كان بيرم التونسي أديباً موهوباً جمع مهارات شعراء الفصحى و شعراء العامية،ذا لسان سليط أين منه لسان الحطيئة الذي قال فيه: "تالله ما يسرني به مِقوَل بين بصرى و عمان " أي لا يبادله بلسان في الجزيرة العربية، ميالاً إلى الهجاء، وهذا الميل هو هبة من الله عبثاً يبحث علماء النفس عن تفسير له، وبيرم هجا كثيراً من يستحق الهجاء وهجا كثيراً من لايستحق، وهذا طبع ثابت عند الهجائين، فقد تعذر ابن الرومي رحمه الله على هجائه للوزراء والولاة في عصره ولكنك لا تعذره على هجائه للأحدب المسكين، ومثله كان الحطيئة الذي قالوا إنه هجا نفسه حين لم يجد من يهجوه. نفي من مصر فعاد متخفياً ثم أعيد نفيه فعاد أيضاً وظل في المنفى عشرين سنة وقد عاد في المرة الثانية حين مرت السفينة التي كانت في طريقها إلى فرنساببور سعيد فتسلل منها بمساعدة أحد العاملين على السفينة وعاد إلى الوطن لتبدأ رحلة طويلة من التخفي حتى استطاع أصدقاؤه استصدار عفو من الملك فاروق (وكان أبوه الملك فؤاد هو الذي نفاه) وقد وصف حادثة تسلله من بور سعيد في قصيدة جميلة (كتبها وقتها على علبة السجائر) أولها: غُلُبت أقطع تذاكر وشبعت يا رب غربه بين الشطوط والبواخر وبين بلادنا وأوروبه وفيها يصف حادثة تسلله إلى وطنه(وكيف "يتسلل"المرء إلىوطنه؟ هذه "صارت"لاحقاً مع بعض الفلسطينيين!) ومشاعره الأولى حين رأى وطنه من جديد: في بور سعيد السفينه وقفت تفرغ وتملا والبياعين حوطونا بكارت بوستال وعمله لكن بوليس المدينه ما تفوتش من جنبه نمله يا بور سعيد والله حسره ولسه يا اسكندريه هتف بي هاتف وقال لي إنزل ومن غير عزومه إنزل دي ساعة تجلي فيها الشياطين في نومه إنزل ده ربك تملي فوقك وفوق الحكومه نطيت في ستر المهيمن عالبر يا حكمداريه واقول لكم بالصراحه اللي ف بلادنا قليله عشرين سنة في السياحه بشوف مناظر جميله ما شفت يا قلبي راحه في دي السنين الطويله إلا اما شفت البراقع واللبده والجلابيه قلت: لو قرأتم الهجاء اللاذع لكل ما في مصر من براقع وجلابيات الذي كتبه بيرم في مؤلفات كتبها في مصر (مثل المقامات و"السيدومراته في مصر") وأخرى كتبها في المنفى مثل "السيد ومراته في باريس"لعجبتم من هذا القول: ما شفت يا قلبي راحه في دي السنين الطويله إلا اما شفت البراقع واللبدة والجلابيه! و كنت ذات يوم نشرت مقالاً عن "السيد ومراته في باريس" عذلت فيها بيرم عذلاً شديداً على هذا الانحياز المطلق لباريس وما فيها على حساب مصر الشعبية وما فيها من لغة وتقاليد و"نحلة عيش" وهو انحياز لم آخذ فقط عليه أنه غير عادل بل أخذت عليه أنه غير دقيق أيضاً فإن باريس "مثلنت" (كما نترجم الآن اسم المفعول الإنجليزي idealized) على قاعدة "صورة نيجاتيف" لمصر، فكأن كل ما رآه بيرم مساوئ مصرية أبدله بصورة أوتوماتيكية بإيجابيات فرنسا -عن صواب أو عن توهم- وما فعله بيرم بالمناسبة في هذا الكتاب يفعله العرب لحد الآن ولا سيما أنصار "الحداثة" وخصوم التقليد، فإن كنت تريد أن تأخذ فكرة عن "صورة الغرب عند الحداثيين" كان لا بد لك أن تعرف تصور