . ونطلب منكم أن تنظروا في وضعيتنا الإنسانية وفق ما يقره لنا القانون كأبرياء إلى أن تثبت إدانتنا من طرف القضاء .. نحن في حاجة كباقي البشر إلى الشمس . نظر إلي مليا فقال : سنرى .. سنرى .. ثم انصرف . في ذلك اليوم قرر المدير السماح لنا بالخروج إلى ساحة السجن لمدة عشر دقائق فقط . أخرجونا بالتناوب في شكل طابور يبلغ عدد أفراده حوالي عشرين شخصا . وكان أول ما أثارني في هذه الساحة وجود حائط مملوء بالثقوب والحفر الصغيرة .و أرضيته مفروشة بحصى صغير ( الكرافيت ) . ارتبت في أمره وخمنت مع نفسي : هاذ البلاصا تتوقع فيها شي حاجة ماشي هي هاديك . عشر دقائق تمر بسرعة البرق كما لو كان الوقت بدوره يتواطأ معهم ضدنا ويعمد إلى الانتقام منا بسرعة . فما نكاد نرى السماء ونستنشق الهواء حتى يأمروننا بالدخول . كنا نقوم بجولة حول الساحة في طابور مزدوج والحراسة مشددة لمنعنا من التواصل بعضنا . ومع ذلك كنا ننتزع بعض الكلمات او الإشارات بحذر كبير لأننا إذا ضبطنا سيكون عقابنا هو الكاشو نوار أي الزنزانة السوداء وهي زنزانة منفردة مظلمة ومقرفة . وسبب ذلك يعود إلى أمر أصدره قاضي التحقيق العسكري يقضي بعزلنا على بعضنا ومنعنا من أي اتصال حتى ينتهي التحقيق . قررنا الدخول في إضراب عن الطعام . بادرنا نحن نزلاء الكولوار الذي كانت فيه زنزانتي إلى تنفيذ هذا القرار أولا على أن يتكفل الحراس نقل الخبر إلى باقي المعتقلين في الكولوارات الأخرى . إذ كان بالسجن العسكري مجموعة من الحراس الذين يتعاونون معنا بحذر كبير لانهم إذا ما ضبطوا فسيكون مصيرهم افظع مما نحن عليه . كان معي في نفس الكولوار سعيد بلعقدة وهو استاذ من مدينة الجديدة والحفيان محمد ميكانيكي من نفس المدينة . ومحمد بن عزوز استاذ من مراكش والأستاذ الصولاج وهو محامي بمراكش وانتظام عيسى وهو استاذ السلك الثاني من تالوين ومحمد رشاد فلاح من امزميز والزهراوي كهربائي من الجديدة والالسبيطي من نفس المدينة والحسين البزبوز ومحمد بالماضي ولحسن قروش وحميد المطاعي ومسحق الهاشمي ومولاي اسماعيل السكر وكلهم من امزميز واليعقوبي وهو من منطقة ثلاث نيعقوب وأخرون ... كنا تقريبا عشرين معتقلا في نفس الكولوار قررنا جميعا الدخول في الاضراب عن الطعام طالبنا بالزيادة في الحصة المخصصة للخروج إلى الساحة قصد الاستفادة من أشعة الشمس وتحسين جودة الطعام وإضافة غطاء . كانت هذه المطالب جد معقولة ولا تفترض مصاريف مادية كثيرة . شاع خبر امتناعنا عن الأكل فأعلنت حالة الطوارئ بالسجن وبدأت التهديدات تستهدفنا مع التلويح بالعقاب في حق المضربين . بعد ساعة جاء الكومندار بوعزة بصولجانه كالعادة . وبدأ يستفسرنا واحدا واحدا عن سبب الإضراب عن الطعام . وبعد الاستماع إلينا قال : « يستحيل تلبية مطالبكم . وكل ما هو ممكن فعله لبيناه لكم سالفا . » بقينا مضربين عن الطعام لمدة ثلاثة أيام . وفي الرابعة بعد الزوال من اليوم الثالث أخرجونا من الزنازن . واقتادونا في شكل طابور . اعتقدنا حينها انهم سيذهبون بنا إلى إدارة السجن قصد التحاور مع المدير, فإذا بهم يوقفوننا في الساحة بمحاذاة حائط وأمامنا يوجد طابور من العسكريين مسددين فوهات بنادقهم تجاه