ثمة إجماع على وجود انفراج متصاعد في مسار العلاقات المغربية-الإسبانية، برغم التأجيل الذي عرفته القمة الثنائية، والتي كان من المفترض أن تنعقد بداية الشهر الجاري، إلا أن هذا الانفراج يبقى مشوبا بخطر الانتكاس إذا لم يقع حسم الإشكالات العالقة بين البلدين، والتي ترتبط باستحقاقات ضاغطة لا تنظر حتى انعقاد القمة في بداية دجنبر المقبل، وأولاها قضية الصحراء المغربية حيث سيجتمع مجلس الأمن نهاية هذا الشهر للبث في مستقبل بعثة المينورسو، وثانيها البدء في تطبيق مقتضيات الاتفاق الزراعي بين المغرب والاتحاد الأوربي والموقع هذا الأسبوع في ظل مناهضة لوبيات الفلاحة الإسبانية له، وثالثها ملف مكافحة الهجرة السرية والذي يزداد تباعد وجهات النظر بين البلدين إزائه، وهي عناصر ثلاث كافية للحد من التفاؤل المعبر عنه من طرف المسؤولين في البلدين من جهة أولى، واعتبار مختلف التطورات الإيجابية التي تتالت في الآونة الأخيرة مقدمات غير كافية لتسوية الملفات السيادية المطروحة والمعلقة كملف جزيرة تورة ومدينتي سبتة ومليلية والجزر المحتلة، اللهم إلا ذا حصل تحول في التوازنات الاستراتيجية بالمنطقة. نتعرض في هذه المقالة لأبعاد المتغيرات التي عرفتها العلاقات بين المغرب وإسبانيا والاحتمالات الممكنة لتطورها. متغيرات إيجابية يمكن القول أن علاقات المغرب منذ بداية السنة الجارية شهدت سلسلة تطورات إيجابية، وأهمها قرار عودة السفيرين نهاية يناير الماضي وما سبقه من قرار السماح للصيادين الغاليسيين المتضررين من غرق الناقلة (بريستيج) بالصيد في المياه المغربية، واستقبال وزير الخارجية الإسبانية أنا بلاثيو من طرف الملك محمد السادس، ثم بعد ذلك انعقاد القمة المغربية-الإسبانية في بداية يونيو الماضي بالقرب من مدريد، والتي اعتبرت قمة تمهيدية لإعادة التعريف الاستراتيجي للعلاقات بين البلدين وبلورة منهجية جديدة لتدبير التفاوض حلو القضايا الخلافية، بما يفضي لمراجعة الاتفاقية الإطار الموقعة في بداية عقد التسعينيات( اتفاقية الصداقة وحسن الجوار)، ثم التعاون الأمني في القضايا المرتبطة بمكافحة الإرهاب والذي ازدادت أهميته بعد تفجيرات 16ماي، وتلى ذلك التدخل الإسباني في الإفراج عن 342 من الأسرى المغاربة في تندوف في غشت الماضي مع بقاء 914 أسيرا، ثم جاء توقيع العقد الخاص بالسماح لشركة ريسبول الاسبانية بالتنقيب على البترول في شمال المغرب نهاية الشهر المنصرم، مع الإشارة إلى أن موضوع عمليات التنقيب التي تقوم بها هذه الشركة كان أحد أسباب توتر العلاقات في دجنبر سنة 2001 بعد إقدام إسبانيا في 21 دجنبر 2001 على منح ترخيص لمدة ست سنوات تنقيب على النفط لشركة شركة ريبسول ي.ب.