إصدار التقرير الثاني للحالة الدينية في المغرب لسنتي 2009 و 2010 يعتبر مناسبة ضرورية لرصد التراكم المعرفي الذي حصله المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة، ومتابعة اطراد الخلاصات التي سبق الانتهاء إليها في التقرير الأول لاسيما منها ما يتعلق بتنامي مظاهر التدين في المجتمع المغربي واستمرار التوتر بين البعد التعبدي فيه والبعد السلوكي، والانتقال إلى رصد أبعاد أخرى كانت عبارة عن بياضات في التقرير السابق خاصة ما يتعلق بطبيعة العلائق التي تربط الديني بالاقتصادي والسياسي والثقافي والفني. كل هذه الخلاصات، سواء منها التي اطردت، أو التي تم الانتهاء إليها في التقرير الجديد، تحتاج إلى أن تنتقل من المجال البحثي العلمي إلى النقاش العمومي، ويتم التداول فيها بشكل واسع حتى لا يبقى الحديث عن الظاهرة الدينية خارج التأطير العلمي، وحتى تخرج الممارسة العلمية النظرية من فضائها النخبوي وتتحرر من بعض التحيزات المعرفية والمقاربات الفكرية التي أطرت البحث الاجتماعي في هذا المجال، وتسهم بذلك في إحداث التنوع والثراء المطلوب في المعرفة العلمية بالظاهرة الدينية. من هذه الزاوية، يكتسب التقرير أهميته العلمية والمجتمعية.وهو كونه يسعى إلى أن يقدم معرفة علمية بالحالة الدينية، بمكوناتها وأهم الفاعلين فيها وطبيعة التفاعلات القائمة بينهم والتحديات التي تعترض التدين في المغرب، ويحقق بذلك التراكم المطلوب في هذا المجال، خاصة إذا وقع الانتقال السلس من مرحلة الرصد الوصفي إلى مرحلة التحليل والاستشراف. يبقى الملمح المهم في صدور هذا التقرير، بالنظر إلى الخلفية الفكرية والنظرية التي تؤطر معديه، هو كونه يمثل علامة فارقة في مسار الحركة الإسلامية التي كان اعتماد آلية البحث والدراسة في عملها من قبل ضعيفا. الجديد، مع حصول هذا التراكم المعرفي الذي يعبر عنه صدور التقرير الثاني للحالة الدينية، هو التحول من موقع الاستهلاك المعرفي إلى موقع إنتاج المعرفة في تخصصات كانت تعاني الحركة الإسلامية فيها من فقر وضمور كبير. فمن الاقتصار على الانشغال بقضايا الفكر الإسلامي، والتفرغ للكتب التراثية ذات العلاقة بالعلوم الشرعية، وقعت انعطافة نحو العلوم الاجتماعية، واعتماد أدواتها المنهجية في فهم الواقع بجميع مكوناته وظواهره بما في ذلك المركبة والمعقدة منها كالظاهرة الدينية. لقد كانت طبيعة الحركة الإسلامية في العالم العربي باعتبارها حركة اجتماعية تفرض هذا التحول منذ زمن بعيد، لكن انشغال الحركة الإسلامية بهموم وأولويات أخرى أجل انعطافها إلى الانشغال بمركزية البحث العلمي الاجتماعي في الكثير من الأقطار، وهو التحدي الكبير الذي تنبهت له الحركة الإسلامية في المغرب، خاصة بعدما بدا لها من رصيد التجربة، أن التعويل على الانطباعات والأفكار الفردية أو التجريبية لا يمكن أن يكون هاديا لمسيرتها، مما جعلها تجعل من مهمة البحث العلمي الاجتماعي أولوية كبرى توضح لها بشكل علمي طبيعة المجال الذي تشتغل فيه، والفاعلين الذين يشاركونها الفعل في هذا المجال، وتطور التفاعلات فيما بينهم، والتوجهات الدينية في المغرب، والتحديات التي تعيقها، وأنماط العلائق بين القيمي والسياسي والاقتصادي والفني، ورصد مآلات علاقة كل من القيم بالثروة والسلطة في المغرب. إن حاجة الحركة الإسلامية اليوم إلى مراكز أبحاث في تخصصات متعددة، تفرضها اليوم ثلاث ضرورات أساسية: 1- ضرورة وجود واستمرار: فمنطق العصر الحديث اليوم أصبح يحكم على من يغيب البعد العلمي والبحثي من أجندته بالموت والانقراض. 2- ضرورة نمو وتطور: فلا مواكبة للتطورات والمستجدات، ولا امتلاك لأي مبادرات استباقية بدون بحث علمي استشرافي. 3- ضرورة استيعاب وتدافع:فالبحث العلمي هو الذي يمكن من إعطاء صورة علمية عن الفاعلين وقدراتهم ومخرجاتهم، ورصد التفاعلات القائمة بينهم، وهو الذي يبصر الحركة الإسلامية بالتحديات التي تعرقل استراتيجيتها الاستيعابية. بكلمة، إنه بغض النظر عن الخلاصات التي انتهى إليها التقرير الثاني للحالة الدينية، والتي تطلب الأمر مناقشتها علميا وتداول مؤشراتها والحثيثيات التي تستند إليها، فإن دلالته على التحول الفارق في مسار الحركة الإسلامية وانعطافها إلى تكثيف استخدام البحث الاجتماعي والاستعانة بالبحث العلمي في ترشيد مسارها وصناعة قرارها السياسي ، تبقى أكبر من هذه الخلاصات.