صدورنا . أيقنا أنها فرقة الإعدام . تسارعت ضربات قلبي واشتد خفقانه . رفعت عيني إلى السماء أتأمل الفضاء وكأني أودعه لأخر مرة ... تهت في ذكريات خاطفة لطفولتي وأسرتي ، وجه والدي وأنا اقبل يده في الصباح . ما كان يروى لي عن إعدام المقاومين من طرف الاستعمار الفرنسي ... تذكرت الموت الذي افلت منه في مواجهة عدو شرس كإسرائيل أثناء مواجهتنا له في عملية جبين . الخوف يسري في عروقي . إيقاع تنفسي مضطرب . عرق يتصبب على الجبين . رعشة خفيفة تحرك كل أعضاء جسمي . عرى معتقل يسمى محمد الحفيان على صدره وفك أزرار قميصه في تحد وصرخ : « هيا أطلقوا النار ... ماذا تنتظرون ... اقتلونا ... هيا . هيا .. » جاء عسكري من رتبة ادجودان شاف ( مساعد أول ) اعتقدت انه سيسألنا عن آخر ما نطلبه قبل أن يعدمونا . قال لنا : « بماذا تطالبون ؟ » كررنا له مطالبنا مرة أخرى . فسألنا أن نرشح خمسة منا للتفاوض مع الإدارة . عندها فقط أدركت انه مازال في العمر بقية وان عملية إيقافنا أمام فوهات البنادق مجرد ترهيب لنا قصد التخلي عن مطالبنا . وبالفعل انتدبنا خمسة معتقلين منا فاستقبلهم الكومندار بوعزة . ووافق على تمديد حصة الشمس إلى نصف ساعة في اليوم وإضافة القهوة إلى وجبة الفطور وهو ما اعتبر من طرفنا إنجازا عظيما . وأمر بإضافة غطاء ثان ( كاشة ) لكل واحد منا . فكللت معركتنا بالنجاح . عين وكيل للدولة من بني ملال يدعى بلخضر وهو من اصل بركاني للتحقيق معنا : ولكي يقدم كقاضي تحقيق عسكري منحوه رتبة عقيد ( كولونيل ) وبالمناسبة كان ابنه ضمن مجموعة انيس بلفريج التي اعتقلت فيما بعد سنة 1973 . عندما بدأ التحقيق معنا كان قد مر على اقامتنا بالسجن العسكري شهرين كاملين. وتتعمد المخابرات عدم مثول المعتقلين أمام العدالة الى أن تختفي آثار التعديب من الجسد ويصبح في صحة جيدة . وبالمناسبة فالمعتقلون لا يلقون اية عناية صحية اللهم من وجود ممرض يقدم بعض الاسعافات البسيطة علما أن الكثيرين عانوا الويلات من جراء التعذيب وان الاعتماد على المناعة الجسدية للمعتقلين وحدها لا يمكن ان تخفي آثار الوحشية التي تعرضوا لها . كان من حظنا أن استفدنا بفضل الإضراب عن الطعام من بضع دقائق نرى فيها الشمس ونتشمم فيها الهواء النقي وهو ما رفع نسبيا من مستوى مقاومتنا ، ولكنها مقاومة لايمكن أن تخفي تلك الاثار الموشومة على اجسادنا الى الابد. قبل ان أمثل أمام قاضي التحقيق كانت الكثير من الهواجس تنتابني تساءلت: كيف يمكن أن اتعامل مع اسئلة – بلخضر- ودهائه ، علما أن لدي شك في امره كباقي زملائه هل هو فعلا قاضي تحقيق أم أنها لعبة جديدة من لعب المخابرات ؟ في احيان اخرى ، يعود إلى دهني أسلوب التعامل معنا في دار المقري وتذكرت مشاهد التعذيب الوحشي التي لاقيتها طيلة سبعة أشهر .. نفس الهواجس تنتاب باقي زملائي ، لكن نؤمن أن إخواننا في الحزب لن يتخولواعنا وهو ما قوى من عزيمتنا ورفع من معنوياتنا. المثول امام قاضي التحقيق العسكري وبدا التحقيق . وكانوا ينقلون كل يوم مجموعة من المعتقلين للمثول امام قاضي التحقيق . عندما دخلت الى مكتبه وجدته لوحده لابسا بدلة عسكرية ... لم يكن معه كاتب او كاتبة . قال : تفضل . اجلس . جلست في كرسي خشبي يوجد الى يمين مكتب القاضي . طلب مني ان ادلي بجميع المعلومات الشخصية كالاسم الكامل واسم الوالد والوالدة وتاريخ ومكان الازدياد ... الخ ... نظر الي بهدوء تام ولم تكن ملامحه توحي باي تخويف او ترهيب . قال لي : « هل تعرف انك متهم بالاعتداء على النظام واقامة نظام اخر مكانه والمس بامن الدولة الداخلي والخارجي وتزوير الوثائق الرسمية وحمل السلاح بدون رخصة ؟ فما قولك في هذه الاتهامات الموجهة اليك » اجبته : « اولا هذه التهم المنسوبة الي مبنية على تصور رجال الامن. والملف الذي قدمت به امامكم من ابتكار رجال المخابرات الذين اختطفوني واحتجزوني بمكان سري وغير شرعي لمدة سبعة اشهر . وفيها تعرضت لأسوأ مظاهر التعذيب وأبشع صوره . وهناك تفننوا طيلة هذه المدة في اختلاق هذه التهم ومحاولة اضفاء منطقي عليها ... » قاطعني قائلا : « ولكنك وقعت على هذه التهم التي تنفيها . » قلت له : « توقيعي كان بفعل التعذيب القاسي الذي تعرضت له بدار المقري . » تم قال : « هل لديك اضافة اخرى ؟ » قلت : « نعم سيدي القاضي لكن أخشى أن يكون رجال المخابرات يتجسسون علينا خلف الباب ... » قال : « لا تخشى شيئا . أنت في مكتب قاضي التحقيق . قل ماشئت . » وبدون خوف او تردد قلت له : « ان الذين عذبونا بدار المقري يوجدون الآن خلف هذا الباب – مشيرا الى باب مكتب القاضي – وهم يقيمون معنا باستمرار في السجن ويواصلون اهانتنا والتجسس علينا . ويعاملوننا معاملة لا تليق بانسانيتنا كما لو كنا مجرد حيوانات . ويصولون في السجن ويجولون ويصدرون الاموامر ويهددون ..كما لو كان السجن تابعا لهم وتحت سلطتهم ونفوذهم وليس تحت سلطة العدالة . لذلك اطلب منكم التدخل لتحسين وضعيتنا . فنحن نوجد في عهدتكم الان وليس في عهدة رجال الامن والمخابرات ... » نظر الي القاضي وقال : « سلطتي تقف عند حدود هذه القاعة ولا تتجاوزها .. وماوراء الباب لا يدخل ضمن مجال صلاحياتي ولا مسؤوليتي ولا سلطاتي ... » بالطبع كان قاضي التحقيق ينطلق في قوله هذا من حيثيات يعرفها جيدا وسياق ضاغط يحدد له المهمة الموكولة اليه واين يجب ان تقف وفي أي تجاه تصب ..نحن كذلك كنا نعرف جيدا الطابع الصوري لكل هذه الاجراءات مثلما كنا نعرف ان لا قاضي التحقيق ولا مدير السجن كانا يتحكمان في المؤسسات المفروض انها تابعة لنفوذهم ... عندما اخرجوني من مكتب قاضي التحقيق انتابني شعور بالخوف وانتظرت عقابا قاسيا في السجن جراء تصريحاتي ... لحسن الحظ لم يصلهم خبر ما ادليت به اثناء التحقيق ، فلم يطلني العقاب . كانت العزلة التي عشتها في الزنزانة المنفردة تجعلني أدخل عالما اخر تناسلت فيه الهواجس والتوقعات وتتشابكت فيه الاسئلة حول ما ستؤول اليه المحاكمة وحول مصيري الشخصي ومصير باقي المعتقلين . وعقوبة الإعدام التي كنت اعتبرها احتمالا واردا يمكن ان يطبق علينا . في أحيان كثيرة كنت استعيد ذكريات العائلة والدوار والمدرسة وأحاول التنبؤ بمصير البلاد وفي أي تجاه تسير . في عزلة الزنزانة تتضخم الهواجس وهو ما أدى بالكثير من المعتقلين الى فقدان ذاكرتهم . فمواجهة هذه العزلة تحتاج الى طاقة كبيرة لمقاومة هذه الهواجس . وفي النضال السياسي