في سياق التحولات التي أفرزها «الربيع العربي»، دخلت الحركات الإسلامية منعطفا جديدا بعد أن برز مشروعها المجتمعي، ونالت ثقة الشعوب في كل الانتخابات التي عرفتها المنطقة والتي تميزت بكونها حرة ونزيهة، سواء في تونس أو مصر، أو في المغرب حيث حقق حزب العدالة والتنمية فوزا كبيرا في انتخابات 25 نونبر الماضي، بوأته الصدارة وقادته إلى ترؤس الحكومة. هذا التحول سلط الضوء من جديد على مسألة التدافع بين الإسلاميين والقوى العلمانية التي همشتها الانتخابات الأخيرة من زاوية مختلفة عن الزاوية التقليدية التي كانت طاغية لعقود، حيث مارست هذه الفئة ضغوطا كبيرة على الإسلاميين وساهمت بتحالفها مع السلطة السياسية في إظهار صورة للغرب عن الإسلاميين معاكسة للحقيقة. وقد صدرت نهاية الشهر الماضي، دراسة حول «النظام الناشئ في الشرق الأوسط» عن مؤسسة كارنيجي، سلطت الضوء في جزء منها عن حقيقة اللحظة التاريخية التي تجتازها بعض الدول، مثل المغرب وتونس ومصر، حيث حصل «تناوب النخب» الذي أدى تلقائيا إلى تراجع النخب الحداثية العلمانية، فاسحة المجال أمام النخبة الإسلامية التي تفوقت شعبيا وبرعت في بناء نفسها تنظيميا بطريقة مبهرة، حققت من خلالها الجاذبية الواسعة، وأظهرت أن الأحزاب الأخرى سيئة التنظيم وتجد صعوبة في تشكيل ائتلافات فيما بينها حتى لأغراض انتخابية. إن ما تقدمه الدراسة الصادرة عن مجموعة تفكير أمريكية معروفة بمصداقيتها دوليا، من خلاصات تدعو الغرب إلى الانتهاء من فرض الأجندات الإديولوجية التي تتعلق بالعلمانية على الدول التي يقودها الإسلاميون، ومد جسور التواصل معهم، والقطع مع الرهان على دعم القوى العلمانية، يطرح الاستفسار حول حجم التدافع المطروح بين الإسلاميين والعلمانيين في الدولة في سياق تغير نظرة الغرب وسقوط الافتراضات المسبقة التي أثرت في قراراته في السابق. الدراسة تحاول –لأول مرة- أن تصور «العلمانيين» على أنهم يدافعون عن مصالحهم بشراسة ولو قادهم ذلك إلى «عرقلة» ما يمكن عرقلته من أجل التشكيك في قدرات ونوايا الإسلاميين، يدعم ذلك مواقفهم الأخيرة في الحالات الثلاثة التي تتناولها الوثيقة، ففي المغرب تنامت حدة المعارضة لحزب العدالة والتنمية واستعمال كل الآليات لإظهار فشله، واستدعاء كل المشاكل التي تتخبط فيها الدولة والتي سببتها المعارضة أيام تسييرها للحكومة، وإبرازها وكأنها صنيعة بنكيران وحكومته، وفي تونس، رغم أن النهضة تحالف مع العلمانيين ومنحوا رئاسة الجمهورية مؤقتا إلى منصف المرزوقي، المعارض العلماني المعروف، فهناك توتر حاصل بين نخبتين ينذر أن ينفجر، وفي الحالة المصرية، تعددت الضربات الموجعة التي يتلقاها الإخوان المسلمون وحزبهم، الحرية والعدالة، أمام ضعف الترسانة الإعلامية التي يتوفرون عليها، جعلتهم في وضع محرج على بعد يومين من انطلاق الجولة الأخيرة من الانتخابات الرئاسية، بين مرسي ومرشح النظام السابق شفيق. السؤال المطروح، هل فعلا الصراع القائم في دول الربيع العربي اليوم بين الإسلاميين والعلمانيين؟ وفي تعليقه على نتائج الدراسة قال محمد ضريف إن الإسلاميين ليسوا نقيض العلمانيين وهم معا يطمحون إلى تأسيس الدولة المدنية، وإن الصراع الحقيقي هو بين الإسلاميين الذين حصلوا على ثقة الشعب في البلاد وبين مناوئي التغيير، الذين قد يلبسون ثوب العلمانيين. «التجديد» تنشر ما ورد في الدراسة من تحليلات وتوقعات، وتقدم قراءة في خلاصاتها. “تناوب النخب” تؤكد الدراسة، أن ما يسمى “الربيع العربي” قد أفرز أمرين؛ تحول السلطة بين تيارين مختلفين على كل الأصعدة، واستبدال الانتخابات المدبرة بإحكام بانتخابات أكثر حرية وأكثر قدرة على المنافسة، وأوضحت أن الانتخابات التي شهدها كل من المغرب وتونس ومصر، أثبتت أن الأحزاب الإسلامية جيدة التنظيم