سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
اليازغي: ورقة مكتوب عليها «كيف هي حال قواعدنا» قادتني إلى السجن العسكري والفقيه البصري لم يتحمل مسؤوليته رفضت حلق شعري ضدا على «قانون» السجن حفاظا على مشاعر والدتي وأعطوني دلوا لقضاء حاجتي
تعود حكاية هذه الصفحات إلى سنوات طويلة، ليس التفكير فيها، بل تسجيلها، حيث كنت طرحت على الأستاذ محمد اليازغي في ربيع 1997، أثناء وجودنا في مدينة ورزازات، مقترح أن يكتب مذكراته لما ستكون لها من قيمة سياسية وتاريخية، دون أن تكون هناك ضرورة لنشرها، ووافقني، لكن انشغالاته في مهامه الحزبية، ثم في مهامه الوزارية بعد مارس 1998، جعل الفكرة تغيب عن أحاديثنا. في صيف 2003، أعدت طرح الفكرة عليه وأثناء مناقشتها، بدت لنا صعوبة أن يخصص يوميا وقتا لكتابة هذه المذكرات، فجاءت فكرة أن أسجل له، ليس مذكرات، بالمعنى المتعارَف عليه، بل تسجيل مساره كإنسان، على شكل حوار صحافي مطول، وهكذا كان. وسجلنا ما يقارب عشر ساعات، لكن النتيجة كانت فشلا، لأن جوابه عن كل سؤال كان جوابا عن كل شيء إلا عن شخصه ودوره وموقفه. كانت الساعات التي سجلتها، ليس عن محمد اليازغي بل تأريخا للمغرب وللحزب الذي انتمى إليه، إن كان من أجل الاستقلال أو من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في وطنه ولشعبه، وخلصت، مع أن خلاصتي لم تنل رضاه، إلى أن تجربة التسجيل غير موفقة أو على الأقل ليست كما تصورتها، وقبِل معي أن نعيد التسجيل، لكن بعيد ذلك، في نونبر 2003، انتخب كاتبا أول للحزب، فتأجل كل شيء. وفي صيف 2009، قررنا أن نعيد التجربة، فكانت هذه النتيجة، التي أستطيع القول إنني لم أنجح فيها، على الأقل بالنسبة إلي، في أن «أحفزه» على الخروج, بشكل كامل أو كبير نسبيا، من العامّ نحو الخاص الذي كان يتدفق منه خارج التسجيل في لقاءات ثنائية أو عائلية أو مع مجموعة من الأصدقاء، بل أكثر من ذلك كان التدفق أحيانا بعيد إنهائنا التسجيل، حيث كان، عدة مرات، يتحدث همسا أو يطلب إيقاف التسجيل ليشرح أو يُفصّل أو يروي. هذه الصفحات، ليست كل ما سجل، إذ كثيرا ما تذكرنا أحداثا ووقائع أثناء تفريغ الأشرطة أو التصحيح والمراجعة فأضفناها. هذه الصفحات، إذا لم تكن مذكرات، فإنها، وبالتأكيد، ستكون مرجعية لكل باحث أو مهتم بالشأن السياسي المغربي الحديث، لأنها ليست صفحات مراقب أو شاهد، بل هي صفحات فاعل ومؤثر، لعب دورا متميزا في مسيرة وطنه وحزبه. - اعتقلت مرة أخرى سنة 1970؟ نعم، لأن أحد العمال المهاجرين الاتحاديين، والذي كان قد جاء ليقضي عطلته في المغرب، حمل إلي في أكتوبر 1970 ورقة من المناضل محمد نافع، وكان من اللاجئين السياسيين في فرنسا، تتضمن أسماء أشخاص يمكنه الاتصال بهم في المغرب، كان من بينها اسمَا عمر بن جلون وأحمد بلقاضي واسمي واسمان أو ثلاثة أسماء أخرى، وقال له: عندما تلتقي أيا منهم، أبلغه أن نافع يسألك كيف هي حال «قواعدنا»؟ كان اختطافي في شهر رمضان. ويومها، كنت قد أوصلت للتو خطيبتي سعدى إلى منزل خالتها في ساحة الجولان، وعاقد العزم على الذهاب لحضور لقاء مع أبي بكر الشرقاوي لنتابع جميعا جلسة ليلية في البرلمان. فبعد أن تركت سعدى في منزل خالتها وعدت لأخذ سيارتي وجدت شرطيا واقفا بيني وبين بابها، وفي ذلك الوقت أتت من خلفي سيارة فاركونيت دفعني داخلها ذلك الشرطي وأقفل الباب، وقام عدد من رجال الشرطة داخل الفاركونيت بتقييد يديّ ورجليّ تقييدا محكما ووضع شريط لاصق على فمي وعصابة على عينيّ دون توجيه أي كلام إلي أو الاقتراب مني، ولحظتها انشغل ذهني بالتفكير في الوجهة التي سيأخذونني إليها من خلال تخيل الطريق الذي تسير فيه السيارة، وأدركت أنهم أخذوني إلى قبو في مجمع يسكن فيه رجال الشرطة يوجد بالقرب من مقر رجال المطافئ في أكدال، والعلامة التي استندت إليها في معرفة ذلك هي عقبة (طلْعة) صغيرة أحسست بأن السيارة ارتقتها، وبقيت هناك ممددا في السيارة حتى شارف الصبح على الانبلاج، فأخرجوا السيارة وأخذوني إلى مكان مجهول. في ذلك المكان، بعد أن فكوا وثاق رجلي وأزالوا الشريط اللاصق من على فمي، مع إبقاء العصابة بالمقابل على عيني، أدخلوني إلى غرفة، وهناك فقط أزالوا تلك العصابة عن عينيي فوجدت نفسي وحيدا. بقيت يوما كاملا هناك دون أن يحدثني أحد، وعند حلول وقت المغرب أتوا بالفطور، وكان عبارة عن شربة «حريرة» وحبات من التمر. كانت تلك الزنزانة، حسب ما تبين لي، في ثكنة المطار العسكري في سلا، وقد جعلني حدسي أرجح ذلك لسماعي هدير الطائرات التي كانت تقلع وتحط في المطار المدني القريب من المطار العسكري، وأيضا صوت مؤذن المسجد الذي يوجد في الحي العسكري الملتصق بالمطار. وقد بقيت في ذلك السجن السري شهرا كاملا قبل أن يتم نقلي إلى درب مولاي الشريف. وساعتها، علمت عائلتي بمكان وجودي، لكنها لم تستطع كما لم يستطع المحامون أنفسهم زيارتي أو رؤيتي حتى نقلت، صحبة المعتقلين الآخرين، إلى السجن العسكري في القنيطرة. بقيت شهرا كاملا في المعتقل بالمطار العسكري معصوب العينين ومقيد اليدين، وكانوا قد وضعوا رهن إشارتي دلوا لاستعماله عند رغبتي في قضاء حاجاتي البيولوجية، وهو ما رفضته، وبقيت أسبوعا دون أن أقضي حاجاتي الطبيعية حتى لبوا طلبي بقضاء حاجتي في المرحاض. بقيت شهرا دون أن أخضع لأي تحقيق أو يوجه إلي أي سؤال.. لم أكن أرى أحدا إلا وقت إحضار وجبة الفطور والسحور والدخول إلى المرحاض. كانت هناك زنزانات أخرى فيها معتقلون آخرون، لم أتعرف على أحد منهم، وقد علمت ذلك من خلال فتح أبواب الزنازين لإخراجهم أو إدخالهم. وبالنسبة إلى أفراد العائلة، فبعد أن تأخرت كثيرا في العودة إلى المنزل يوم اختطافي، قاموا بإجراء اتصالات مع الأصدقاء والإخوان في الاتحاد عساهم يجدونني عند أحدهم. ولما لم يعثروا