سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الحسن الثاني وبخ أحمد البيضاوي بعد أن زارني في المستشفى إثر حادث الطرد الملغوم أغلقوا علي في غرفة بمستشفى ابن سينا لمدة 35 يوما ولم يزرني أي طبيب باستثناء الممرض بوبكر الحسوني المشارك في اغتيال بنبركة
تعود حكاية هذه الصفحات إلى سنوات طويلة، ليس التفكير فيها، بل تسجيلها، حيث كنت طرحت على الأستاذ محمد اليازغي في ربيع 1997، أثناء وجودنا في مدينة ورزازات، مقترح أن يكتب مذكراته لما ستكون لها من قيمة سياسية وتاريخية، دون أن تكون هناك ضرورة لنشرها، ووافقني، لكن انشغالاته في مهامه الحزبية، ثم في مهامه الوزارية بعد مارس 1998، جعل الفكرة تغيب عن أحاديثنا. في صيف 2003، أعدت طرح الفكرة عليه وأثناء مناقشتها، بدت لنا صعوبة أن يخصص يوميا وقتا لكتابة هذه المذكرات، فجاءت فكرة أن أسجل له، ليس مذكرات، بالمعنى المتعارَف عليه، بل تسجيل مساره كإنسان، على شكل حوار صحافي مطول، وهكذا كان. وسجلنا ما يقارب عشر ساعات، لكن النتيجة كانت فشلا، لأن جوابه عن كل سؤال كان جوابا عن كل شيء إلا عن شخصه ودوره وموقفه. كانت الساعات التي سجلتها، ليس عن محمد اليازغي بل تأريخا للمغرب وللحزب الذي انتمى إليه، إن كان من أجل الاستقلال أو من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في وطنه ولشعبه، وخلصت، مع أن خلاصتي لم تنل رضاه، إلى أن تجربة التسجيل غير موفقة أو على الأقل ليست كما تصورتها، وقبِل معي أن نعيد التسجيل، لكن بعيد ذلك، في نونبر 2003، انتخب كاتبا أول للحزب، فتأجل كل شيء. وفي صيف 2009، قررنا أن نعيد التجربة، فكانت هذه النتيجة، التي أستطيع القول إنني لم أنجح فيها، على الأقل بالنسبة إلي، في أن «أحفزه» على الخروج, بشكل كامل أو كبير نسبيا، من العامّ نحو الخاص الذي كان يتدفق منه خارج التسجيل في لقاءات ثنائية أو عائلية أو مع مجموعة من الأصدقاء، بل أكثر من ذلك كان التدفق أحيانا بعيد إنهائنا التسجيل، حيث كان، عدة مرات، يتحدث همسا أو يطلب إيقاف التسجيل ليشرح أو يُفصّل أو يروي. هذه الصفحات، ليست كل ما سجل، إذ كثيرا ما تذكرنا أحداثا ووقائع أثناء تفريغ الأشرطة أو التصحيح والمراجعة فأضفناها. هذه الصفحات، إذا لم تكن مذكرات، فإنها، وبالتأكيد، ستكون مرجعية لكل باحث أو مهتم بالشأن السياسي المغربي الحديث، لأنها ليست صفحات مراقب أو شاهد، بل هي صفحات فاعل ومؤثر، لعب دورا متميزا في مسيرة وطنه وحزبه. - بعد الانفجار، فقدت الوعي ووقعت على الأرض.. ما أذكره أنه تراءت لي مروج خضراء. قدرت أني ظللت مغشيا علي لوقت طويل، لكن حين استعدت الوعي كنت لا أزال على الباب لكن داخل المنزل، كانت العائلة في حالة ذهول، طلبت من سعدى أن تتصل ببوعبيد، فردت علي بأنها لا تعرف رقم هاتفه، فأمليته عليها. في ذلك الوقت، جاء رشيد بلافريج وزوجته، لأنه كان يسكن في منزل عائلته المقابل لمنزلي، وحملني على متن السيارة وأخذني إلى مستشفى ابن سينا، وكنت في حالة وعي، حيث بقيت ممسكا طوال الطريق بأصبعي المصاب، وكانت صدفة غريبة أن وجدت الدكتور بربيش والدكتور التونسي والدكتور الماعوني، وأنا أعرفهم جميعا، لا زالوا