تحدث المعتقل السابق أحمد المرزوقي عن السادية المجانية التي يتفنن الجلادون في ممارستها على الضحايا، وأكد أنه بالرغم من كل حصص التعذيب فإن الحصة الأولى تبقى الأشد وقعا. «هناك نوع من السادية المجانية»، بهذه العبارة المختزلة بدأ أحمد المرزوقي، المعتقل السياسي السابق، سرد حكاية 18 سنة من العزلة وسط زنزانة نتنة بالمعتقل سيء الذكر تازمامارت. دخل أحمد المرزوقي عالم الاعتقال المظلم شابا، وخرج منه كهلا يحاول التعلق بما بقي من شباب في الذاكرة التي تزاحمت بها نقط سوداء من الماضي الأليم. كانت لحظة الرمي بشاب أنيق في زنزانة مظلمة لحظة مروعة بكل المقاييس.. كما كانت لحظة إقفال باب الزنزانة وصدى المفاتيح يرن في كل لحظة ألما لدى المرزوقي الذي ظل أسيرا ل18 سنة و3 أشهر مرت عليه عذاب دهور متثاقلة. «بعض الجلادين كان يعذبه لعقد في النفس، أو ليبين أنه مخلص أكثر من اللازم»، يقول المرزوقي، الذي اعتقل يومين بعد محاولة انقلاب الصخيرات عام 1972. «كنا نمر على سبعة مكاتب من الاستخبارات العسكرية، حيث كان لكل مكتب نوع خاص من التعذيب، فهناك من أذاقنا طعم الصدمات الكهربائية والهراوة والضرب، وهناك من تفنن في تمثيل الإعدام، علما أنهم تيقنوا من أنه لا علاقة لنا بما يريدون أن نعترف به». «عندما أخذونا لثكنة مولاي إسماعيل عشنا تعذيبا معنويا رهيبا، حيث وضعونا في «لاكاف» نوافذه على مستوى الأرض، وكانوا يمنحوننا وجبة واحدة في اليوم، حيث كانت تقدم لنا في «قبعات» العسكر، ولم يكن هناك مرحاض، حيث وضع نصف برميل وسط الغرفة وكل من أراد أن يقضي حاجته يجب أن يفعل ذلك على مرأى الجميع.. كان منظرنا مثل القردة، حيث أمعنوا في إهانتنا بكل الطرق الوحشية... هددونا بالاغتصاب الجماعي والصعق والقتل.. وكل ما من شأنه أن يجرد الإنسان من آدميته». بالرغم من كل حصص التعذيب الذي لفح جسد المعتقل المرزوقي إلا أن ذكرياته مع أول حصة تعذيب تبقى الأشد وقعا، ذكريات مثلت حاجزا فاصلا بين حياتين، حياة باقي بني البشر وحياة الأسر والتحقير والتجويع والإفراط في الإهانة والقتل البطيء. يقول: «كان ذلك في مقر القيادة العليا، دخلت وجلست أمام مكتب نقيب للمخابرات ومعاونيه. بدأ يطرح علي مجموعة من الأسئلة بدم بارد جدا، وهو ما دفعني إلى أن أطلب منه كوبا من الماء لأنني لم أشرب قطرة ماء منذ ثلاثة أيام، فكان أن أجابني طبعا ونادى على أحد معاونيه وطلب منه أن يحضر كوب ماء. كنت مكبل اليدين آنذاك ورجلاي كذلك.. تم فك وثاقي وعندما أمسكت الكأس ووضعته في فمي ضربني بقوة إلى أن تطايرت شظاياه في كل الأنحاء في غفلة مني... فعل ذلك ببرودة دم، وفي تلك الفترة كان يمسك آلة في يديه ويعاينها رفقة آخرين، كأنهم يشغلون شيئا، بعد ذلك ربطوها بموصل الكهرباء دون أن أعي ماذا كانوا يريدون أن يفعلوا.. بعد ثوان أخذ الآلة ووضعها وراء أذني ولم أشعر بنفسي إلا وأنا ملقى فوق مكتبه.. فهمت بعد ذلك