لي على أثر عندهم، ذهبوا إلى مراكز الشرطة والمستشفيات، كما أبلغوا عبد الرحيم بوعبيد بالأمر. وقد أثار اختطافي ضجة كبيرة في البلاد، وكتب علال الفاسي مقالا تنديديا في صحيفة «العلم»، لأن الشرطة أنكرت الاختطاف والاحتجاز، في محاولة لفسح المجال للاعتقاد بأن جهات مجهولة هي التي تقوم باختطاف المواطنين. وبعد شهر من الاحتجاز في المطار العسكري، أخذوني إلى معتقل درب مولاي الشريف، ولحظتها علمت العائلة والحزب بمكان اعتقالي، وإن كان لم يسمح لأحد بزيارتي. بقيت معصوب العينين ومقيد اليدين، لكنني تعرفت على من معي. فعلى عكس وضعي في المعتقل السري بمطار سلا العسكري الذي كنت فيه بمفردي في الزنزانة، كنت في درب مولاي الشريف ممددا في الممر (الكولوار)، وكان إلى جانبي آخرون. وكان هناك أيضا معتقلون في الزنازين. وكان بالقرب مني مصطفى المير ومحمد الجدايني من وجدة، وهما مناضلان اتحاديان، لكني لم أكن أعرفهما سابقا. وبعد شهر، استدعيت من أجل الخضوع للاستنطاق. وقد تمحور ذلك الاستنطاق حول علاقتي بالفقيه محمد البصري، فقلت لهم إنني كنت التقي به في باريس وغيرها من العواصم، الأوربية أو العربية، كأحد مؤسسي الاتحاد الوطني المقيمين في المهجر.. وهي مسألة عادية أن يتصل المناضلون في الخارج ويلتقوا لتبادل المعلومات ودراسة أوضاع الوطن ومشاكله. وسئلت عن منظمة سرية وعن القواعد التابعة لها في كل مناطق البلاد، فقلت لهم إنني لا أعلم شيئا عنها، والمنظمة الوحيدة التي أنشط فيها هي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والقواعد التي أعرفها هي المناضلون الاتحاديون في القاعدة، وإننا في الاتحاد بالداخل كنا بصدد الإعداد لعقد المؤتمر الوطني لولا تجميد قادة الاتحاد المغربي للشغل للجنة التحضيرية. ولم تكن هناك تهمة موجهة إلي باستثناء قضية الورقة التي كان يحملها ذلك الاتحادي المهاجر والتي كان قد سلمها إليه محمد نافع، دون أن أعرف عنها شيئا، ولم أعلم بها إلا أثناء المحاكمة حيث توبعت بعدم التبليغ. وقد جرى استنطاقي في إطار من الاحترام، لكن ظروف الاعتقال في درب مولاي الشريف كانت سيئة وقاسية. كنت أسمع صراخ المناضلين الذين يتعرضون للتعذيب الشديد، فأتألم معهم. قدمت إلى النيابة العامة نهاية ديسمبر، وكان محضر التحقيق معي عاديا، فقد تضمن الأسئلة التي وجهت إلي وأجوبتي عنها كما قلتها. وضعنا في السجن العسكري في القنيطرة لأن أحد المعتقلين معنا كان ضابط صف، وبالتالي فإن الملف كله وضع بين يدي المحكمة العسكرية. وانتقل معي إلى السجن العسكري عدد من المناضلين، من بينهم بركة اليزيد، الذي سينسحب من الاتحاد سنة 1983 ويؤسس حزب الطليعة مع أحمد بن جلون. وبعد دخولي السجن، انقطع اتصالي ببقية المعتقلين وبالعالم الخارجي. وكان مدير السجن هو الكوموندون بوعزة، الذي سيتكلف فيما بعد لفترة معينة بمعتقل تازمامارت. وأذكر أنهم