وتحظى بالشعبية، في الوقت الذي كشفت أن الأحزاب العلمانية عاجزة عن تطوير خطابها حتى يحقق الجاذبية الواسعة، فضلا عن أنها سيئة التنظيم على أرض الواقع، وتجد صعوبة في تشكيل ائتلافات في ما بينها حتى لأغراض انتخابية. وأكدت دراسة مجموعة التفكير الأمريكية ، أن فوز الإسلاميين في الانتخابات الأخيرة، هو أكثر بكثير من التناوب المعتاد للأحزاب على السلطة، الذي يجري بانتظام في جميع النظم السياسية الديمقراطية التي لا تتحكم في خيارات شعوبها، وأفادت أن الأمر يتعلق ب “تناوب النخب”، الذي يدل على أفول النخبة الحداثية التي هيمنت على الحياة السياسية في جل الدول العربية لعقود طويلة، والظهور المصاحب لنخب إسلامية جرى إقصاؤها وتهميشها وتعرضت للمطاردة والقمع والاضطهاد والتشتيت في كثير من الأحيان.. مخاوف “العلمانيين” أظهرت الدراسة، أن صعود النخبة الإسلامية إلى الحكم تسبب في حدوث قلق وخوف هائلين بين أعضاء النخبة الحداثية العلمانية، قبل أن تتحدث عن كون هذه المخاوف مبررة ومفهومة على اعتبار حجم التحول التاريخي الذي تجتازه الأمة العربية والإسلامية، رغم أن هناك الكثير من عمليات الإشاعة من جهات مختلفة، تروم التخويف من الإسلاميين والتشويش عليهم. ولعل من بينها “مسألة الشريعة” وما يتصل بها، والتي استعملها خصوم الحركة الإسلامية للتخويف منهم، قبل أن تفاجئ الأحزاب الإسلامية الجميع في تعاطيها مع قضية الدستور الذي هو من أكثر القضايا الإيديولوجية التهابا، التي تواجه الدول العربية التي تعيش مرحلة انتقالية، فالأحزاب الثلاثة الموجودة في السلطة لديها حلول مختلفة متأصلة في سياسات الدولة، على سبيل المثال، أشارت دراسة أخرى لنفس المؤسسة بعنوان “الأحزاب الإسلامية في السلطة: عمل لم يكتمل بعد”، أن حزب العدالة والتنمية لم يضغط في المغرب لإدراج الشريعة في النص الدستوري، وقبل تعريف المغرب على أنه دولة مسلمة، واعتبر النص على أن الإسلام هو دين الدولة كافٍ. وقرر حزب النهضة التخلي عن أي إشارة إلى أحكام الشريعة، واكتفى بدلا من ذلك باللغة المحايدة للدستور الأول بعد استقلال تونس سنة 1956، التي تنص ببساطة على أن “الإسلام هو دين تونس”. من جهة أخرى، حاولت الدراسة، أن تبين أن مخاوف العلمانيين عميقة لدرجة لم تختف، رغم مؤشرات الثقة التي أظهرها الإسلاميون، كما ينطبق على الحالة التونسية، فرغم أن إسلاميي تونس اختاروا رئيسا للبلاد، منصف المرزوقي، من أحد الأحزاب العلمانية، بعد أن انتخبوا رئيسا للوزراء منهم، وتقاسموا المناصب في اللجان الست، التي تتولى صياغة فصول منفصلة من الدستور الجديد للبلاد، فإن هناك توترا كبيرا تحت سطح هذه العملية جيدة التنظيم والإدارة، فالهوة بين الأحزاب العلمانية والإسلامية تطفو إلى السطح، والحداثيون التونسيون لا ينظرون إلى حزب النهضة على أنه حزب إسلامي معتدل لا يشكل أي تهديد، بل يعتبرونه خطرا وغير جدير بالثقة. علاقة الغرب بالعلمانيين تظهر الدراسة، أن الدول الغربية كانت أكثر استعدادا لقبول صعود الإسلاميين، مقارنة مع الأحزاب العلمانية، وأرجعت ذلك إلى فقدان الدول الغربية لصدقيتها إذا ما رفضت العملية الديمقراطية التي تدعمها، وكشفت أنه بعيدا عن المقاربة بين الغرب وعلمانيي الداخل (الوطن العربي)، فإن صعود الأحزاب الإسلامية -رغم ذلك- تبقى مثيرة للقلق بالنسبة إلى الحكومات الغربية لسببين؛ أولا، نظرا إلى التساؤلات التي لا تزال قائمة حول الأهداف النهائية لهذه الأحزاب، خاصة فيما يتعلق بمدى انفتاحها على إقامة علاقات قوية مع الغرب. ثانيا، لوجود تحد يفرضه الانقسام العميق بين القوى الإسلامية والعلمانية أو الحداثية، بوصفه السمة السائدة في البلدان التي تمر بمرحلة انتقالية، ذلك أن النخبة العلمانية التي تهمش بسبب صعود الإسلاميين إلى السلطة، هي