بأنني أتعرض للصعقات الكهربائية.. قوة الصعقة أدت إلى ارتمائي بقوة إلى أن فك قيدي، وبعد ذلك أعادوا تكبيلي وبقيت أتلقى الصعقات الكهربائية في أنحاء مختلفة من جسدي، ضمنها جهازي التناسلي». في المكتب الثاني للقيادة العليا مر المرزوقي من أيام حالكة.. كان يعيش السيئ ويتوقع الأسوأ، وكانت درجات التعذيب تتصاعد شيئا فشيئا، وصار معها الخيال يستبق ما يمكن أن يأتي... كان التوجس وترقب الأسوأ أخطر مظاهر التعذيب أيضا. يقول: «استمر تعذيبي بالقيادة العليا لمدة ثلاثة أيام، وكان معي الكوموندو إبراهيم المانوزي وليوتنان كلونيل طيب شال، حيث كنا جميعا في مكان واحد. وكان الكوموندو المانوزي قضى معنا ليلة واحدة، وبعدها أعدم». بعد تجربة «لعبة القردة» بثكنة مولاي اسماعيل، نقل المرزوقي إلى سجن القنيطرة، وهناك «عرفنا بشاعة الجوع الرهيب، وعرفنا أبشع معاني الجوع، حيث كنا في زنازين لا يمكن أن تفوق طاقة تحمل المعتقلين فيها 60 يوما على أبعد تقدير، ونحن قضينا فيها 6 أشهر، وهي عبارة عن قفص بدون نوافذ، وبالكاد نقوى على مد أرجلنا فيها... عشنا ستة أشهر من العزلة التامة، وبعد ذلك حضر الكولونيل بنعيادة، الذي كان قاضي التحقيق وكان يقول لنا: «موعدي مع مكم في المحكمة»، حيث كان هو وكيل الملك أيضا، قاضي التحقيق ووكيل الملك في الوقت نفسه». بعد محاكمة شبه صورية، يقول المرزوقي، بدأت رحلة جديدة في أدراج التعذيب والمعاناة. كان الحكم قاسيا ومزلزلا، وحتى القاضي نطقه بتهكم بدل أن يفتش في الحقائق... «لم نكن نعرف إلى أين نمضي، كان رحيلا نحو المجهول وسط إجراءات أمنية أكثر من مشددة، صعدنا في الطائرات، وعشنا في تلك اللحظات منتهى الخوف الذي بقي راسخا في ذهني إلى حد الآن. كانت الطائرات التي استقلينا طائرات عسكرية، وكان الدركي يحثنا على الاستعداد لأنهم سيرموا بنا في البحر... مشاعر الرعب لا يمكن أن توصف ساعتها، وكنا نتمى الوقت الذي سيلقون فيه بنا من الطائرة بدل مشاعر الخوف التي مزقت صدورنا في تلك اللحظات الحالكة». في معتقل تازمامارت كان أول تحد واجهه المرزوقي هو تحدي البرد القارس الذي نخر جسده المتعب. كان الأمر فظيعا بكل المقاييس، حيث ظلت أسنانه تصطك وجسده يتهاوى شيئا فشيئا من شدة البرد. يقول: «لم نكن نرتدي ملابس كثيرة، وحاصرنا البرد من كل الجهات، ثم الجوع والجوع والجوع... «. بقي المرزوقي في زنزانته الباردة مع شبح البرد والظلام والمرض، وكان المدير يتلذذ برؤيتنا نعاني، ويقول: «غادي نشوف شكون اللي غادي يتهرس حنا ولا نتوما»، عشنا حياة مصارعة مع البرد والجوع، وبدأ الإخوان يتساقطون تباعا بعد أن تسلل الموت إلى أجسادهم المنهارة، كنا نراهم ممددين على أغطية نتنة يرمى بهم بعيدا، وتيقنا ساعتها من أنه لا خروج من تازمامارت إلا موتا. أمام شدة المعاناة، بدأت طاقة التكيف تحيى شيئا فشيئا في دواخل المرزوقي ورفاقه، حتى صارت طاقة لا حدود لها». يقول: «صرنا نتعايش مع واقعنا المرير، وكانت أكبر أمنيتنا أن نموت حتى لا نستمر في التعذيب المضاعف. بدأ المرزوقي يحاول الهروب من عالمه الجديد، وكان ذلك بالكلام. يقول «بدأنا نسترجع ذكرياتنا مع عائلاتنا وكان الأمر يهون عنا إلى حد ما، حيث كنا نعيش على الخيال، وهو ما أحيى مشاعر الأمل لدينا ودفعنا إلى التشبث بالحياة، وصرنا نخترع القصص ونحفظ القرآن.. المهم أننا عشنا جميع المراحل التي قطعتها البشرية من العصر الحجري إلى الاختراع وكل هذا من أجل مواجهة ظلمات المآسي التي عشناها بتازمامارت». كان الجلادون والحراس هم الرابط بين المعتقلين والعالم الخارجي. يقول المرزوقي: «لم يكن لدينا من وسيلة لمعرفة ما يدور في العالم الخارجي، وأيضا لننقل معاناتنا إليه.. الجلادون والحراس كانوا هم هذا الخيط الرفيع، وتمكنا على مدى سنوات ومن خلال دراسات وخطط أن نجر بعضهم إلى دائرتنا إلى أن تمكنا من نقل ما يدور داخل المعتقل اللعين إلى الخارج». بعض الجلادين كانوا في صورة شياطين، كما يؤكد المرزوقي، الذي يتذكر كيف قضى الزجال عيسى الراشدي حتفه على يد الجلاد «سْعيد»، الذي أمعن في إذلاله، فكان أن رد عليه عيسى. كان الأخير عبارة عن كومة عظام لم تقو على تحمل المزيد، حيث بقي ممدا بعد حصص التعذيب إلى أن تسللت الروح من جسده. تازمامارت في ذاكرة المرزوقي هي مدرسة التعذيب بكل أنواعه، التعذيب بالبرد وبالحرارة وبالتجويع وبكل ما يمكن أن يخطر أو لا يخطر ببال عاقل... يقول: «كنا نعيش مع طبقات من الصراصير، التي كانت تسقط في أطباقنا وكنا نأكلها طبعا.. وذات يوم قاموا برش مبيد للصراصير.. كنا نظن بأنهم سيخرجوننا من الزنازين حتى ينتهوا من رش المبيد، لكنهم لم يفعلوا ذلك، فاختنقنا كما اختنقت الصراصير وسقطنا كلنا أرضا». ويتذكر المرزوقي أيضا يوم لسعته عقرب، وظل يئن ليومين دون أن يسعفه أحد. يقول: «في اليوم الثاني دخل المدير وطلبت منه أن يمدني بعود ثقاب حتى أتخلص من سموم العقرب التي لسعتني، فكان أن رد علي بعد قهقهة مطولة «العقرب... نتا أذيتيها.. كون ما أذيتيها ما تقرب ليك»، كان الأمر سخرية ورسالة مشفرة في الوقت ذاته. رغم أن قرار مغادرة المرزوقي ورفاقه قد كان صدر، لكنهم بقوا معصوبي الأعين ينتظرون.. «لم تفتح عيناي إلا بخرق الشخص الذي رافقنا للتعليمات، حيث أزيلت العصابة عن عيني وفك قيدي... نظرت في عينيه، وكان تلك اللحظة أول لقاء لي مع الطبيعة بعد أزيد من 18 سنة من الاعتقال ». المعتقل السياسي السابق عبد الله عكاو: كنا نتعايش مع الموت لأنه كان قريبا جدا من صدورنا تجربة المعتقل هي تجربة قاسية،ملامحها الكبرى الظلام الحالك، حيث كنا،: «محرومين من أبسط شروط الحياة.. من النور والأكل.. كانوا يعملون كل ما بوسعهم حتى يرونا نتعذب.. كانوا يمنحوننا الأكل الذي سيعذبنا والماء الذي نتعذب لمجرد رؤيته، وجميع ما يمكن أن يعذب به الإنسان كنا نلاقيه هناك في تازمامارت». عبد الله عكاو، الذي ذاق ألوانا مختلفة من التعذيب والإرهاق بالمعتقل يرى أن تازمامارت هي «معمل إعادة صنع الإنسان البشري.. حيث إن كل إنسان به شيء من اللحم يجرد منه، ومن بقي متحكما بقدراته العقلية يحاول الجلادون أن يعبثوا بباحة التركيز لديه». 