إن المتدبر في أصول الإسلام المنطلقة من الكتاب والسنة وإلإجماع يلاحظ أن المنظومة التربوية في الإسلام تنظر إلى العلم والتربية (التزكية) بتلازم تام، حتى إنه لا يمكن تصور الأول بغير الثاني، ولذلك تكررت عبارة القرآن الكريم ببيان الغاية من البعثة النبوية والرسالة المحمدية وحصرها في التعليم والتزكية (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) الجمعة:2 كما أن المتتبع لواقع الشأن الديني في البلاد الإسلامية ليلاحظ بجلاء أن هناك أزمة حقيقية في مجال الشأن الديني عموما و مجال الوعظ والإرشاد على وجه الخصوص، وهي أزمة نعتقد أن المتم الرئيس فيها هو منظومة التعليم الديني ونوعية التكوين الذي يساهم في تخريج العلماء ومدى استجابة مؤسسات التكوين الديني ومدارسه لمعايير العلمية ومناهج التربية والتكوين، وإن كنا نعتبر أن مسار التعليم العام في بلداننا الإسلامية ليست بأحسن حالا من مثيلاتها في «التعليم الإسلامي والديني». ولعلنا لا نجانب الحقيقة إذا ما قلنا إن أعظم مظاهر الأزمة التعليمية في مجال التكوين الديني وتأطير علماء الدين والموجهين الروحيين ذلك السور الكبير الفاصل بين التكوين العلمي ومبادئ القيم والتربية والتحلية بالأخلاق والتوجيه المعنوي. وعلى كل حال فإننا نعتبر أن أي إصلاح لأمر «الشأن الديني» لا يأخذ بعين الاعتبار مسألة ترشيد مؤسسات التعليم الديني وتخريج الأئمة والعلماء لا يمكن أن يكتب له التوفيق والنجاح، لأن العالِم اليوم والمتخصص في مجال التوجيه الديني مطالب اليوم أكثر مما مضى في مقاومة واقع المنافسة العلمية والمدافعة الفكرية، الشيء الذي يتطلب منه أن يكون على استعداد تام لقانون الحراك ومقومات المواجهة التي تتخذ أكثر من ثغر، وتعبر أثر من مجال، ويبقى مجال القيم والمنافحة عنها والتعريف بمساهمة الإسلام وحضارته فيه أعظم تلك المجالات وأوفرها حضورا. إن حديث القرآن عن العلم والعلماء حديث ذو شجون، باعتبارهم قطب رحى بيان الحق، وعصب الحياة، ونواة التغيير والإصلاح، وليس صدفة أن يكون الكلام عن قصة خلق آدم مرتبطا بمسألة تعليمية وقضايا قيمية، أفرزت انتصارا باهرا لأبينا آدم المتعلم العالم بالأسماء كلها. واستطرد القرآن كثيرا في بيان صفات العلماء ومقومات شخصيتهم الروحية والمعنوية، فنجد الخشية والخوف والمحبة والصبر وعدم الخوف مما سوى الله والبكاء والهمة العالية والربط بيم العلم والعمل والالتصاق بهموم الناس وغير ذلك من الصفات، غير أن هناك صفة من صفات العلماء والمباستأثرت باهتمام القرآن المجيد وحديثه أكثر من غيرها، إنها صفة الربانية العلماء الربانيون أمل الأمة وضميرها الحي وصف الله تعالى في القرآن الكريم العلماء الربانيين بأوصاف عظيمة ومعان جسيمة تعتبر مقومات كل تغيير واسس كل إصلاح، فمن أوصافهم الثبات على الأمر، والعزيمة على الرشد والصبر على البلاء، قال الله تعالى: «وكأين من نبيء قتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين» آل عمران، قد خبروا الطريق وعلموا بُعد المفازة، فتوصلوا إلى حقيقة مفادها أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن الإنسان بقدر ما يتعنى ينال ما يتمنى، وأن النصر لا يعبر إليه إلا على جسور الصبر واليقين «وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون» قال ابن قيم الجوزية: «قال شيخي قدس الله روحه: «لا تنال الإمامة في الدين إلا بالصبر واليقين» كما وصف الله تعالى العلماء الربانيين أولي النهى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي كُلّفوا بها «لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت..» والمجتمع الذي لا يتواصى أهله بالحق والصبر عليه مجتمع ضعيف يتآكل وتدب فيه دابة الأرض تأكل قوته وعزيمته: «لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون» ووصفهم أيضا بصفات الرهبة وكثرة البكاء والخشية من الله تعالى: « إنما يخشى الله من عباده العلماء» ، ووصفهم بالاطلاع بمهمة البلاغ والتزكية وتعليم الخلق: « ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون» قال البخاري رحمه الله في باب «العلم قول القول والعمل»: « وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كونوا