التي عقدت الحكومات الغربية صداقة معها ودعمتها في الماضي، بل هي النخبة التي انبثقت منها الأنظمة المتعاقبة في جل دول “الربيع العربي”، وهي جزء من العلاقات التاريخية سواء الودية وغير الودية بين البلدان العربية وبين الغرب. وأشارت الدراسة التي قدمها نخبة من باحثين عالميين، أن الأمر –رغم ذلك- لا يقتصر على وجود علاقات تاريخية بين النخبة العلمانية وبين الغرب فقط، بل يتجاوز إلى كون البقاء السياسي لهذه النخبة “مهم” لبروز الدول التي تجتاز مرحلة انتقالية كديمقراطيات، وخلصت إلى أن الديمقراطية تتطلب وجود قوى متنافسة وموازنة، لذلك يحتاج العالم العربي في هذا الوقت بالذات إلى القوى الإسلامية والعلمانية على حد سواء. النظام الناشئ تؤكد وثيقة كارنيجي ضمن الخلاصات التي قدمتها، حجم الأحزاب الإسلامية التي بلغت إلى قمة السلطة في سياق النظام الناشئ في الشرق الأوسط، وتشدد على أهمية وراهنية فتح الغرب لجسور تواصل وتعاون قويين مع الإسلاميين. حيث اعتبرت أن مطالبة الحركات الإسلامية بتبني أجندات إيديولوجية واسعة، تؤيد العلمانية وتشمل الالتزام الفلسفي بالقيم الأساسية مثل حقوق المرأة، مقاربة مخطئة، وأن المطلوب عوض ذلك التركيز على بعض القضايا المحددة بوجه خاص، مثل المعايير الدولية لحقوق الإنسان، ومبدأ التسويات السلمية للمنازعات الدولية. ودعت الدراسة، المجتمع الدولي إلى توسيع انخراطه على نحو يتجاوز عددا قليلا من نخبة الأطراف السياسية الفاعلة، وتركيز الجهود الدبلوماسية على بناء جسور مع المجتمع بأكمله، وإشراك الإسلاميين والعلمانيين معا في جميع تعاملاته مع المنطقة العربية، كما طالبت بإدراك أن استمرار الرهان على دعم القوى العلمانية وتكثيف الصلة بها دون غيرها لن يخدم الديمقراطية؛ فنمو وتطور الديمقراطية العربية يتطلب توازنا وتنافسا بين القوى الإسلامية والعلمانية. وفي نفس السياق، اعتبرت أن الحكومات الغربية مدعوة إلى الانتقال من تحكيم الاعتبارات الإيديولوجية، إلى تحديد المجالات التي يمكن أن يتم التعاون فيها مع الدول التي صعد فيها الإسلاميون إلى السلطة، وأن يتم التركيز بشكل خاص على الاقتصاد وزيادة المساعدات المالية، وتوفير الخبرة الفنية، والمساعدة على إنشاء أُطُر تنظيمية وقانونية من شأنها تعزيز مشاريع الأوراش العامة الشاملة. نظرة الغرب قبل اليوم أثبتت أنها غير ذت جدوى من خلال المعطيات التي قدمتها مؤسسة كارنيجي، يبدو أن الدراسة الأمريكية تعترف بفشل السياسة التي نهجها الغرب اتجاه الإسلاميين، والتي تأسست غالبا على التشكيك في برنامجهم ومشروعهم، واعتبارهم خطرا على الأمن الدولي، فقد أكدت الدراسة، أن «التهمة الازدواجية القديمة» التي تقول بأن الإسلاميين تعلموا كيف يحركون شفاههم بالكلام بعبارات مطمئنة مع الأجانب في حين احتفظوا بلغة دينية نارية لأنصارهم، كانت موضع مبالغة دائمة، وقالت إن قادة الإسلاميين لديهم دائما شعور متزايد بالمسؤولية السياسية –وإن كان اليوم أكثر من أي وقت مضى- وحذرين في خطاباتهم، ويشعرون أنهم مراقبون عن كثب من جانب المعارضين المحليين والزعماء الأجانب على حد سواء، واعتبرت أن ذلك لا يتناقض مع التصريحات التي يطلقونها بين الفينة والأخرى، والتي تسبب ذعرا في الأوساط الغربية، كالموقف من «إسرائيل». وأوضحت الدراسة، أن النشاط الذي كان مفضلا في العقد الماضي، المتعلق بالتدقيق في الحركات الإسلامية بحثا عن «المتطرفين» الذين يجب تجنبهم و»المعتدلين « الذين يمكن دعمهم، أثبت أنه غير ذي جدوى. و قالت إن «الأطراف الخارجية، ليس لديها أدوات للتحكم في مستقبل الأحزاب الإسلامية»، وخلصت إلى أن الحركات الإسلامية لا تبحث عن التوجيه الإيديولوجي، وتفخر ببراعتها التنظيمية ووحدة صفها، ومن غير المرجح أن تتصدع نتيجة للمغازلات الغربية.