لا نعرف صورة المتنبي، ولا أحد رآه، ولكن وزارة التربية الوطنية نشرت له رسما في النصوص الأدبية القديمة، فبقينا مشدودين إلى تلك الصورة التي يظهر فيها أبو الطيب فتى وسيما وعليه سمات التمرد، مثل «تشي غيفارا» العصر العباسي. إلا أن الرسم الذي وضعه جبران خليل جبران، الأديب اللبناني الذي كان يمثل بالنسبة إلى لبنان ما كان يمثله أبو القاسم الشابي بالنسبة إلى تونس أو أرثور رامبو بالنسبة إلى فرنسا، بدا فيه المتنبي في صورة مفعمة بالحياة، وقد وضع على رأسه كوفية عليها حزام يحوط الرأس، مثل سكان الخليج، وربما كان ذلك نسبة إلى الزي الذي كان يلبسه الكوفيون زمن المتنبي. فقد كان جبران مأخوذا بشيخ الشعراء العرب، ويقول اللبنانيون إنه أي جبران كان وحيد عصره، مثلما كان المتنبي، الذي شبه نفسه بالنبي صالح وسط قومه، بينما أخذ جبران ذلك الشعور بالعزلة عن العصر وألف كتابه الشهير«النبي». وقد تعرض المتنبي، في حياته كما بعد موته، للعديد من الانتقادات والتهجمات. ومن الطرائف التي تروى عنه أن شخصا ما كان يكرهه ولا يطيق سماع اسمه، وكان كلما سمع بوجوده في بلدة هجرها، لكنه كلما انتقل إلى بلدة نائية إلا وسمع به، حتى نزل يوما بين ظهراني أهل بلدة فسأل عن المتنبي فلم يجد أحدا سمع به. وذات يوم ذهب للصلاة في أحد مساجد البلدة فسمع الخطيب يردد بيت المتنبي: أساميا لم تزده معرفة وإنما لذة ذكرناها فخرج لا يلوي على شيء. وقد لا تكون القصة صحيحة، إلا أنها تصور لنا قوة حضور المتنبي في عصره، حتى إن ناقدا فرنسا، هو ريجيس بلاشير الذي شرح ديوانه بالفرنسية، قال إن موت المتنبي لم يضع حدا في بغداد للخصومة التي كان يضمرها الكتاب والشعراء والنقاد له، وقد تجلى ذلك في صمت الأصفهاني عن ذكر المتنبي في كتابة الشهير«الأغاني» والمرزباني في «الموشح». وكان خصومه يقولون عنه إنه يؤلف أشعاره مقابل المال، بينما قال عنه المعجبون به إنه لم يكن يمدح من أجل المال ولكن من أجل قضايا كان يؤمن بها، فيما رفعه البعض إلى درجة القديسين. وفي زمنه هجاه أحد الشعراء وقال: أي فضل لشاعر يطلب الفضل من الناس بكرةً وعشيًّا؟ عاش حينا يبيع في الكوفة الماء وحينا يبيع ماء المحيَّا. وهذا ما قال عنه طه حسين، الذي يبدو أنه كان معجبا أكثر بأبي العلاء المعري، الذي جاء بعد مرحلة المتنبي بسنوات، للشبه بين الإثنين في العمى وفقدان البصر. فقد قال عن المتنبي إنه كان يبيع ماء وجهه لممدوحيه، هذا في الوقت الذي يقول آخرون إن المتنبي كان يمدح، في الحقيقة، نفسه، من خلال مدح الآخرين، قصد إثارة الانتباه إليه. فحين يمدح فهو يدخل ذاته في جزء من بناء القصيدة، وكأنه يقول للممدوح: أنا الذي تنازلت تواضعا وجئت أمدحك. وحين يهجو، يعمد إلى التنقيص من قيمة خصمه، وكأن لسان حاله يردد: كلكم حقراء وأنا الذي يلمس الثريا. انظر إليه وهو يفاخر بعظمته والمجد الشعري والسياسي الذي حصله، ويقول إن الزمان أعطاه كل ما يريد، وإنه لم يعد يقنع بأن يعطيه الزمان متفضلا عليه، بل هو الذي يشترط على الزمان ما يعطيه: أعطَى الزّمان فَما قَبِلت عطَاءَه وأراد لي فأردتُ أن أتخيرَا.