وضعوني، يوم وصولي مساء، في زنزانة كانت عبارة عن ثلاجة مشكلة من دكة من الإسمنت، عليها كيس/خنشة قديمة فوقه غطاء رقيق مع باب حديدي ودون أي نافذة. أيامها كان برد قارس يلف المكان. وقد جاء عندي المدير في الصباح، فأبلغته بوضعية الزنزانة بصيغة من الاستنكار، فقال لي: «عْلاه احنا عندنا هيلتون»، فأجبته قائلا: إنني لا أطلب الإقامة في هيلتون، وإنما أطالب باحترام القواعد القانونية لنظام السجن، أنا بحاجة إلى 2 كاشات (لحافين)، فرد عليّ بقوله: «لا، النظام في السجن العسكري ليس هو نظام السجن المدني. القانون هو ما تراه في الزنزانة: خنشة فوق الدكانة وعندك كاشة وحْدة. فقلت له: لكنها أيام البرد، فأجاب: طيب سننظر في ذلك. وكل ما فعله بعدها أنه كانت هناك كوة مفتوحة قرب سقف الزنزانة فأمر بسدها عن طريق لحمها بقطعة حديد، فأصبحت الزنزانة مظلمة وبدون هواء، فما إن تصل الساعة الثالثة عصرا حتى يحل بالمكان ظلام دامس. إضافة إلى أنه لم تكن ثمة فسحة أو خروج من الزنزانة، فلم نكن نحس بالحياة، والحالة هذه، إلا عند الخروج لمقابلة المحامي لدى زيارته، ولم يكن يفتح الباب الحديدي للزنزانة إلا لما كانوا يأتوننا بالأكل الذي كان يقتصر على القطنيات وما فيها من حشرات.. فكنت أسعى جاهدا لفرز العدس أو الفول عن الحشرات العالقة به حتى أستطيع أكل بعض منه، وعلمنا فيما بعد أن هذا هو أكل العسكريين المعتقلين، لكن المنع من الفسحة والخروج من الزنزانة كان يقتصر علينا نحن المعتقلين الاتحاديين الذين كان يقوم بحراستهم داخل السجن رجال الشرطة وليس الجنود الذين كان دورهم محددا في الحراسة الخارجية.. بعد انتقالي إلى السجن العسكري في القنيطرة سيسمح لعبد الرحيم بوعبيد بأن يزورني بصفته محاميا ثم لأفراد العائلة الذين أتوا لي بالملابس، خاصة الجلباب الصوفي، لأني اعتقلت في الخريف وملابسي كانت صيفية، وانتقلت إلى السجن العسكري في القنيطرة في ديسمبر، أي في فصل الشتاء حيث البرد القارس. كما أتت الوالدة فيما بعد لرؤيتي والتي كنت قد امتنعت، حفاظا على مشاعرها، عن حلق شعر رأسي عند دخولي إلى السجن العسكري، بينما كانت القاعدة هي أن يتم حلق شعر رأس كل نزيل جديد. وقلت لمدير السجن إن حلق الشعر يكون للمحكوم عليهم بالإعدام، ونحن لم يحكم علينا بعد، لكن مدير السجن رد بأن القانون في السجن العسكري هو أن يحلق الشعر لكل من يدخل المعتقل، فطلبت من عبد الرحيم التدخل للحيلولة دون حلق شعري على الأقل حتى تزورني الوالدة وتراني بشعري، وهذا ما حصل فعلا. وقد تواصل التحقيق معنا بعد نقلنا إلى السجن العسكري، واستمر الحال على ذلك طوال الأيام الأولى من وجودنا هناك إلى أن أعلن عن موعد المحاكمة، حيث وجهت إلينا تهمة الإخلال بالأمن الداخلي والخارجي ومحاولة قلب نظام الحكم، لكن المحكمة العسكرية قررت الدفع بعدم الاختصاص، فأحيل الملف على محكمة مراكش المدنية. كان