18 سنة داخل تازمامارت كانت مساحة زمنية شاسعة ارتمت بين ظلماتها هواجس وأحلام وأماني كثيرة وأنين طافح ظل يلاطم أسوار معتقل رهيب يرد كل الصرخات إلى أجواف أصحابها. «كان التعذيب النفسي أشد وقعا»، يقول عكاو، ويضيف «كان المسؤولون يعرفون أن هناك ثلاثة مسؤولين على الانقلاب وكانت كل الأمور واضحة، حيث لم نكن مثل المدنيين الذين رغبوا في انتزاع اعترافات منهم بالقوة». كان عبد الله عكاو مكلفا بالذخيرة، بعد حادث الانقلاب، يدخل معتقل تازمامارت، بعد سنة قضاها بين السجن العسكري بالقنيطرة. يقول: «كما قال الراحل الحسن الثاني لأحد الصحافيين الفرنسيين: «نحن وضعناهم هناك ليذوبوا كذوبان السكر في الماء»، وهذه قولة مشهورة وهي الوصف الحقيقي لما عشناه في تازمامارت». كانت الحياة داخل تازمامارت موت بطيء، بحيث يعيش المعتقلون هناك يوما بيوم ينتظرون الأسوأ. يقول عكاو: «كنا نتعرض لاستفزازات كثيرة والسب والقذف ومعاملة سيئة للغاية... كنا أمواتا أحياء، ومن أجل الإمعان في إذلالنا أبقونا مصفدي الأيدي والأرجل إلى أن سلمونا إلى ذوينا بعد سنوات من الاعتقال». بدأ عكاو رفقة زملائه في محاولة هدم أسوار المعتقل... بدؤوا يصرخون يسمع بعضهم البعض، مؤسسين بذلك لفصل جديد من فصول الاعتقال. يقول: «بدأ كل واحد منا يحكي عن تجربته، ومن زار فرنسا يحكي لنا كيف كانت التجربة حتى صار الإخوان الذين لم يسبق لهم أن زاروا فرنسا يحفظون عن ظهر قلب ما يقال ويتخيلونها ويتكلمون عنها كما لو أنهم زاروها». صار المعتقلون يعيشون بالخيال.. يرسمون عوالمهم بين ثنايا الظلام... يحلمون بالألوان هربا من ظلمة المعتقل، ويترجمونها إلى كلمات وأشعار برائحة الحياة. «كنا نحيي سهرات فنية ونغني ونقرأ القرآن... المهم أننا كنا نتواصل حتى نتمكن من خلق جو نشد به عضد بعضنا البعض»، يقول عكاو. على الرغم من محاولات عبد الله عكاو ورفاقه خلق جو داخل الزنزانة، إلا أن وقع التعذيب في كثير من الأحيان كان يكبح أحلامهم ومحاولاتهم. كانوا يعاينون رفاقهم يتساقطون تباعا... «لم نكن نظن أن تماديهم في تعذيبنا يمكن أن يصل إلى الموت، كنا نمرض لكننا لا نموت... لكن بعد مدة بدأ شبح الموت يظهر... بدأ بعض الرفاق يغادروننا من دون سابق إنذار، ساعتها أدركنا أن حياة المعتقل هي موت محقق». في سنة 1975، يتذكر عكاو، أنه ورفاقه كانوا ينتظرون الإفراج عنهم، لكنهم اكتشفوا أن الجميع نسيهم هناك. يقول: «حتى الحراس كانوا يعتقدون أنه سيتم الإفراج عنا خاصة وأن حالة الاستثناء زالت بالمغرب، أو على الأقل تحسن ظروف الاعتقال ويسمحوا لنا برؤية الشمس، لكن شيئا من ذلك لم يحصل».