في المستشفى يتناقشون في أمر ما ويتوادعون، لأن اليوم التالي كان يوم عيد الأضحى. وحين أعلمهم رشيد، بواسطة الهاتف الداخلي للمستشفى، بوجودي مصابا في قسم المستعجلات، أتوا بسرعة ولحق بهم الدكتور سعيد، شقيق سعدى، ونقلوني مباشرة إلى غرفة العمليات، وبذلك لم يتم تسجيل دخولي في سجلات المستشفى، وبالتالي فقد تم إبعاد الشرطة عني، حيث كان البحث عني جاريا في مختلف مصحات الرباط، مما وفر وقتا كافيا لحضور العائلة وإخوان من الحزب. وأتذكر أن أول من جاء عندي قبل العملية، وأنا في حالة وعي، كان عبد الرحيم بوعبيد وعلال الفاسي. وبعد دخولي غرفة العمليات، لاحظ بوعبيد وصول رجال الشرطة السرية، فبدأ بالصراخ والتنديد بصوت عال بمحاولة اغتيالي للفت الانتباه وإبعاد رجال الشرطة، من جهة، ولإيصال رسالة إلى الحاكمين، من جهة ثانية. وأخبرتني العائلة بأنه، بعد دخولي في غيبوبة، جاء المحجوبي أحرضان وأبو بكر القادري، وبعد ذلك لم أعد أتذكر أي شيء، غير أنني علمت من العائلة فيما بعد أن العديد من الإخوان والأصدقاء جاؤوا لزيارتي، لكن أحدا من الدولة لم يأت باستثناء رجال الشرطة الذين قدموا من أجل إجراء التحقيق، كما أرسلت الدولة شرطيا للحراسة، لكن الإخوان في الحزب رفضوا تكفل الشرطة بالحراسة، وعبؤوا أعضاء الشبيبة الاتحادية وأفراد عائلتي ونظم الحبيب الشرقاوي حراسة على مدى 24 ساعة، لأنهم خافوا من أن تقوم الشرطة أو آخرون بإكمال ما فشلوا في تحقيقه بواسطة الطرد الملغوم. أخذني الأطباء وأنا في حالة وعي إلى غرفة العمليات الجراحية، وهناك خضعت لعملية استمرت لمدة 16 ساعة، أولا من أجل تنظيف كل الجروح ثم معالجتها، وتناقش الأطباء حول ما إن كان يجب فتح الجوف والبحث في الداخل أم عليهم أولا أن يسدوا الجروح المفتوحة التي تنزف، وكان رأي الدكتور التونسي أن يتم البحث في الداخل، وذلك ما كان، ليجدوا بالفعل أن البارود المتفجر كان قد تغلغل في الجوف وأن الرئتين قد اسودتا بالكامل، وبسبب ذلك كنت أتنفس بصعوبة، كما شعرت بأن سمعي أصبح ضعيفا ليتبين أن طبلتي الأذنين قد انفجرتا، أما على مستوى القولون فقد قرر الأطباء إزالة 20 سنتيمترا منه كانت قد تضررت بشكل بالغ، كما اتفقوا، بعد نقاش طبعه بعض الاختلاف في الآراء، على إبقاء الأصبع على ما هو عليه ومعالجته لاحقا. وأبلغني الأطباء بأن الرئتين والأذنين والحروق ستحتاج إلى علاج فيما بعد وسيستغرق الشفاء من الإصابات التي لحقتها وقتا طويلا. وأكد لي الدكتور التونسي أن من أسباب مقاومة جسمي أنني لم أتناول الخمر قط في حياتي. مكثت بالمستشفى مدة شهر ونصف تقريبا، ظل يتابع حالتي خلالها الدكتور التونسي وطبيب كلومبي بالنسبة إلى الرئتين، والدكتور سعيد الحبابي الذي حافظ على ما بقي من إبهام يدي اليسرى وعززه بسفود حديدي إلى حين الالتئام. وأتذكر أن أحمد البيضاوي، رئيس الجوق الوطني للموسيقى، زارني في المستشفى لأنه كانت تجمعني به أنا وبعض الأصدقاء علاقات متينة تأسست على إعجابنا بفنه وإبداعه، وأخبرني فيما بعد بأن الملك الحسن الثاني لما التقى به وبخه على زيارته لي، وقال له: كلما كان هناك خصم لنا إلا وتقربت إليه. طبعا، فتحت النيابة العامة