واضحا بالنسبة إلي وإلى مجموعة من المسؤولين الاتحاديين أننا اعتقلنا بسبب الورقة التي أرسلها محمد نافع، يطلب فيها أن نعطيه معلومات عن «قواعد» الاتحاد، لكن بالنسبة إلى الآخرين كان ما حصل هو أن أحد المسؤولين الاتحاديين في أمزميز ذهب إلى السلطات وأبلغها بأن أشخاصا من الخارج حلوا عنده، بتعليمات من الحبيب الفرقاني، من أجل التدرب على حمل السلاح في الأطلس الكبير في أفق القيام بثورة مسلحة، فاعتقل الفرقاني، المسؤول عن تنظيمات الاتحاد الوطني في جهة مراكش، وهكذا انطلقت عملية القمع واستمرت الاعتقالات واستنطاق العناصر التي دخلت إلى المغرب قادمة من الجزائر وتلك التي كانت على اتصال بها، ولم يعترف أحد أمام المحكمة بأنه أراد قلب النظام أو المس بالأمن العام، أما بالنسبة إلي وإلى من معي فستصبح التهمة، على خلفية «الورقة»، هي عدم التبليغ. وقد كان المحققون يركزون، أثناء استنطاقي، على كلمة «قواعد»، وأدركت أن البوليس كان قد فهم من الكلمة معناها الحربي، أي أن المقصود بها هو القواعد العسكرية وقواعد التدريب على استعمال السلاح، بينما كان محمد نافع يقصد بالكلمة -وأنا على يقين من ذلك- قواعد المناضلين. ولم يتحمل الفقيه محمد البصري مسؤولياته من خلال الاعتراف بأنه كان صاحب المبادرة والتي قام بها خارج خطة الاتحاد ودون الرجوع مسبقا إلينا، وأنه دفع بمناضلين وشباب إلى مغامرة غير محسوبة العواقب. وبعد حكم المحكمة العسكرية بعدم الاختصاص، أحيلت القضية على محكمة مدنية، فنقلنا إلى السجن المدني بولمهارز في مراكش، لكن ذلك الانتقال من القنيطرة إلى مراكش كان عذابا حقيقيا. كنا مجموعة تعُدُّ سبعة معتقلين داخل سيارة فوركينيت، معصوبي الأعين ومقيدي الأيدي وراء الظهر.. لم يكن هناك وجود آنذاك للطريق السيار. ولما وصلنا إلى السجن المدني في مراكش (سجن بولمهارز)، أدخلونا نحن السبعة إلى زنازين العقوبات. وقد كان معي الحبيب الفرقاني وسعيد بونعيلات وأحمد بن جلون ومحمد رمسيس وتانونتي محمد وبومهدي، المحامي بالدار البيضاء. وكان قرب الأسقف العالية لتلك الزنازين كوات صغيرة فكنا، على الأقل الجيران منا، نتداول رغم الصعوبات.. كانت زنزانتي بجانب زنزانة الحبيب الفرقاني على اليمين وزنزانة بومهدي على اليسار الذي كان يقول لي: يا سي محمد راه غادي يخطفونا، وكنت أرد عليه، ودون أن أعرف حالته الصحية، قائلا: إنهم اختطفونا منذ مدة وحوكمنا ونحن الآن على أبواب محكمة جديدة، لكنه كان يردد: لا لا لا، سوف يخطفوننا. الحقيقة أن الأستاذ بومهدي أصيب بخلل في عقله نتيجة التعذيب الوحشي الذي مورس عليه، وعاش حتى بعد إطلاق سراحه عليل الصحة النفسية. وكان حراس سجن مراكش هم أنفسهم الذين كانوا يتولون حراستنا في السجن العسكري بالقنيطرة، وكانوا كلهم من رجال الشرطة وأغلبهم من عين الشعير (مسقط رأس الجنرال أوفقير). لكنهم في مراكش كانوا