وهناك إجماع داخل الأوساط السياسية والثقافية كون تحمل حزب العدالة والتنمية للمسؤولية جاء في ظروف حرجة ومثقلة بتحديات كبرى، ذات أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية، وأن المواطنين الذي ذهبوا إلى صناديق الاقتراع ومنحوا ثقتهم للحزب، لديهم انتظارات وآمال يعقدونها على الحكومة المقبلة، لإخراج البلاد من الأزمة. وإذا كان حزب العدالة والتنمية استطاع كسب ثقة المواطنين، نظرا لقوته التنظيمية ونظافة يد مناضليه، إضافة إلى استفادته من موقعه في المعارضة، ما جعله يحظى بنتائج غير مسبوقة في الانتخابات، فهل سيتمكن الحزب من الحفاظ على قوته في الساحة السياسية أم أنه سيتراجع بعد الدخول في التجربة الحكومية المقبلة، كما حصل مع حزب الاتحاد الاشتراكي في تجربة التناوب التوافقي سنة 1998؟ من البديهي أن فوز حزب العدالة والتنمية فرضته المتغيرات الإقليمية والدولية، وخاصة ما أصبح يعرف بالربيع العربي، الذي أطاح بعدد من الأنظمة الاستبدادية وفتح الباب أمام الانتقال الديمقراطي في عدد من البلدان العربية مثل تونس ومصر وليبيا، مما أعطى الفرصة للتيارات الإسلامية لكي تتبؤأ صدارة المشهد السياسي العربي، على اعتبار أنها القوى التي مثّلت المعارضة الحقيقية للأنظمة المستبدة، وقدّمت في سبيل ذلك ثمنا باهضا من حرية وحياة مناضليها. كما أن الحراك الشعبي الذي تقوده حركة 20 فبراير، كان له الدور الحاسم في النتائج الإيجابية التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية، حيث لأول مرة في تاريخ المغرب تجري انتخابات تشريعية في جو من النزاهة والشفافية، بشهادة مراقبين وطنيين ودوليين. ولا ننسى أيضا العامل الخارجي المتمثل في القوى الغربية التي أبدت موافقتها على صعود التيار الإسلامي في المنطقة العربية، حيث انخراطت القوى الغربية في دعم الثورات العربية، ومنحت الفرصة أمام القوى الإسلامية الصاعدة، لاعتلاء السلطة، وذلك خدمة لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة، فقد اكتشفت الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي وباقي الدول التي تدور في فلكهما، أن دعمها للاستبداد وحربها على الإسلام تحت مسمّى "الإرهاب"، لم يجرّ عليها إلا الكوارث والحروب والأزمات المالية والاقتصادية. من جهة أخرى، فقد أثار الفوز الكبير الذي حققه حزب العدالة والتنمية، سخط وحنق التيار العلماني الاستئصالي- بكل أطيافه السياسية والحقوقية والثقافية - الذي لا يخفي عدائه التاريخي للإسلام وللمدافعين عنه، فقد أصيب هذا التيار بالصدمة والإحباط بعد صعود الإسلاميين. وهكذا، ومباشرة بعد إعلان النتائج النهائية خرج عدد من العلمانيين المعادين للإسلام عن صمتهم وأشهروا – كما هي عادتهم- الفزاعة المعلومة، معلنين عن توجسهم من النجاح الذي حققه حزب العدالة والتنمية، وخشيتهم من انقلاب هذا الحزب على الديمقراطية، في محاولة لخلق البلبلة والتشويش على هذه التجربة السياسية الوليدة. فقد شنت الصحف والمجلات والجمعيات التابعة للتيار العلماني الاستئصالي، حملة شعواء للتشكك في نوايا وأهداف الإسلاميين، ودعت بشكل صريح إلى اتخاذ أقصى درجات اليقظة والحذر، لمواجهة أي مس بما تسميه المكتسبات الحقوقية في البلاد، وهناك من اعتبر أن فوز الإسلاميين يعتبر نكسة للحداثة(...). وإذا كانت قيم الحداثة التي يتشدّق بها هؤلاء المتعصبين، وينصِّبون أنفسهم حرّاسا لها، تفرض عليهم قبول اختيار الشعب، الذي قال كلمته الفصل، وصوّت لصالح حزب العدالة والتنمية، عن وعي، لكونه الحزب الذي يتميّز عن غيره من الأحزاب الأخرى بدفاعه عن القيم الإسلامية الكونية، التي أخذ منها الغرب الكثير من المبادئ التي صنعت تقدمه وحضارته. إن حملة التشكيك والتخويف من حزب العدالة والتنمية، التي يشنها التيار العلماني الاستئصالي المعادي للإسلام، لم تعد تنطلي على أحد، وخير دليل هو الثقة التي وضعها الشعب في الحزب، لأنه يريد التغيير، الذي يمثله هذا الحزب الذي شهد خصومه بنزاهة واستقامة أعضائه. والحقيقة أن النخب العلمانية المعادية للإسلام، أصبحت تعيش في عزلة عن المجتمع، وتريد أن تفرض اختياراتها عليه عنوة، فهي رغم ما تدعيه من الدفاع عن قيم الحداثة والديمقراطية والحريات، إلا أنها لا تؤمن بالتعددية ولا بالتداول السلمي على السلطة، وخشيتها من وصول الإسلاميين إلى السلطة، نابعة من كونها لا تريد أن تفدم الحساب عن فسادها وعن حربها المعلنة على الدين الإسلامي في المجتمع. إن الربيع العربي الذي أسقط الخوف، وأعاد للشعوب العربية كرامتها وقدرتها على صنع مستقبلها، فأسقطت الاستبداد، وأسقطت معه القوى العلمانية المتحالفة معه، والتي ظلت لعقود طويلة تشن حربا بالوكالة على الإسلام وعلى المدافعين عنه، بعد أن صارت بوقا للغرب وناطقا رسميا باسمه ومدافعا عن قيمه ومصالحه، فعاقبتها الشعوب بتصويتها للقوى والتيارات السياسية التي تعبّر عن انتمائها الحضاري والثقافي.