يوجد – كما في التجارة – الربح والخسارة . وعلى من يعتبر نفسه مناضلا سياسيا وينخرط في صنع أحداث حاسمة تاريخيا ان يؤمن بهذا القانون . مع الاسف وجدت مجموعة من المعتقلين ممن لا يرغبون نفسيا في تحمل مسؤولية عملهم وفعلهم السياسي . ويلقون بها على الاخرين وهو ما يصعب عليهم تكيفهم النفسي مع واقع الاعتقال . بالنسبة لي اعتبرت ومازلت اعتبر ان كل ما قمت به جاء من قناعة راسخة . لذلك كنت اقنع نفسي بضرورة قبول تبعات اختياراتي حتى ولو أدت بي إلى اسوأ الاحتمالات التي لا اتمناها طبعا . في أحد أيام رمضان قرر قاضي التحقيق السماح لنا بالمراسلة .. فكتبت إلى عائلتي التي لم أراها منذ سنين , استفسرت فيها عن احوال والدي ووالدتي وباقي الاخوة مضت ايام وأنا انتظر الرد.. بقيت أمني نفسي بما ستحمله رسالة العائلة من اخبار . ذات مساء وعند آدان صلاة المغرب جاءني أحد حراس السجن وقال لي : « لقد أذ المؤذن ، يمكنك أن تفطر إن أردت ولكن قبل ذلك اقرأ هده الرسالة اولا .. إنها تحمل لك بشرى .. » أخذتها من يده كطفل رأى لعبة وارتمى عليها بكل اشتياق .. قلت مع نفسي : « وأخيرا سأتواصل مع العائلة .. وسأعرف كل الاخبار وسأطمئن .. آه كم هو صعب فراق العائلة والبعد عنها .. » فاجأني صوته مرةأخرى ليقول : « اقرأها .. اقرأها اولا ثم افطر بعد ذلك ... » فتحتها بلهفة لا توصف .. انتابني شعور ممزوج بالفرح والقلق .. ترددت قليلا قبل قراءتها .. تساءلت كثيرا ماذا يمكن أن تحمله لي؟ هل فعلا بشرى ؟؟ لم أطمئن للطريقة التي قدم لي بها الحارس الرسالة .. نظراته مليئتان بالشر والمكر .. وإلحاحه الشديد الذي يدعو الى الريبة والشك .. ونبرة صوته التي تحمل معها تهكما من وجهه الكريه. اخيرا قرأتها .. انفجرت الدموع من عيني .. كان يوما أسودا .. لم افطر ولم أتناول عشائي .. الرسالة تحمل في طياتها نبأ شؤم بوفاة والدي تغمده الله بواسع رحمته .. ونزل علي الخبر كالصاعقة .. فلم أتمالك نفسي واجهشت باكيا .. لم أنم تلك الللية وعدت بذاكرتي الى كل المواقف التي كانت تحدث لي مع والدي .. لكن ما العمل وهذه مشيئة الله وقدره. قرر قاضي التحقيق العسكري بعد استنفاد البحث والاستماع للمعتقلين عدم الاختصاص وأحال الملف على القضاء المدني. في شهر فبراير 1970 رحلونا الى السجن المدني بمراكش بولمهارز وذلك قصد المثول أمام قاضي تحقيق مدني .. تم الترحيل وفق نفس السناريو الذي تم به في اتجاه السجن العسكري .. قيدوا أيدينا وعصبوا العينين .. واقتادونا إلى السيارات بالسب والشتم والضرب ولم نعد نر تعبا منه ببولمهارز ارتفع عدد المعتقلين الى 192 معتقلا ، اذ أضيفت مجموعة أخرى لم تكن معنا في السجن العسكري بالقنيطرة ، منهم السي محمد اليازغيي , وملوك الشافعي , وعلي المانوزي وباقي افراد عائلته. وبالطبع فالكل يعرف أن المرحلة السوداء التي عرفها المغرب والتي اشتد فيها القمع بشراسة إلى حد العبث والعشوائية ، هي مرحلة الستينات والسبعينات .. والاعتقال فيها لم يكن يخضع لمنطق عقلاني .. كثيرا ما اعتقلت النساء الحوامل والاطفال .. واختطف ابرياء لا علاقة لهم بالسياسة ولا بالسياسيين .. وعدب وسجن لسنوات طوال أناس ذنبهم الوحيد ارتباطهم