التحقيق في الطرد الذي توصلت به وانفجر، وكذا الطرد الذي توصل به عمر بنجلون ونجا لأن الطرد لم ينفجر. غير أن التحقيق لم يُستكمل. وقد أبلغني إدريس حصار، مدير الأمن الوطني، بعد ذلك بسنوات، بأنه كان قد فتح تحقيقا مباشرة بعد محاولة الاغتيال، لكن حدث أن عين، في نفس الأسبوع، مديرا للمكتب الشريف للشاي والسكر فأُقفِل التحقيق بعد مغادرته لإدارة الأمن الوطني. وستعلن هيئة الإنصاف والمصالحة، التي نصبها الملك محمد السادس للبحث في الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان المقترفة خلال الفترة الممتدة من 1956 إلى 1999، أن الجنرال الدليمي كان متورطا في إرسال تلك الطرود الملغومة. وتأكد لدينا، حزبيا، أن الطرد جاء من المخابرات، وطلب الحزب رسميا فتح تحقيق، لكن الدولة لم تستجب وكان مسؤولوها يكتفون بالقول إن التحقيق جار، لكن ما تلا محاولة الاغتيال من أحداث، خاصة أحداث مارس 1973، سيؤجل متابعة الموضوع، فقد خرجت من المستشفى في الأسبوع الأخير من فبراير، وفي بداية مارس ستنفجر أحداث مولاي بوعزة التي أدخلت الاتحاد والدولة على السواء في في دوامة أخرى. - جرى اعتقالك على خلفية أحداث مارس 1973، وأنت لا تزال مصابا؟ بالنسبة إلى أحداث مارس 1973، فقد فسرها الفقيه محمد البصري بأن إخواننا اللاجئين في الجزائر قرروا الدخول إلى المغرب مسلحين لأنه صار من الصعب عليهم البقاء هناك، وبأنه شخصيا لم يكن صاحب القرار لأنه كان موجودا وقتها في دمشق. لكن خلال المحاكمة التي جرت بعد ذلك، تبين أنه كان مسؤولا وأن السلاح جاء من ليبيا عن طريقه، فقد كان الفقيه هو القائد الفعلي لمبادرة تفجير مواجهة مسلحة في عدة مناطق، وكان يتوصل من الداخل بتقارير تقول إن الأوضاع في المغرب قابلة للانفجار وإن أية حركة تقوم، وبشكل خاص في المناطق الجبلية، ستكون لها آثار واسعة تؤدي إلى اشتعال فتيل انتفاضة شعبية عارمة وبالتالي إلى تغيير الوضع أو، على الأقل، إلى إجبار النظام على تغيير سلوكه، وشهادة الإخوان الذين كانوا معنا في السجن تؤكد أن الفقيه محمد البصري هو الذي أشرف على كل شيء وخطط للعمليات التي انطلقت وشملت عدة أقاليم، خاصة في الأطلس المتوسط بمولاي بوعزة وإقليم كلميمة خصوصا المناطق الجبلية (بأملاكو)، وأنه هو أيضا من شجع محمد بنونة، وكُنيته محمود معروف، على الدخول إلى المغرب وقيادة العمليات في الداخل.. كل ذلك أقدم عليه بدون إشعار قيادة الاتحاد التي كانت منشغلة بالتحضير للمؤتمر الوطني الثالث. وقع الهجوم الأول في مولاي بوعزة على ثكنة كانت بها أسلحة. وقد كان هذا الحدث، الذي قتل خلاله مخزني، هو الشرارة التي أججت نار الانتفاضة، وعرفت البلاد بعده تعبئة واستنفارا في صفوف القوات المسلحة الملكية والدرك الملكي والقوات المساعدة، واضطر المناضلون القادمون من الجزائر إلى الدخول في مواجهة بالسلاح، مثلما حصل في أمالاكو حيث سقط محمد بنونة ومعه آخرون. وانطلقت حملة مطاردة واسعة من طرف قوات الجيش، اعتقل إثرها كل من كانت له علاقة بالعمليات، كما شنت الدولة حملة اعتقالات واسعة في عدد من المدن، شملت مئات المناضلين الاتحاديين الذين لم تكن لهم علاقة بهذه العمليات، إلى