لقد تقرر وتكرر أن الشريعة مصلحة كلها وحكمة كلها ورحمة كلها... وأنها إنما وضعت لجلب مصالح العباد... فهل الشرع اعتبر واعتمد كل ما يطلبه الناس ويعتبرونه مصلحة؟ أم اعتبر بعض ذلك ولم يعتبر بعضه الآخر؟ بعبارة أخرى: ما هو موقف الشرع من هذه «المصالح» التي تملأ الدنيا وتشغل الناس؟ من هذه الزاوية قَسَّمَ الأصوليون المصالح السائدة عند الناس إلى ثلاثة أنواع: 1. المصالح المعتبرة، 2. المصالح الملغاة، 3. المصالح المرسلة، في هذه الحلقة أتناول كلا من المصالح المعتبرة والمصالح الملغاة، على أن أتناول المصالح المرسلة في الحلقة الموالية بإذن الله تعالى. المصالح المعتبرة: هي التي نص الشرع على اعتبارها وقبولها، أو حث على تحصيلها ورعايتها. ويأتي في مقدمة ذلك الفرائضُ والواجبات، كالصلاة والزكاة والصوم والحج، والوفاء بالعهود وأداء الأمانات، والصدقِ في القول والإخلاصِ في العمل... وكل ما هو منصوص عليه من مندوبات ومباحات، فهو مصلحة معتبرة. وكل ما مدحه الشرع أو مدح فاعله، فهو كذلك مصلحة معتبرة. فقوله عليه الصلاة والسلام: «تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم»، فيه أمر ومدح، فهو يدل على مشروعية الزواج وأنه مصلحة معتبرة مأمور بها، وفيه مدح يدل على اعتبار مصلحة التناسل وتكثير عدد المسلمين. وكذلك ما نص الشرع على حِلِّيته فهو داخل في المصالح المعتبرة. كما في قوله تعالى:}وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ{ فهو دال على أن البيع والشراء (أي التجارة)مصلحة معتبرة. وكل ما هو طيب في ذاته ومكسبه من المطعومات والمشروبات وغيرها، فتمَلُّكُه واستعماله مصلحة معتبرة، لأن الله تعالى يقول }يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهمْ قلْ أُحِلَّ لَكمُ الطَّيِّبَاتُ..{ سورة المائدة: 4، إلى قوله }الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ..{ المائدة: 5. وأما المصالح الملغاة: فهي التي نص الشرع على أنها غير مقبولة وغير مشروعة وغير جائزة، أي أنه ألغاها وأبطل مشروعيتها. فمن هنا جاء هذا الإسم «المصلحة الملغاة». فكل شيء وكل فعل، حرمه الشرع وسلب عنه صفة المشروعية، فهو وما ينجم عنه يعد مصلحة ملغاة. أي أن المصالح الملغاة هي المحرمات وما قد يكون فيها من فوائد ومنافع. فالخمر والميسر مثلا، ذَكر الله تعالى أن فيهما منافعَ للناس، ومع ذلك حرمهما، فصار كل منهما إذاً مصلحة ملغاة. والرشوة تحقق مصلحة خاصة لمعطيها وآخذها، ولكنها أيضا مصلحة ألغاها الشرع ولم يعتبرها، والتعامل الربوي فيه مصالحُ ما، ولكنها ملغاة في حكم الشرع. والغش مصلحة لصاحبه، بما يربح به من أموال ومنافع، ولكنها مصلحة ملغاة في حكم الشرع. وبهذا يتضح أن «المصالح الملغاة»، هي إما مصالح جزئية خاصة، في طياتها مفاسد كلية عامة، أو هي مصالح عابرة عاجلة، تتبعها مفاسد مستمرة آجلة، أو هي مصالح صغيرة تنطوي على مفاسد وأضرار جسيمة كبيرة. والنتيجة أن هذه الأنواع من المصالح الملغاة في الشرع، إنما هي في حقيقتها ومحصلتها النهائية مفاسد لا مصالح. ومعلوم عند العلماء وعند العقلاء أن اعتبار الشيء أو التصرف مصلحة أو مفسدة، إنما يكون بحسب الغالب من أمره. فما غلب صلاحه ونفعه في الحال والمآل والظاهر والباطن، فهو مصلحة معتبرة. وما غلب فساده وضرره في الحال أو المآل وفي الظاهر أو الباطن، فهو مفسدة، أو هو مصلحة ملغاة. وهذا المعيار مأخوذ من قوله تعالى }يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا{ سورة البقرة: 219.