تعبر وسطية الأحكام في الإسلام عن خاصية التوازن الملحوظة في البناء العام للإسلام عقيدة وتصورا، حيث تنطبق هذه الخاصية أيضا على مستوى التشريع الإسلامي، توازن بين الثوابت والمتغيرات وبين الأحكام القطعية والأحكام الظنية وبين الأصول والفروع. فالإسلام قد عني بوضع الثوابت والأصول، وهي التي يقوم عليها بناؤه التشريعي المذكور وحفظها من أن تمتد إليها يد التلاعب والتحريف والتبديل، لكنه ترك المجال واسعا للاجتهاد فيما دون ذلك. فحفظ بذلك الشريعة من غلو المشددين وتسيب المتحللين، وحفظ أحكامها من الجمود وجعلها صالحة لكل زمان ومكان دون أن يفرط في الأصول والثوابت المتمثلة في المقاصد الكلية للشريعة والفرائض الركنية والأحكام القطعية والقيم الأخلاقية ونحوها وهي أصول لا يجوز التهاون فيها مثل محاولة بعضهم زلزلة هذه الثوابت مستغلين فهما خاطئا للوسطية، مساويا للمساومة وأنصاف الحلول. وعلى النقيض من تعظيم الأصول يقوم منهج الوسطية على التيسيير في الفروع، دفعا للحرج، ورفعا للأغلال والآصار، وهو منهج نبوي قائم على مبدأ ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما،يسروا ولا تعسروا، وقد قال الفقيه سفيان الثوري إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشدد فيحسنه كل أحد، لاسيما في المواطن التي لم يرد فيها نص صريح. وتتمثل وسطية الأحكام الشرعية في عديد من القواعد الفقهية التي استنبطها العلماء من خلال استقراء الأحكام الشرعية الجزئية ومنها: قاعدة المشقة تجلب التيسير:ودليلها كما يقول الإمام السيوطي في الأشباه والنظائر قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر) و قوله:(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، و قوله صلى الله عليه وسلم: بعثت بالحنيفية السمحة وقوله صلى الله عليه وسلم:يسروا ولا تعسروا. وللتخفيف أسباب سبعة: السفر والمرض والإكراه والنسيان والجهل والعسر وعموم البلوى والنقص. قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، بشرط عدم نقصانها عنها وهي متفرعة عن قاعدة أخرى وهي قاعدة الضرر يزال، كما يقول السيوطي وأصلها حديث:لا ضرر و لا ضرار، والتي من فروعها أيضا الضرورة تقدر بقدرها، وقاعدة الأمور ضرورات وحاجات و تحسينات، وما جاز بعذر بطل بزواله، والضرر لا يزال بمثله. وقاعدة إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، لأن اعتبار الشرع بدفع المنهيات أعظم من اعتنائه بالمأمورات لحديثه صلى الله عليه وسلم:إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه. ومنها أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة كالإجارة، والحوالة، وإباحة النظر للمخطوبة، وتضبيب الإناء. قاعدة ارتكاب أخف الضررين، ومبنى هذه القاعدة على أن الإنسان إذا خير بين خير واضح وشر واضح فعليه أن يختار الخير. هذا أمر لا شك فيه، لكن الحياة ليست دائماً اختياراً بين خير خالص وشر خالص، بل إن الإنسان كثيراً ما يجد نفسه مخيراً بين خير وخير، أو شر وشر. وهذه القاعدة قاعدة عقلية وقاعدة شرعية وجدها الأصوليون مطبقة في عشرات من آيات القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة. من ذلك قوله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما).(ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة)، فتحريمهما إذن لم يكن لخلوهما من أي نفع وإنما كان من أجل أن ما فيهما من شر أكبر مما فيهما من خير ومن ذلك قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم، كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون). قال ابن كثير معلقاً على هذه الآية في تفسيره: >يقول الله تعالى ناهياً لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن سب آلهة المشركين وإن كان فيه مصلحة إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين<. ومن ذلك قوله تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شَرحَ بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)، فقد أباح الله تعالى في هذه الآية الكريمة للمؤمن أن يتفوه بكلمة الكفر إذا هدد بالقتل أو بغيره من أمور يصعب عليه تحملها، فهو هنا يختار أخف الضررين بالنسبة له. ويمكن أن نلمح هذه القاعدة في صلاة الخوف، وقصر الصلاة في السفر، والفطر للمريض والمسافر، وفرضه التحريم على صيام وصلاة الحائض، لأن الله تعالى يريد بالناس اليسر ولا يريد بهم العسر، فإذا كان الإنسان في ظرف يجعل ما فرض الله تعالى عليه في الظروف العادية ذا عاقبة فيها ضرر عليه، تغير الحكم