جانب عناصر كانت على اتصال بالفقيه محمد البصري الذي سهر على تدريبها في سوريا. وهكذا لم تعد السجون ومراكز الاعتقال السري، مثل مركز درب مولاي الشريف والكوربيس، كافية نظرا إلى ضخامة أعداد المعتقلين، مما استدعى فتح معتقلات سرية أخرى في أكدز وتاكونيت وغيرهما من المدن، وهي المعتقلات التي بقي فيها المناضلون لفترة طويلة، وستظهر المحاكمات أن التعذيب بكل أصنافه كان عاما وواسعا وشاملا بطريقة منهجية. يوم 21 مارس، دق باب منزلي أفراد من الشرطة بزي مدني، لكن العائلة أبلغتهم بعدم وجودي في المنزل، وجاء رشيد وساعدني في القفز على السور الفاصل بين منزلينا وخرجنا من باب منزله وتوجهنا إلى المستشفى، وهناك بحثنا عن الدكتور التونسي لكننا لم نجده، فقررنا التوجه إلى سكن الدكتور سعيد بلافريج داخل المستشفى، لكن رجال الشرطة كانوا قد وصلوا وحاصرونا وطلبوا منا مرافقتهم إلى المنزل للإجابة عن بعض الأسئلة. وفي المنزل طرح علي رجال الشرطة بعض الأسئلة قبل أن يطلبوا مني مرافقتهم إلى الدائرة الأمنية الثانية للتوقيع على المحضر، لكن العائلة رفضت السماح لهم باقتيادي، وبعد إصرار وافقوا على أن يرافقني رشيد الذي بقي ينتظر في ممر مقابل غرفة التحقيق لعدة ساعات، قبل أن يطلبوا منه المغادرة والعودة إلى المنزل على أن ألحقه فيما بعد. كان رجال الشرطة، بعد أن خرجت من المنزل أنا ورشيد نحو المستشفى، قبل إلقاء القبض علي، قد اقتحموا، بالإضافة إلى منزلي، منزل رشيد أيضا، وقاموا بتفتيشه تفتيشيا دقيقا. وبعد عدة ساعات، أخرجوني من الدائرة الأمنية في حالة اعتقال بعد أن وضعوا عصابة على عينيّ وربطوا يديّ ورجليّ ووضعوني في سيارة وأخذوني مباشرة إلى معتقل درب مولاي الشريف، حيث بقيت لساعات على الأرض في الممر. كان من عادتي دائما أن أنام عندما أعتقل. وفي انتظار بدء التحقيق معي، والذي كان يستغرق أحيانا عدة أيام، ورغم الضجيج والصخب الذي كان يملأ المعتقل السري أو العلني أو مركز الشرطة ودبيب الحراس والجلبة التي ترافق تغيير دورياتهم، كنت أحاول النوم حتى أكون مستعدا نفسيا وعقليا للخضوع للتحقيق حالما يناديني المحقق. وفي الصباح الموالي، طلبني المدير الوطني للشرطة القضائية الحمياني، وكان عميدا (كوميسير) مشهورا بقمعه للحركات السياسية والنقابية، يساعده في ذلك جلادون يتفننون في ممارسة أنواع من التعذيب. وعندما جلست، بادرني بنبرة صوته الصارمة قائلا لي بالفرنسية: سي اليازغي لنضع كل أوراقنا على الطاولة أثناء الحديث، فقلت له: أنا مستعد، ومددت يديّ المصابتين الملفوفتين بالضمادات، وقلت له: هذه أوراقي. وأكملت سائلا: أين وصلت بالتحقيق في محاولة اغتيالي بالطرد الملغوم؟ لم يجبني، وبعدها رن جرس الهاتف، ولا أعرف إن كان ذلك صحيحا أم مجرد مشهد مسرحي، فوجه أمره لرجال الشرطة قائلا: خذوه، فأخذوني إلى غرفة. وظهر ذلك اليوم، جاءت سيارة الإسعاف وأخذتني إلى مستشفى ابن سينا. وهناك في الطابق الخامس الخاص بالمعتقلين، أُودِعت غرفة وأحكم إغلاقها عليّ، وهي الغرفة التي سأقضي بها 35 يوما دون أن أخضع لأي تحقيق أو يوجه إلي أي سؤال. وبين الفينة والأخرى، كان يزورني بوبكر الحسوني (الكوميسير/الممرض الذي شارك في اغتيال المهدي بن بركة)، وكان معروفا بارتباطه بالجنرال أوفقير طيلة المدة التي تحمل فيها المسؤولية، سواء في إدارة الأمن الوطني أو في وزارة الداخلية، ومرافقته له دائما حتى إنه اصطحبه للحج. وطبعا، فقد كان وجودي في المستشفى شكليا فقط، حيث كانت الزيارات العائلية ممنوعة رغم معرفة عائلتي بوجودي في المستشفى، بل حتى صهري سعيد بلافريج، الذي كان طبيبا في نفس المستشفى، لم يستطع زيارتي، كما لم يزرني أي طبيب، وبالتالي فإنه لم يتم طوال تلك المدة تنظيف جراحي أو تغيير ضماداتها، والزيارة الوحيدة التي حظيت بها هي تلك التي قام بها الدكتور مسواك، الذي كان قياديا في حزب التقدم والاشتراكية، وذلك لوضع القطرة في أذني لأنه تم التأكد من إصابتها. وحتى خيوط العملية الجراحية التي أجريت لي لم يُكلَّف أي أحد بإزالتها، حيث أزلت عددا منها بيدي بعد عدة شهور من اعتقالي، وبقايا خيوط سيتم العثور عليها داخل جسدي حينما ستجرى لي عملية جراحية سنة 1996. ولاحظت أثناء الاعتقال في المستشفى تعاطف الشرطيين اللذين كانا يحرساني داخل الغرفة، فقد جلبا لي راديو ترانزيستور ثم بدآ في إحضار الصحف. كانا يغلقان الباب من الداخل، حتى إذا ما أتى الكوميسر بوبكر الحسوني كان لهما الوقت الكافي لجمع الصحف وإخفاء الراديو. وكانا يبرران إغلاقه من الداخل برغبتهما في الحؤول دون أن يفتح عليهما بعض الفضوليين الباب ويدخلوا الغرفة التي كان اليازغي محتجزا فيها. أتاح لي الراديو والصحف فرصة تتبع ما يجري من تحقيق مع المعتقلين وما يستجد من تطورات سياسية، ومنها علمي بأن الحسن الثاني أسس المجلس المؤقت لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير. وكان من أبرز عناصر مكتب المجلس البشير الفكيكي، الذي كان طيلة الأحداث على اتصال بالفقيه محمد البصري الذي كان يضع فيه ثقة كاملة وكان له فيما بعد مكتب دائم في ديوان وزير الداخلية، سيحمل من خلاله أولى رسائل إدريس البصري إلى الفقيه محمد البصري سنة 1986 حول موضوع العودة. وفي صيف 1974، نصح البشير الفكيكي الحسن الثاني بألا يعمل على إطلاق سراحي وسراح عمر بن جلون، مدفوعا في ذلك برغبة في ألا ينهض الاتحاد الوطني مجددا. وبعد 35 يوما قضيتها في المستشفى، أعادوني إلى درب مولاي الشريف. وبقيت هناك حوالي عشرة أيام مع عشرات المعتقلين في الممر (الكولوار)، ظلت خلالها أيدينا مقيدة وأعيننا معصوبة، وبالتالي لم يكن أحد يعرف من بجانبه أو من معه إلا بتقدير الصوت أو السؤال. وسيجري استنطاقي بعد ذلك، غير أنهم سيكتفون خلاله بالاستماع إلي دون أن يوجهوا إلي أي اتهام أو سؤال حول قضية محددة، وبعدها سيتم إرسالي إلى السجن المركزي في القنيطرة رفقة عمر بن جلون ومحمد الحلوي وعبد العزيز بناني وأغلبية المعتقلين الذين تسللوا من الجزائر. وهناك وضعونا في الزنازين التي كان يحتلها العسكريون المشاركون في محاولة انقلاب الصخيرات ومحاولة إسقاط الطائرة والذين كان قد تم نقلهم إلى تازمامارت، وتركوا بعد ترحيلهم بعض حاجياتهم من كتب وملابس شخصية. وسنكتشف هناك أن من كانوا يحرسوننا في درب مولاي الشريف قد انتقلوا معنا إلى السجن المركزي