ف في المجال البحري المغربي في المناطق الجنوبية، وذلك بدعوى خضوع ذلك المجال والمقدر ب600 كلم مربع لجزر الخالدات الإسبانية، في حين أن المغرب يعتبر تلك المنطقة تابعة له حيث توجد ضمن مجال 200 ميل من سواحله وهي المسافة التي تحدد على ضوئها المياه الإقليمية، ورغم التخوفات التي سادت عند انتشار خبر تأجيل القمة المغربية-الإسبانية إلى غاية دجنبر المقبل من أن يكون ذلك مقدمة مسلسل من الانحدار الجديد، إلا أن المسؤولين في البلدين حرصوا على نفي ذلك خاصة بعد أن تمت إجازة الاتفاق الفلاحي المغربي الأوروبي وسحب المعارضة الإسبانية له. الاستثناء البارز في هذا المسار هو الهزة التي عرفتها العلاقات في أواسط يوليوز الماضي أثناء قيام إسبانيا بدعم مشروع القرار الأمريكي المقدم لمجلس الأمن حول قضية الصحراء المغربية والذي ذهب منحى فرض ما يسمى بخطة بيكر للسلام على المغرب، خاصة وأن إسبانيا تشغل آنذاك منصب الرئاسة الدورية لمجلس الأمن، بل ترددت أنباء عن قيامها بمبادرة جانبية لدفع البوليزاريو لقبول خطة بيكر وخلق شروط تفاهم بينه وبين المغرب على الخطة وتسجيل انتصار ديبلوماسي لصالحها، إلا أن المبادرة فشلت مع الرفض المغربي القوي للخطة وللمنهجية التي انزلق إليها التدبير الأممي لنزاع الصحراء المغربية. ملفات عالقة تبرز المعطيات الآنفة أن التطورات التي عرفتها العلاقات لم تتجاوز بعد مستوى التجاوز الجذري لأسباب الخلاف العميقة، حيث ما تزال معلقة على طاولة المفاوضات ورهينة بأعمال اللجان الخمس التي شكلت وهي لجنة الحدود البحرية، لجنة الهجرة السرية، لجنة الأحكام المسبقة وتعزيز التقارب بين شعبي البلدين، لجنة القضايا السياسية ولجنة تعزيز التعاون الاقتصادي، فبرغم مختلف المستجدات الإيجابية فإن القضايا الكبرى ما تزال ترواح مكانها دون اتضاح آفاق الحلول الممكنة، وخصوصا ملف الهجرة السرية حيث تسعى إسبانيا إلى تحويل المغرب إلى حارس لإسبانيا وملجأ لاستقبال المهاجرين السريين الأفارقة المطرودين منها واستغلال ذلك لفرض أجندة أمنية على المغرب تعزز من التحكم الأمني الإسباني في المنطقة، وفي ملف الحدود البحرية المرتبط بحقوق التنقيب في المنطقة الموجودة بين كل جزر الكناري والمغرب، حيث أن اللجنة البحرية المشكلة من خبراء البلدين عجزت عن الوصل لاتفاق نهائي رغم فشل جهود التنقيب من طرف شركة ريسبول الإسبانية وعدم إثبات وجود حقول نفطية بها، مما يخفف من حدة النزاع الاقتصادي لكن البعد السياسي الاستراتيجي يبقى قائما، ثم هنالك ملفا جزيرة تورة وكذا المدينتين المحتلتين وباقي الجزر المستعمرة، حيث ترفض إسبانيا الربط بين هما وبين نلف جبل طارق، كما ترفض أي تفكير في مراجعة الوضعية السياسية لهما بل إن المؤشرات تدفع نحو الاقتناع بوجود نهم استعماري إسباني يعمل على توظيف خصوصية العلاقة الإسبانية الأمريكية للاحتماء بها في التوسع ، كما أن الانحياز الإسباني لخصوم الوحدة الترابية المغربية هو تعبير عن مسعى لإدامة مشكلة الصحراء المغربية حتى لا يتفرغ المغرب لهذا الملف. الواقع أن جوهر الإشكال في علاقات المغرب بإسبانيا يرتبط بحالة اللاتكافؤ في العلاقات فهي متسم بمستوى متقدم من التفاهم الأمني و التعاون التجاري والمالي (في مجالات