يرتدون الزي الخاص بإدارة السجون، دون أن يكونوا تابعين لها، بعد أن كان لهم في القنيطرة زي عسكري. وكنا نلاحظ أن كل واحد من هؤلاء الحراس مرفوق بحارس من إدارة السجن، تذكرت واحدا منهم كنت قد عرفته في السجن العسكري، وكنت أقول له كلما مر أمامي: إيوا جات معاك الكسوة، لإشعار حراس السجن بأننا نعرف من هم رجال الشرطة المقنعون في لباس حراس السجن ومن هم الموظفون الحقيقيون لإدارة السجون. وكانت معاملتهم لنا عنيفة وقاسية. وقد مكثنا نحن السبعة في زنازين العقوبة فترة طويلة قبل أن يحولونا على قاعات الاعتقال العادية، باستثناء أحمد بن جلون وسعيد بونعيلات اللذين بقي كل منهما في زنزانة انفرادية، وكنا قد كسبنا عطف مدير السجن وأغلبية حراس إدارة السجون.. وقد قضت المحكمة لفائدتي بالبراءة لكنني بقيت في السجن بسبب عراك مع شرطي شتمني فضربته، لذلك أعلنت النيابة العامة أني متابع في قضية أخرى ويجب أن أبقى في السجن، وهو ما حصل فعلا حيث بقيت 3 أشهر أخرى بعد صدور حكم المحكمة الذي برأ ساحتي. وقد وجدت المحكمة نفسها محرجة، لأن الملف قدم على أساس أنه يتعلق بحارس من حراس السجن فيما تشبث هو، رغم أوامر رؤسائه، بأنه ينتمي إلى الشرطة لتصدر المحكمة في النهاية حكما يقضي في حقي بالحبس ثلاثة أشهر مع إيقاف التنفيذ. - لماذا ضربت الشرطي؟ في وقت الاستراحة، كنت واقفا يوما عند زنزانة سعيد بونعيلات نتبادل الأخبار، حيث هو من سبق أن أخبرنا بانقلاب الصخيرات يوم 10 يوليوز 1971، فجاء الشرطي وأراد إبعادي عن بونعيلات، رفضت، فسبني، فما كان مني إلا أن ضربته فسال الدم من فمه، ثم جاء بعض المعتقلين يحتجون عليه، فتوجه إلى القاعدة التي يوجد فيها أعضاء الشرطة وحمل سلاحه بنية الفتك بنا في الساحة، ولولا تدخل مدير السجن بالغاري وحراس السجن لحصلت مجزرة في صفوفنا. - بينما أنتم في السجن كانت هناك اتصالات بدأها القصر مع الحزب.. بعد أسبوع على المحاولة الانقلابية في الصخيرات، في يوليوز 1971، اتصل الملك الحسن الثاني بعبد الرحيم بوعبيد وطلب منه اللقاء، وأخبرني الأخير بطلب العاهل وطلب رأيي فأجبته بقولي: «يصعب إجراء المقابلة والدخول في مفاوضات ونحن في السجن، فقبل المقابلة يجب أن يوقف الملك المحاكمة ويطلق سراحنا». أخبر عبد الرحيم الملك بذلك، وهو ما لم يرق له، فكان رد فعله أن فعل العكس، وبدلا من وقف المحاكمة وإطلاق سراحنا، استمرت المحاكمة وطالبت النيابة العامة ب50 إعداما، وطالبت في حقي بالإدانة بتهمة عدم التبليغ وبسجني 5 سنوات، وإن لم تأت الأحكام بتلك القساوة. وبعد الخروج من السجن، ذهبت لاستئناف عملي كمحام، لأني كنت موقوفا عن العمل في وزارة المالية منذ أن تم طردي سنة 1963، وقبل رجوعي إلى المغرب 1965 من باريس بقيت مسجلا في باريس كمحام أتنقل بين الرباط وباريس، وعندما أنهيت تدريبي أصبحت محاميا بهيئة باريس، وفي سنة 1968 طلبت