تتعرض الأرض سنويا لنحو مليون زلزال، لا يشعر الناس بمعظمها إما لضعفها أو لحدوثها في مناطق غير مأهولة.. فالإنسان لا يحس بالزلزال عادة إلا حين تصل شدته إلى 4 درجات بمقياس ريختر. ويعتبر الزلزال كبيرا حين تزيد قوته على 7 درجات في هذا المقياس. ويوم 2004-12-26 شهد العالم خامس أشد زلزال منذ عام 1900م حيث بلغت شدته حوالي 9,8 درجة على مقياس ريختر.. وقع قبالة ساحل إقليم أتشيه بجزيرة سومطرة شمال إندونيسيا، وانتقل شمالا إلى جزر أندامان بالمحيط الهندي، فتسبب في وقوع موجات مد أسفرت عن مقتل الآلاف في سريلانكا وتايلاند وإندونيسيا والهند، وماليزيا، والصومال والأردن واليمن ودول أخرى من أفريقيا، بفعل الأمواج العملاقة، التي تتكون في أعماق مياه البحر، وتهجم على السواحل بسرعة 750 كيلومترا في الساعة بارتفاع بين 30 و 40 مترا، وتصب نحو 100 ألف طن من الماء على كل متر مربع من الشاطئ فتؤدي إلى خسائر أفدح من خسائر الزلزال نفسه. العلماء من بني الإنسان رغم تقدم العلم وتطور آلياته فإنهم قد يتوقعون وقوع الزلزال لكن لا يستطيعون التنبؤ بوقوعه، فإن الزلازل لا يعلم بحدوثها أحد حتى الآن، رغم أن العلماء أمكنهم تحديد أحزمة الزلازل في العالم والمناطق النشيطة، ويُجرون العديد من الدراسات لمحاولة التوقع لبعض الزلازل، خاصة في ظل وجود تكنولوجيا متقدمة، وهو جهد مشكور إذا كان الهدف منه تقليل الخسائر ما أمكن. لماذا تحدث تلك الزلازل وما أسبابها؟، وهل للبشر يد في زيادة حدوثها؟ بالتأكيد أن التفجيرات النووية، وشفط النفط من آباره بباطن الأرض، وبناء سدود المياه فوق مناطق زلزالية قد تقرب زمن وقوع الزلازل ولكن ليست هي السبب المباشر حيث إن الزلازل قديمة الوقوع في حين هذه الأنشطة البشرية لا تتجاوز قرناً ونصف.. العلماء حاولوا - ولا زالوا - معرفة السبب ووضعوا لذلك مجموعة من النظريات والتخمينات، ويبقى الجواب الصحيح عند من خلق الكون فهو أعلم بما خلق وهو اللطيف الخبير. ما الحكمة من أن يقضي الله في عباده بالمصائب والشرور ما لا دخل للإنسان فيها، ولا يتحمل مسؤوليتها؟ سؤال طاف بذهن كثير من الفلاسفة والباحثين قديماً وحديثاً.. واستشكل كثيرون منهم الأمر، نظراً إلى أن الإله الذي يحب لهم الشر لا يتصور أن يناقض ذاته فيحب لهم في الوقت ذاته الخير.. والدنيا التي نعيش فيها مليئة متمازجة من أنواع الخيرات والشرور ! .. إن الحكمة تتمثل في الحكم التالية : الحكمة الأولى: أن الله علم أن في عباده من يعلل تسخير المكونات للإنسان بعاملين اثنين: أحدهما: عامل الطبيعة التي تنساق بحد ذاتها لخدمة الإنسان دون الحاجة إلى إله يسخر ويخضع الكون له ولمصالحه . أي فالمسألة مردها إلى آلية الطبيعة وقانونها الذاتي. ثانيهما: عامل التقدم العلمي الذي حظي به الإنسان أخيراً، فقد حرره العلم من الصراع الذي كان بينه وبين الطبيعة والخوف من تقلباتها وأحوالها.. فكان من حكمة الله وحسن تدبيره أن أوحي إلى ما يسمونه (الطبيعة) بأن تتمرد بين الحين والآخر على الإنسان الذي سخر الله له معظم مكوناته، فتخرج عن سلطانه وتلحق به أنواعاً من الشرور والأذى، كي يستبين للباحث الموضوعي أن زمام الطبيعة بيد الله وليس بيد الإنسان، وبوسعك أن تتبين هذه الحقيقة جلية في قوله عز وجل: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}الملك/ 17-15، ولا شك أن في هذا الإيقاظ رحمة بالغة من الله بالإنسان، وإن كانت قد كلفته بعض المصائب والهزات. يقول الله عز وجل: { ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} الزمر/49. الحكمة الثانية: أن الله تعالى أقام الإنسان في هذه الحياة الدنيا على وظيفة التكليف.. وأمره من خلال المهام التي أناطها به أن يبرز واقع عبوديته لله بالسلوك الاختياري، كما قد طبع بهذه العبودية بواقعه الاضطراري، ولا تدخل الأوامر الإلهية تحت معنى التكاليف، إلا إن كان في تنفيذها والائتمار بها كلفة ومشقة. فإذا فرغت الحياة من النكبات والشرور، فقد اختفى التكليف وبطل معناه، فهل من الممكن أن يرقى الإنسان إلى شرف الاصطباغ بالتكاليف الإلهية، لو لم يتحمل في سبيل هذا الشرف عنتاً ولم يواجه برضى وتسليم شيئاً من المصائب والشرور؟ .. إذن لاستوى المخلص والمنافق، ولما كان الصادق المضحي بحظوظه، أولى بالأجر والمثوبة من المدعي الكاذب، ولما خاطب الله هؤلاء وأولئك بقوله: { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}العنكبوت/32. فمزج نعيم الحياة الدنيا بغصص من المصائب والشرور، حكمة ربانية جديرة بالتأمل والتذكر. الحكمة الثالثة: أن الله شاء ولا راد لمشيئته أن تكون هذه الحياة التي سماها الله الحياة الدنيا، ممراً إلى مقر، وهو ما سماه الله بالحياة الآخرة.. وأن تكون جملة حياة الإنسان، في هذه الدنيا، بكل تقلباته فيها، عبوراً إلى ذلك المقر، فبين له أنها ليست مقراً وإنما هي معبر، وأن عليه أن لا يركن إلى ما قد يروقه فيها من المتع والمشتهيات، وأن لا يفاجأ بما قد سيجده فيها من المنغصات. إنها مجرد متاع زائل وأدوات استراحة على الطريق.. وإن الآخرة هي دار القرار، كي لا يأسى على ما فاته أو ما قد ينوبه فيها من المصائب، ولا يبالغ في الفرحة والابتهاج بما يتحقق له فيها من الأهواء والرغائب. انظر بتأمل وتدبر إلى قوله عز وجل: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}الحديد/ 21-20. وتأمل قوله تعالى:{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}الحديد/ 23-22 وتأمل هذا البيان الجامع الموجز في قوله عز وجل:{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}الأنبياء/35. فهذه الحكمة الثالثة ساهمت هي الأخرى مع الحكمتين الأولى والثانية في مزج نعيم الحياة الدنيا بالمصائب والآلام والشرور. وصلى الله على سيدنا محمد وآله مارسو أبوزيد داعية وخطيب بقرنسا