المديونية والاستثمارات والمبادلات التجارية كما تبرزه المعطيات المذكورة في المقال المنشور في نفس الصفحة) وبين مستوى مترد من التناقض والتصادم الاستراتيجي في القضايا المرتبطة بالوحدة الترابية (ملفات الصحراء المغربية، سبتة ومليلية والجزر المحتلة) وبالسيادة الاقتصادية ويضاف لها قضايا الدفاع والأمن الخاص ( نذكر هنا بالرفض الشديد لمشروع المفاعل النووي بطانطان الخاص بتحلية مياه البحر مما أدى إلى إلغائه في سنة 2000)، ففي مختلف هذه القضايا، تبرز إسبانيا بصورتين، صورة الشريك، ومقابلها صورة المناهض للمصالح الاستراتيجية للمغرب، حتى أن المرء يتساءل عن خلفيات +البذخ؛ الإسباني تجاه المغرب في المجال المالي والتجاري وهل هو +رشوة؛ مقنعة للضغط في القضايا الاستراتيجية، أي أن العلاقات مدعوة لمراجعة استراتيجية شاملة كما حددها الخطاب الملكي في 30يوليوز.2002 بين هذه الملفات المعقدة والمعلقة وبين المتغيرات الإيجابية المحدودة، هل هناك بريق أمل؟ الإجابة ترتبط بمدى قدرة العوامل المفسرة للتفاؤل المعبر عنه من لدن البلدين. أسباب تفاؤل حذر نعتقد أن الأسباب التي أدت لحصول مختلف التطورات السابقة، ترتبط بأمرين، من جهة أولى هناك تحول في الموقف المغربي إزاء إسبانيا، ومن جهة ثانية تغير في الوضعية الاستراتيجية المؤطرة للعلاقات بفعل التطورات التي جرت في الأشهر الأخيرة بعد احتلال العراق والتجاذب الفرنسي-الأمريكي، و، ثانية تتعدد العناصر التي أسهمت في ويمكن رصد مجموعة منها في النقط التالية: أ على المستوى المغربي: لقد لوحظ أن مجمل الإشارات الإيجابية مقدمة جاءت من الطرف المغربي مما يستدعي مناقشة البواعث الخاصة التي دفعت فيما يشبه تحولا في الموقف المغربي إزاء إسبانيا بعد الصرامة والمواجهة الباردة، والتي عرفتها سنتي 2001 (سحب السفير المغربي من مدريد) و2002( أزمة جزيرة تورة )، ويمكن أن نرصد هنا مجموعة دواعي: - الحاجة لتمديد مرحلة التعايش وتحييد الجبهة الإسبانية في السياسة الخارجية المغربية إلى غاية ما بعد الانتخابات الرئاسية الإسبانية في مارس ,2004 ورحيل مؤسسة الرئاسة الإسبانية الحالية والتي يظهر أن أزمة العلاقات مرتبطة بما هو شخصي ونفسي بنسبة مقدرة، وذلك بفعل مخلفات الفشل الذريع لتجديد اتفاقية الصيد البحري، وأيضا هناك خروج إسبانيا من رئاسة مجلس الأمن، والتوقيع المبرمج لاتفاقية التبادل الحر مع أمريكا في نهاية السنة الجارية، مما سيحد من حجم الأوراق التي يضغط بها الطرف الإسباني إن على المستوى الأممي أو على المستوى الأوروبي، كما سيتيح التفرغ لملفات أخرى ضاغطة ترتبط بالعلاقة مع الجزائر وقضية الصحراء المغربية. - توفير الشروط لمفاوضات عادلة ومتوازنة في القضايا السيادية العالقة والمثارة سابقا، ذلك أن اتفاق 22 يوليوز 2002 حول إبقاء الوضع على ما هو عليه بخصوص جزيرة تورة، دعا في الوقت نفسه إلى فتح حوار صريح وصادق من أجل توطيد العلاقات الثنائية، وترتبط هذه الشروط بتخفيف