هؤلاء للواقع العربي، وتصحيحاتهم المتمناة عليه، وبتعريف بسيط: هذا الواقع العربي مصححاً (بفتح الحاء الأولى وتشديدها) هو صورة الغرب عند الحداثي العربي. فإن كان الأمر هكذا، توقعنا عن صواب أن العربي صاحب هذه الرؤية سيرى في الغرب"عالم الأحلام" وسيتمنى أن يتخلص من كل السمات المميزة للهوية العربية وأن يمتلك كل السمات المميزة للهوية الغربية فهي عملية نبذ العربي داخلنا والخروج من جلدنا للتماهي مع الغربي والدخول في جلده. وهذه العملية النفسية هي كما يرى القارئ مبنية منذ البداية على قاعدة هشة لأن تصور العربي للذات الغربية هو تصور غير دقيق (فهو كما قلت صورة "نيجاتيف"للمجتمع العربي لا يظهر فيها إلا مجتمع عربي "مصلح" رغم أن أصحاب التصور يؤمنون أنه يمثل حقاً المجتمع الغربي ) وهذه العملية المتطابقة مع الآليات التي وصفتها منذ سنين في تحليلي لعاطفة الحب لا يمكن أن تنجح، ببساطة لأنها مبنية على الأماني لا على الواقع الموضوعي. كنت في التحليل المذكور أعلاه لعاطفة الحب قد وصفت العملية النفسية التي تبدأ ب"اندلاع الحب" وتنتهي بإنتهائه وسميتها"جدل الحب" وذكرها يفيد-فيما أرى-هذا التحليل للعلاقة مع هذا الغرب -الحبيب لنرى الأواليات النفسية المتعلقة بالموضوع العام للتيار التأصيلي الذي يريد العودة إلى الهوية. ثمة ترابط وثيق بين عاطفتي "الحب" و"الاحتقار"، فاحتقار الذات الحقيقية (التي نسقطها على ذات خارجية ما، لنقل هنا: مجتمعنا) يتكامل مع حب الذات الأخرى فنحن نريد أن ننبذ ذاتنا الحقيقية ونريد أن نتماهى مع الذات الاستلابية -المرجع-، وهذه -وفقاً لتحليلي الذي أعدت نشره في كتاب مشترك مع الأخ د.حسين شاويش ("حول الحب والاستلاب" -دار الكنوز الأدبية- بيروت- 1995) هي ماهية عاطفة الحب وهذه الماهية تفسر المصائر اللاحقة لهذه العاطفة. حين نطبق تحليلنا لهذه العاطفة ذات الوجه المزدوج: الحب -الاحتقار على علاقة الانسان مع وطنه نجد أن الاستلاب لحسن الحظ قلّما يكون شاملاً تام النجاح، والدليل على ذلك هو الحنين الذي يحس به أغلب المهاجرين الذين كانوا في الأصل "يتمنون من أعماق قلبهم" أن يناموا ثم يصحوا فيجدوا وطنهم قد تلاشى وحلّ بدلا عنه بلد آخر (هو البديل -"النيجاتيف" الذي وصفناه). إن الحنين دليل على أن في "أعماق قلبهم" شيئاً آخر غير احتقار الوطن، وعلى هذا "الشيء الآخر" يراهن أنصار الحفاظ على الهوية الثقافية. في نقطة معينة من خط تطور الخصام مع الوطن تظهر الذات الحقيقية لا كشيء يجب نبذه بل كشيء لا يستغنى عنه. وكأن الانسان، حين يكون واقعا تحت تأثير هذه العاطفة المزدوجة: الحب- الاحتقار، يغفل مؤقتا عن حقيقة أن هذه الذات الحقيقية هي أكبر وأعمق من أن يؤثر فيها هذا الانفعال العارض الذي يصور له أنه ما من شيء في هذه الذات يستحق البقاء! الذات الحقيقية هي مفهوم حركي (أو كما يقولون "ديناميكي") فهي واقع الشخص المادي (الجسدي، النفسي، الاجتماعي) وهي أيضا نمط السلوك الناتج عن الخبرة وعن التعلم وعن الموروث الثقافي وجزء صغير من هذه الذات هو المقصود