تسجيلي في هيئة محامي الرباط وعملت في مكتب عبد الرحيم بوعبيد. حزبيا، ما خلصنا إليه بعد نقاش طويل هو أن قرارات مؤتمر 1962 جاءت بشكل توافق ثنائي بين قادة الحزب وقيادة النقابة، وكأننا منظمتان في حزب واحد. وسياسيا، عند خروجي من السجن كان النقاش يدور حول العمل الوحدوي الذي بدأه عبد الرحيم بوعبيد مع قادة الاتحاد المغربي للشغل، لأن ما اتفق عليه سنة 1967 لم يوصل من خلال العمل الوحدوي إلى خطوات عملية ثابتة، لذلك أصبح نشاط الاتحاد الوطني عمليا مجمدا ولم يستأنفه إلا سنة 1970 بعد الإعلان عن تأسيس «الكتلة الوطنية» في 27 يوليوز. وكنت قد شاركت في المحادثات الممهدة لذلك، إذ كلفت من طرف بوعبيد بالاتصال الأولي بعلال الفاسي وعبد الكريم غلاب. وقد استأنفت الكتابة العامة للاتحاد الوطني نشاطها بعد الإعلان عن تأسيس «الكتلة الوطنية» وإن كان أعضاؤها ظلوا لا يلتقون إلا في اجتماعات الهيئة العليا للكتلة الوطنية التي كان لتأسيسها، كأول عمل وحدوي بين الاتحاد وحزب الاستقلال، صدى كبير في المغرب وخارجه. وتشكلت الهيئة العليا من علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد وامحمد بوستة وعبد الله إبراهيم وامحمد الدويري والمحجوب بن الصديق وأبو بكر القادري ومحمد الحبابي. ولن أنسى قيام الأستاذ امحمد بوستة بالمشاركة في الدفاع عنا أمام محكمة مراكش. وفي هذه المرحلة، أي نهاية 1971، دخلت الكتلة الوطنية في حوار مع الملك، وكان مطروحا عليها أن تشارك بحكومة تسهر على تنظيم الانتخابات. وفي هذا السياق، كان داخل الحزب رأيان: الأول المشاركة بحكومة مؤقتة للإشراف على الانتخابات التشريعية، وكنت أنا مع هذا الرأي، فالانتخابات ستفرز مؤسسات ذات مصداقية إذا ما كانت نزيهة وديمقراطية، فيما كان عبد الله إبراهيم مع تعاقد بين «الكتلة الوطنية» والملك على تشكيل حكومة الإصلاحات. وفي النهاية، قرر عبد الرحيم بوعبيد ألا يشارك في هذه الحكومة وترك لعبد الله إبراهيم التفاوض مع الحسن الثاني، على أن يشارك الاتحاد بوزراء شباب، وكان التفكير آنذاك في عبد العزيز العلمي وأحمد الحليمي ومحمد بنسعيد (المحامي في فاس). لكن اللقاء بين الملك وعبد الله إبراهيم لم ينته إلى نتيجة إيجابية بسبب الصيغة التي دافع بها عبد الله ابراهيم عن اقتراحاته. وفي خضم هذا النقاش، جرى حديث حول الدستور، وشكل الملك لجنة لإعداد مشروع الدستور، كان من بين أعضائها عبد الرحيم بوعبيد إلى جانب علال الفاسي وأحمد عصمان وإدريس السلاوي. لكن وقبل أن تنهي اللجنة عملها، عرض الحسن الثاني، فجأة ودون أن نعرف السبب، مشروع الدستور على الاستفتاء، في حين أن النقاش حول الدستور داخل اللجنة لم يكن قد انتهى بعد ومشروع النص النهائي لم تكن صياغته قد تمت وكان موقف أحزاب الكتلة موحدا، حيث اتفق الحزبان على المشاركة في التصويت ورفض النص المعروض من خلال التصويت ب«لا».