بعلاقة قرابة وصداقة مع أحد السياسيين. تسلمنا بسجن مراكش مديره وكان من أصل سلاوي يسمى بليزيد . وكما العادة تم توزيعنا على الزنازن .. ونظرا لقلتها اكتفوا بحبس كل من سعيد يونعيلات وأحمد بنجلون في زنازن منفردة .. أما الباقي فقد حبس في زنازن مشتركة. الطعام كان رديئا الى حد لا يطاق .. كانت القطاني كالفول والعدس والفاصوليا ( اللوبة ) متقادمة وفاسدة الى حد امتزاجها بالحشرات كالدود والكوز. بعض المعتقلين كان يتوصل بالمؤونة والطعام من عائلاتهم ، وهو ما يغنيهم عن تناول وجبات السجن المدودة .. وسيكون من السداجة الانتظار من الخصم الذي تصارعنا معه ان يعتقلنا ليكرمنا .. فمنطق الصراع واضح ... كما أن المناعة التي تمكن الانسان من مقاومة كل هذه الأساليب من الإهانة والإحتقار والإضطهاد نابعة أساسا من الإيمان الراسخ باختياراتنا الحرة كما أشرت إلى ذلك سابقا. كل التفاصيل الجزئية التي تضمنها حديثي عن بعض جوانب حياتي السياسية تبين إلى أي حد كانت معركة الديمقراطية التي خضناها جد صعبة. وها نحن اليوم وبعد مرحلة طويلة من محاولة إسكات صوتنا وطمس وجودنا ينصفنا التاريخ ويثبت أننا كنا أصحاب حق .. وأن راية الديمقراطية لا يمكن إنزالها من أحلام الشعب. بعد مرور حوالي عشرين يوما على اقممتنا ببولمهارز اخبرونا بأننا سنمثل أمام قاضي التحقيق وعين لهذا الغرض السيد الحجوي .. وكما العادة دافعنا عن أنفسا أمامه رغم أننا كنا نعلم جيدا أن المحاكمة ستكون صورية وأن كل شيء معد فيها سلفا. لم تخل إقامتنا بالسجن المدني بمراكش من بعض المناوشات التي كان بعض الحراس يسعى على اختلاقها قصد تضييق الخناق علينا. واذكر منها الاستفزاز الذي تعمد القيام به أحد عناصر فرقة السيمي جيء به لحراستنا من القنيطرة في حق الحسين كوار والسي محمد اليازغي ومعتقل ثالث لم أعد أذكر اسمه ، حيث عمد إلى الإعتداء على اليازغي في ساحة السجن فقام الحسين كوار بالرد عليه بالمثل وكذلك فعلنا نحن. فانجز محضر اعتداء لمحمد اليازغي وللحارس وشخص أخر لم يحضر اسمه في ذاكرتي ... وقدموا للمحكمة التي قضت بتبرئتهم .. وقد اخبرني محمد باينة فيما بعد انه هو الذي أوكل إليه التحقيق في هذه الواقعة باعتباره قاضي التحقيق. محاكمة مراكش الكبرى في يونيو 1971 انطلقت المحاكمة .. كان ذلك بالمحكمة الابتدائية بمراكش المتواجدة بحي بابب دكالة . عين اللعبي كرئيس لهيأة القضاء والمجبود كممثل للنيابة العامة. عندما كنت في السجن العسكري إبان التحقيق بادر المرحوم عبد الرحيم بوعبيد الى تنسيق هيأة الدفاع حيث عين لكل معتقل مجموعة من المحامين لمؤازرته .. بالنسبة لي تكفل بالدفاع عني كل من الاستاذ محمد الزعري وهو محام من هيأة المحامين بباريز ، وعبد الرحيم بن بركة ومحمد بوزبع الوزير المكلف بالعلاقة مع البرلمان في الحكومة الحالية وكليهما من هياة الرباط. زارني محمد الزعري بالسجن العسكري بالقنيطرة مرة واحدة . عندما دخلت الى الغرفة المخصصة للقاءات المحامين قام وصافحني بحرارة وقدم لي نفسه : محمد الزعري محام بهيئة باريز وقد سبق لي ان رافعت في قضية الشهيد بن بن بركة .. أنا موكل للدفاع عنك رفقة الاستادين محمد بوزيع وعبد الرحمان بن بركة .. شكرته على مؤازرته لي .. بعدما قالي لي : اريد أن اناقش معك تفاصيل الملف وخطة الدفاع ، هل لديك استعداد ؟ أجبته : بالطبع ، تفضل أنا رهن اشارتك .. قال : اسمع , يجب ان تعترف بكل التهم المنسوبة إليك وأن تقلب المحاكمة ، عوض ان يحاكموك حاكمهم انت .. وحول النقاش في القضية الى نقاش سياسي ، وتحدث عن كل التظلمات التي وقعت منذالستينات قلت له : أنا واحد من المعتقلين . هل نسقت مع الاخ عبد الرحيم بوعبيد في هذه المسألة باعتباره رئيسا لهيأة الدفاع ؟ لأنني لا أستطيع الخروج عن الاجماع .. قال : بالطبع .. نسقت معه ، وإلا فلمادا أنا هنا .. قم بما قلت لك .. وافعل كالماريشال بيتان الذي حوكم في فرنسا بتهمة التعاون مع النازية لكنه قلب المحاكمة وعوض أن يحاكموه أصبح هو الذي يحاكمهم.. لم أتوفر على الشجاعة الكافية للخروج عن الإجماع ، فأنا واحد من المعتقلين ويجب ان ألتزم بالخطة التي اعتمدها دفاعنا جميعا. في 14 يونيو 1971 اذن انطلقت المحاكمة .. كانت الجلسة تمتد من الثامنة والنصف الى غاية الثالثة بعد الزوال أعددت مرافعتي للدفاع عن نفسي .. ارتكزت في ذلك على أن الإختطاف والإحتجار الذي طالني كان بسبب انخراطي في صفوف الفدائيين الفلسطيننين .. وفتحت هذه النافدة لكي أثبت أن أفقير كان عميلا للمخابرات الإسرائلية و c.i.a الأمريكية . إذ أن التحقيق كان بكامله مركزا على هذه المرحلة .. وعلى جنسيات الفدائيين وحول المعارضين منهم للأنظمة الحاكمة ببلدانهم. عندما مثلت أمام المحكمة طلب مني القاضي أن أدلي بالمعلومات الشخصية .. بعد ذلك وجه لي التهم المنسوبة إلي و هي الإعتداء على النظام وإقامة نظام آخر مكانه والمس بالأمن الداخلي والخارجي وحيازة سلاح بدون رخصة وتزور الوثائق الرسمية .. ثم اخد يطرح علي الاسئلة انطلاقا من محاضر الشرطة .. حاولت في إجابتي أن أثير مسألة الوضع السياسي بالمغرب والقمع الذي هيمن عليه ومصادرة الحريات الأساسية واختطاف بن بركة وذلك حتى تصبح المناقشة ذات طبيعة سياسية .. لكن مع الأسف كنت أقمع من طرف المحكمة . سألني القاضي : لماذا دخلت سرا الى المغرب ؟ اجبته : احتياطا من مكر المخابرات المغربية التي لا يخفى تعاونها مع المخابرات الاسرائيلية والامريكية .. وأضفت أن العلاقات بين المغرب وسوريا مقطوعة بسبب اختطاف المهدي بن بركة .. وما كدت أنهي هذه الجملة حتى قاطعني القاضي ومنعني من إكمال حديثي .. حينها تدخل كل من الاساتذة : عبد الرحمان بن عمرو وعبد الرحيم بوعبيد ومحمد بوستة والمرحوم عبد الكريم بنجلون وطالبوا جميعا القاضي بمنح المتهم حقه الكامل في التعبير. فبادرت الى القول : سيدي الرئيس ، اذا كان هدف محكمتكم الموقرة هو الوصول إلى الحقيقة فلماذا لا تسمحوا لنا بالافصاح عن كل الحقائق ؟ واذا كنتم مقتنعين بمحاضر الشرطة فلا داعي لاستنطاقنا بالمحكمة انتم تتحدثون عن نتائج موجودة في هذه المحاضر ونحن نعطيكم أسبابها ..... لم يتركني أكمل وقمعني بشدة . استمرت المحاكمة على هذا الإيقاع إلى حدود 9 يوليوز الدي كان يحتفل فيه الملك بعيد ميلاده بقصر الصخيرات وفيه وقع الانقلاب العسكري الأول الذي قاده كل من اعبابو والمدبوح. انعكس هدا الحدث على سير المحاكمة فتوقفت لمدة يومين . وعندما استأنفت كانت المناقشة سريعة جدا وكان القاضي يكتفي بالسوؤال هل وقع هذا ؟ نعم او لا . الظرف السياسي جد مضغوط وضاعف الإنقلاب العسكري من حدته لذلك سعى المسؤلون إلى تسريع وثيرة هذه المحاكمة وإنهاء ملفها. طالبت النيابة العامة بالحكم بعقوبة الإعدام حضوريا في حق أربعة عشر معتقلا هم : محمد الحبيب الفرقاني ، أحمد بن منصور، انتظام عيسى ، رمسيس محمد ، أجار محمد المدعو سعيد بونعيلات، بوجمعة بن ابراهيم ، يزيد البركة ، شوجار عبد الرحمن ، أحمد بن جلون ، الحاج آيت المؤذن ، الافواه محمد المدعو الدحيش ، عواد محمد المدعو كندا ، أمرير الحسين وإبراهيم بن الجيلالي. وبفعل ظروف انقلاب الصخيرات وما حملته معها من تأزيم لعلاقة الملك بالجيش وبفقدان الثقة بينهما ، صدرت الأحكام على النحو الآتي : عشر سنوات سجنا في حق كل من الفرقاني واحمد بن منصور، وانتظام عيسى والبركة اليزيد واحمد بن جلون والحاج آيت المؤذن وافواه محمد الدحيش . وعشرين سنة سجنا نافدة في حق كل من رمسيس محمد وبوجمعة بن ابراهيم وشوجار عبد الرحمان . الحكم بالإعدام في حق أجار محمد سعيد بونعيلات . المؤبد في حق كل من عواد محمد وامرير الحسين وابراهيم بن الجيلالي . أما السي محمد اليازغي فكان نصيبه خمس سنوات سجنا موقوفة التنفيد ليعاد اعتقاله مرة أخرى عقب أحداث مارس 1973. منطقيا كان من المفروض أن تصبح قضيتنا جد ثانوية في ضوء الإنقلاب العسكري . لكن المنطق الإنتقامي هو الذي كان يهيمن فكان نصيبي منه عشرين سنة سجنا . كانت المحاكمة صورية والأحكام التي أصدرها القاضي اللعبي كانت جاهزة قبل المحاكمة لذلك لم يكلف نفسه البحث عن الحقيقة والاستماع الجيد للمتهمين ومقارعة حججهم والمقارنة بينها وبين ما هو موجود في محاضر الشرطة. وكانت المحاكمة تجري في أجواء يملاؤها التهديد والإرهاب إذ كانت القاعة غاصة برجال المخابرات والدرك والأمن والتدخل السريع ولم يكن يسمح لعائلاتنا بحضور المحاكمة إلا بصعوبة. بعد النطق بالأحكام مباشرة هم القاضي اللعبي بالخروج من القاعة رفقة ممثل النيابة العامة المجبود , فوقف جميع المعتقلين وأخذنا نردد بصوت واحد النشيد . فوقف القضاة وهيئة الدفاع والصحافيين . ومازلت أذكر صحافية فيتنامية جاءت خصيصا لتغطية الحدث ، تصرخ واضعة يدا في يد تعبيرا عن تضامنها معنا قائلةjusqu'au bout jusqu'au bout حتى النهاية ، حتى النهاية وكان النشيد يقول : كشف النقاب عن الوجوه الغادر ة وحقيقة الشيطان بانت سافرة إننا اتحاديون لا نفنى ولا نهون إننا لمنتصرون .. أصيب القاضي بالذهول . اخذ يسأل المستشارين : ماذا يقولون ؟ ماذا ؟ وضحوا له كلمات النشيد . اعتقدت حينها بأنه سيعود لعقد الجلسة ليضيف تهمة أخري وحكما آخر . اقتادونا بعدها إلى سجن بولمهارز . بتنا فيه تلك الليلة وفي الغد رحلونا إلى السجن المركزي بالقنيطرة . لدى وصولنا أزاحوا العصابات عن أعيننا كالعادة . وجدنا الزنازن مهيأة . ورجال التدخل السريع داخل السجن لابسين بذلة موظفي وزارة العدل . بدورنا غيروا لنا ملابسنا بالبذلة الموحدة للسجن . خصصت لكل واحد منا زنزانة . محمد المبارك البومسهولي يتبع