حدة ضغط ملف الصحراء على السياسة الخارجية المغربية، وتطويق التوتر المغربي-الجزائري، و تقوية العلاقات السياسية والاقتصادية مع الولاياتالمتحدة. ب على المستوى الاستراتيجي أما على المستوى الاستراتيجي فإن المتغير الأساسي يرتبط بأولويات السياسة الخارجية الأمريكية وكذا طبيعة العلاقة بينها وبين السياسة الخارجية الفرنسية، والتي تتأثر بتطورات الوضع في العراق ومدى القبول الأمريكي بدور فرنسي مؤثر في مجريات الوضع هناك، أي أن هذا المستوى يرتبط بالتجاذب الفرنسي وخلفه الأوروبي-مع الولاياتالمتحدة، والذي توظف فيه المنطقة المغاربية باعتبارها إحدى مناطق النفوذ التقليدية لأوروبا عموما، وفرنسا خصوصا، ويمكن رصد ثلاث عناصر كبرى في هذا المستوى: - حسم الملفات التفاوضية مع الاتحاد الأوروبي، خاصة بعد إنهاء ملف المفاوضات الزراعية، ودخول الطرف الأمريكي في المعادلة الاقتصادية في المنطقة من بوابة اتفاقية التبادل الحر مع المغرب، وهذا المتغير يحد من حالة الاستفراد بالمغرب من هذا الطرف أو ذاك، كما يعزز من قدراته التفاوضية باعتبار حل مشكلة الارتهان الأحادي، ويضعف من احتمالات مراهنة الآخر على الانخراط في سياسات تهدد استقرار المغرب، مثلما يقع حاليا مع قضية الصحراء المغربية، ونذكر أن هذا العنصر أبان عن فاعلية جزئية في أواسط التسعينيات عندما فوت المغرب مشروع المركب الحراري بالجرف الأصفر للولايات المتحدة مما شكل أداة ضغط فعالة على الجانب الأوروبي والفرنسي. - الأولوية الأمنية المطروحة في المنطقة تبعا للحسابات الأمريكية، وهي أولوية فرضت حصول انفراج في علاقات المغرب مع كل من إسبانياوالجزائر، وتخضع لعدد من الآليات الثنائية والمتعددة الأطراف، وكان من نتائجها اللقاء المغربي- الجزائري الذي انعقد مؤخرا في نيويورك وأدى للتفاهم على إلية أمنية بين البلدين، ويخضع كل ذلك للاستراتيجية العسكرية للولايات المتحدة في غرب المتوسط، والتي اتجهت منذ مدة لتعزيز وجودها العسكري في كل من جنوبإسبانياوالجزائر والمغرب، هذا الأخير الذي خصصت مساعدات عسكرية في ميزانية 2004 لتقوية المراقبة الأمنية في جنوب مضيق جبل طارق. - بدايات التقارب الفرنسي خالأمريكي في كيفية التعاطي الأممي مع الوضع العراقي والذي ظهرت مؤشراته في اجتماع الرئيس الأمريكي جورج بوش مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك على هامش لدورة الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة، - تراجع الضغط الأمريكي الداعم لخطة بيكر للسلام على المغرب، حسب ما تردد من معطيات بعد لقاء الملك محمد السادس مع الرئيس جورج بوش. مختلف العناصر الآنفة الذكر ذات طبيعة ظرفية ولا تسعف المحلل في استشراف مرحلة انفراج شاملة بين المغرب وإسبانيا تقع فيها التسوية الجذرية للملفات العالقة بلى إن الأمر رهين متغيرات استراتيجية في طور التشكل، وهو ما حتم بشكل غير مباشر تأجيل القمة المغربية الإسبانية شهرين إضافيين. مصطفى الخلفي