للقنيطرة، ولكن بلباس رسمي لإدارة السجون. وعلى اعتبار أني كنت مصابا والضمادات كانت لا تزال على يدي، فإني لم أكن في زنزانة انفرادية بل كان معي مناضل اتحادي من الدارالبيضاء هو محمد أغجدام، وكان إطارا في الاتحاد المغربي للشغل. وبقينا في القنيطرة حتى بدأت المحاكمة في مايو 1973 والتي مرت عادية وصدرت خلالها أحكام قاسية في حق مناضلين، بقوا في قاعة المحكمة بانتظار استكمال إجراءات النقض، في حين صدر حكم بالبراءة لفائدة مجموعة كبيرة منا، واتخذت إدارة السجن إجراءات الإفراج عنا، لكن بينما نحن نتجاوز البوابة الحديدية، التي تفصل الزنازين عن المكاتب والإدارة، إذ وجدنا مسلحين مجهزين بأصفاد حديدية وضعوها على التو في أيدينا، وحملونا على متن شاحنات كانت تنتظر في ساحة عند مدخل السجن. وبقينا في تلك الشاحنات حتى حل الظلام، وبعدها نقلونا إلى مكان سري لم نعرفه في حينه، وإن لم تكن المسافة التي قطعناها من أجل بلوغه بعيدة كثيرا عن القنيطرة، حيث قدرناها ب40 أو 45 كلم. ولدى وصولنا، أدخلونا ووزعونا على قاعتين بدون إشارة حتى الصباح، لنجد أن الذين يحرسوننا ينتمون إلى مصالح الدرك والشرطة والجيش. وبعد أن بزغ الضوء، وجدنا كتابات تدل على أن من كانوا محتجزين في ذلك المكان قبل وصولنا هم الجنود الذين اعتقلوا على ذمة انقلاب الصخيرات، وكان من تلك العلامات التي خلفوها وراءهم «هرمومو» و«هنا تمارة». ورغم أن عيني كانتا معصوبتين فإنني كنت أحاول أن أرى، وظهر لي بعيدا نخيل وسور قديم، فعرفت أننا في ثكنة للجيش في تمارة. وللأسف أننا لم نحمل معنا أي شيء من الزنازين التي كنا معتقلين فيها بالقنيطرة، فالكتب التي كانت في حوزتنا هناك تركناها للإخوان الذين حكم عليهم، باستثناء نسخة فريدة من القرآن الكريم كانت مع أحد الإخوان، وبقينا هناك من يونيو 1973 حتى مارس 1974. وفي نهاية فبراير، بدؤوا التحقيق معنا حول حيثيات اعتقالنا مجددا. وأخذوا شابا معتقلا معنا، وهو يتحدر من عين الصفا على الحدود المغربية الجزائرية، قبل أن يعودوا به بعد مدة كشاهد على محاولتنا الفرار، وعلى أنه كان لدينا، في ملف آخر، مخطط لاغتيال ولي العهد الأمير سيدي محمد. وقد كان الملفان مصنوعين صنعا ضعيفا مع إخراج رديء. وتذكرت هنا حديثا كان قد جرى بيني وبين أحد أعيان الرباط، هو الحاج إدريس البحراوي، حين زرته بمناسبة عيد من الأعياد، وكان عمر بن جلون قد اعتقل عام 1966، حيث حكيت له عن هذا الأخير وقلت له إنه اعتقل لكن ملفه فارغ، فأجابني ساخرا «خاوي؟ دابا يعمروه». وقد دون المحققون أجوبتي عن أسئلة الشرطة، كما دونوا أجوبة غيري من المعتقلين، لكنهم كانوا يجبرون المعتقل بعد ذلك على التوقيع على محاضر بها اعترافات، لم ينطق بها، بالاتهامات الموجهة إليه. وقد رفضت أنا التوقيع وأصررت على أن أقرأ المحضر، ولم أمض إلا على ما أدليت به. وأثناء فترة احتجازنا في معتقل تمارة كنا منقطعين عن العالم، باستثناء الحرب ضد إسرائيل، حيث تتبعنا أحداث حرب أكتوبر التي علمنا باندلاعها عن طريق رجال الدرك. أما الانقلاب في شتنبر 1973 على الليندي في تشيلي واغتياله من طرف بينوتشي، فإننا لم نعلم به إلا في يناير 1974.