ربانيين أي فقهاء علماء ويقال: «الرباني» الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره» إن حاجة الأمة للعلماء الربنيين أكبر من حاجة الإنسان إلى الطعام، وإن دور العلماء في البناء والتنمية والإصلاح عظيم، لأنهم يتوأون مراكز التوجيه ويتصدرون ساحات البناء، ومن تم فلا بد للمجتمع أن يعتني بهم ومحاضنهم ومؤسسات تكوينهم عناية كبرى, باعتبارهم حراس القيم وأئمة الفضائل، وضمير الأمة الحي، أخذوا أنفسهم بالعزيمة حين تتبع الناس الرخص، فأصبحوا منارات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، ويقتدى بهديهم حين عم الجهل وكثر الغم، أخذوا الكاب بقوة، وتحملوا العبء بعلم، وقاموا بواجب التبليغ بلا وهن ولا توان « الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا». العلماء الربانيون من أعظم واجبهم دلالة الأمة على معالم الطريق ، والعمل على التحسيس بوجوب المحافظة على جذوة القيم وأبعاد الانتماء ومعاني الذات : «لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا» نحو رؤية تأصيلية لإشراك العلماء في ترسيخ القيم إذا أردنا أن نعرّف القِيَم بشكل بسيط وأولي، جاز لنا أن نقول: إنها عبارة عن مفاهيم وتصورات تميز فردا أو جماعة ما، وبعبارة أخرى: هي مجموعة من المعيير والأحكام النابعة من تصورات أساسية عن الحياة والكون تمكن صاحبها من التفاعل بين المواقف والخبرات المتنوعة لاختيار أهداف معينة وتوجهات محددة لحياته وتتفق مع إمكانياته. والقيم الإنسانية «مؤسِّسةٌ» من خلال الأخلاق الموجبة التي تُشيعها بين المتعارفين عليها العاملين على نشر منافعها. كما أنها مؤسسةٌ على معان وأخلاقٍ سادت بين المجتمعات الإنسانية المجبولة على التعارف في دائرة الخير، والأساس في تلك الأخلاق مصدران: 1. الفطرة الإنسانية التي اهتدى إليها الإنسان عن طريق تأييد الإعداد الفطري والعقل الذي بموجبه يفرق الإنسان بين الخير والشر، والمنفعة والمضرة، والحسن والقبح ... إلخ . 2. الوحي السماوي: بشقيه القرآني والنبوي }لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً{(المائدة: (48) تأسيسا على ذلك فإن إسهام علماء الدين في تأسيس القيم والمحافظة عليها وترسيخ حضورها في المجتمع وحمايتها من أي اعتداء، هو من صميم المقاصد الدينية والغايات الشرعية، يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى : «ومقصود الشرع من الخلق خمسة : وهو أن يحفظ عليهم دينهم ، ونفسهم ، وعقلهم ، ونسلهم ، ومالهم . فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة ، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة».( المستصفى: ص: 174)، وقال أيضاً: «وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات ، فهي أقوى المراتب في المصالح» (المستصفى : ص : 174). والملاحظ اليوم أن حضور عالم الدين وخطابه الروح في المجتمعات الإسلامية أصبح ملفتا أكثر ، وأضحت المقاربة الدينية للمواضيع العويصة بمنظار الشرع ومقاصد الدين حاضرة، وأضحى الجمهور الواسع من الناس يتساءل عن موقف الدين من قضايا الدنيا والحياة الشيء الذي يجعل من تأهيل العالم الديني لنفسه والعمل على متابعة الأحداث ومسايرة التغيرات وتحيين الأفكار أمرا لا مفر منه، وقضية في غاية الأهمية في عصر يتطور بسرعة كبيرة، إن استدعاء علماء الديني للإسهام في ترسيخ القيم في العالم المعاصر مدعاته كذلك الفشل الذريع الذي عرفه الفكر اللاديني في إسعاد الإنسان، وإعمار الحياة بعد أن تبنى ردحا من الزمن فكرة انهيار الدين وتساقط عقيدته، ويفسر هذا لجوء كثير من المنظمات الدولية إلى إشراك رجال الدين في المساهمة في إقناع جمهرة الناس بقضايا القيم الإنسانية. والحديث عن دور المؤسسات الدينية في ترسيخ قيم حقوق الإنسان في منظومتنا الإسلامية يدعونا إلى التساؤل عن هذه المؤسسات الدينية التي يمكن لها القيام بهذا الدور الفاعل. وعليه فإن المؤسسة الدينية في بلداننا الإسلامية مطالبة بأن تقول كلمتها في كل الميادين وبلا استثناء، ومن ثم تعمل على المساهمة والمشاركة في تخليق الحياة بكل أبعادها الفكرية وتجلياتها المعرفية وأبعادها التربوية والحقوقية والسياسية والاقتصادية