حقيقة نبذه في هذه الحالة الانفعالية التي أسميناها "الحب-الاحتقار" وإن كان الواقع تحت تأثير هذه الحالة يحس أنه يريد التخلص من هذه الذات بأسرها، ولكن هذه الذات عند الممارسة تدافع عن نفسها حيال التحدي، وحين يشتد التحدي الخارجي يكتشف المرء أنه حقا لا يريد عن ذاته الحقيقية بديلا وهذه هي حال المهاجر العربي الذي يواجه في الغرب التهجمات العنصرية على المجتمع العربي والحضارة العربية. والشعراء عبروا عن مثل هذه الحالة في مثل قول المتنبي: خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا وفي غمار حالة متوجهة في اتجاه العودة إلى هوية ثقافية مكبوتة قال المتنبي: حسن الحضارة مجلوب بتطرية وفي البداوة حسن غير مجلوب وهذا هو الذي قاد بيرم إلى تجاوز انفعاله العارض بالمناظر الجميلة التي رآها في سياحته التي دامت عشرين عاما وإلى أن يقر لنفسه أخيرا أنه ما رأى راحة إلا حين رأى "البراقع واللبدة والجلابية" وهذه العودة إلى الهوية الحقيقية ليست وهمية ولا تخيلية لأن الفرد هنا يعود إلى أصل حقيقي لا شيء أكثر منه حقيقية! وفقط بهذه العودة يستطيع العرب حقيقة أن يتعاملوا بتوازن وبلا عقد نقص مع الحضارات الأخرى، ويستطيعون حقا أن يختاروا ما يرونه مناسبا لهم، ويستطيعون على أساس هذه العودة إلى الذات الحقيقية، وفقط على هذا الأساس، أن يصلحوا ما يرونه محتاجا وقابلا للإصلاح من جزئيات البنية الاجتماعية العربية. لقد شاب النزعة الاصلاحية العربية منذ "عصر النهضة" شائب الانبهار بالغرب والتخبط في محاولة محمومة للتخلص من كل ما نراه مميزا لنا عن الغرب (حتى الأحرف اللاتينية فكر كثير من المثقفين العرب بإحلالها محل الأحرف العربية) وفقط حين ننطلق من قناعة بذاتنا الحقيقية ومن إيمان بمشروعية التعددية الحضارية على مستوى العالم (وعلى مستوى ذاتنا أيضا التي تحتوي مكونات عديدة دينية ولغوية وثقافية) نستطيع أن نرى ما هو عرضي وما هو أساسي في "التقدم" الغربي (وأستعمل هذه الكلمة "تقدم" بكل حذر وبمعنى محدد) وما هو عرضي وما هو أساسي في "التخلف" العربي (واستعمالي لكلمة "تخلف" يخضع لنفس الحذر ونفس المحدودية). هذه العودة السوية الى الهوية، الذات الحقيقية، هي ما كنت ادعوه أيام الصبا "الإزالة الثورية للاستلاب". وكتابات من يريد بقاء التنوع الثقافي في العالم وليس شطبه ببساطه لصالح لون ثقافي واحد هي نزعة للدفاع عن الذات الحقيقية وجعل هذه الذات "تنطق" لان عقدة النقص يمكن تعريفها هكذا: هي حالة الذات حين تفتقد "الحجة" التي تبرر بها وجودها فتسكت وتترك للذات المحتقرة لها الكلام بالنيابة عنها مثلا هذا هو حال الشغيلة حين لا يقولون أنهم يبنون الحياة لهم ولغيرهم بل يرددون قول من يقول أنهم شريحة دونية. ووظيفة "المثقف العضوي" في هذه الحالة هي جعل الذات الحقيقية للشغيل تنطق لتقول: أنا موجود ولا غنى عني. هذا المثقف هو الذي يوجه نشيده على اتجاه محمود درويش (ليته في الواقع منسجم مع الحالة التي يعبر عنها شعره): ليدين من حجر وزعتر هذا النشيد....... محمد شاويش-برلين